القضية بين فخ الاستيراد والخصوصية المجتمعية
لم تنحصر المظاهرات والاحتجاجات التي اندلعت عقب مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركية في شهر مايو الماضي على ولاية مينيسوتا فحسب حيث وقعت الحادثة،
لم تنحصر المظاهرات والاحتجاجات التي اندلعت عقب مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركية في شهر مايو الماضي على ولاية مينيسوتا فحسب حيث وقعت الحادثة، ولا حتى على الولايات المتحدة الأميركية، بل امتد صداها إلى مختلف أرجاء العالم.
تعالت الأصوات المناوئة لوحشية جهاز الشرطة والعنف المتولد منه، وتزايدت الخطابات المناهضة للعرقيّة المعاصرة بشتى أشكالها.
وكان لعالم تويتر العربي نصيبٌ من هذه الأصوات والخطابات مثلما كان له نصيب من حركة #MeToo ضد التحرش والاعتداء الجنسيين، التي اندلعت بدعوى العارضة الإيطالية أمبرا قيتيريز ضد هارفي واينستين، ومثلما يشارك الآن في الحراك ضد نتفليكس عطفًا على طريقة طرح المنصة وجنسنتها للفلم الفرنسي «مينيون» (Mignonnes).
كتب العديد حينها عن العرقية الكامنة في عبارات مثل «سود الله وجهك» أو الإشارة للسود بـ«الخوال»، وعن العرقية في الربط بين الجمال مثلًا ولون البشرة الفاتح، أو حتى عن التمييز المؤسساتي ضد السود وحرمانهم من الفرص التي تتأتى لغيرهم.
لكن في خضم كل الجدالات والنقاشات حول تفاصيل وحيثيات العرقية وغيرها من القضايا، يحضر دومًا صوتٌ آخر: هذه قضية مستوردة، ومن العبث تبنيها كما لو أنها تعبر عن واقعنا. بعبارةٍ أخرى، ليست هذه القضية سوى خصوصية غربية، ومن اللغط الخوض فيها كما لو أنها جزءٌ مما نعيشه.
فخ استيراد القضايا
حضر هذا الصوت بشكلٍ مباشر بعد مقتل جورج فلويد وحركة #MeToo وبعض ما تفرع منهما، كما حضر بشكلٍ غير مباشر في الحديث عن ظواهر اجتماعية أخرى كالأدوار الجندرية والعلاقات الاجتماعية وغيرها.
ويُحتجّ بدعوى الاستيراد للتوكيد على أمرين رئيسيين: أولًا، نمتلك خصوصيتنا التي تمايزنا عن الآخر والتي تستوجب قراءة مغايرة لظواهرنا. وثانيًا، يعني استيراد القضية بشكلٍ أو بآخر أنها ليست قضيتنا، أو يعني على أقل تقدير انتفاء جذورها وشروطها.
ليس من السهل تفنيد دعوى استيراد القضايا ولا تفنيد دعوى ارتباط هذه الحراكات بواقعنا. فكلا الجانبين محقٌّ جزئيًا، وهذا ما يجعل البث في الأمر لصالح أيٍّ منهما أمرًا مستحيلًا. لكن السؤال الذي أطرحه هنا لا يتعلق بأي الجانبين أحق، بل عن إمكانية إشارة الاستحالة لخللٍ في نظرتنا للمعضلة من أساسها.
بعبارةٍ أخرى، طالما ارتهن الأمر بالانتصار لأحد الجانبين، فلا مناص من الوقوع في إشكالاتٍ لا حل لها. تنطلق هذه المقالة من واقع استحالة محاولةً البناء عليها وتقديم نظرة توفيقية تنطوي على إمكانية تبني القضايا ونقاشها دون الوقوع في فخ استيرادها؛ ويتطلب ذلك إدراك انزياحٍ نظريٍّ لماهية القضية.
الاستيراد وتجليات القضية
لكن ما معنى استيراد القضية أساسًا؟ أو ما الفرق بين دعوى استيراد قضية ما ودعوى تبنيها؟ لا يكمن الفرق في الاعتراف بوجود القضية (يقر كلا الطرفين بوجودها) ولا في كونها تستوجب المعالجة، بل في الفرق الجوهري في تعريفها وتحديد ماهيّتها بين المطلق أو النسبي، أي بين ما هو كونيّ ضروري وما هو محلي مشروط.
فلنفترض أن هناك قضية نرمز لها بالقضية (س) وأنها موجودة في مجتمعين مختلفين (أ) و(ب). يقول مناصرو تبني القضايا بأن (س) متجلية في كلا المجتمعين، بحيث يصبح تجليها وليد الظروف دون منافاة ماهيتها.
يعني هذا أن تناول تجليات القضية (س) في المجتمعين (أ) أو (ب) مرهونٌ إما بوجودها أو عدمها. فعلى سبيل المثال، وقتما أُقر بوجود ظاهرة مرتبطة بالذكورية في المجتمع (أ)، فإن تناولها جزءٌ من الخطاب المضاد للذكورية أينما وكيفما كانت في المجتمع (أ) و(ب) وحتى (ج)؛ تكتسب القضية ذات الأهمية والمعاني طالما وُجِدتْ. ويؤدي ذلك لاستنتاج أن فكرة الاستيراد لا معنى لها، إذ أن القضية متولدة من عمل منظومةٍ كونية.
في الجانب المقابل، يحتج مناهضو الاستيراد بأن القضية (س) ليست نفسها في المجتمع (أ) و(ب) حتى وإن امتلكت تجلياتها عناصر مشتركة بالمجتمعين. بعبارةٍ أخرى، قد تتألف (س) من عناصر معينة في مكانٍ ما، بينما تتألف من عناصر مختلفة في مكانٍ آخر.
لا بد إذن أن يكون تناولها أصيلًا في كل تجلٍّ لها، ولا يكفي أن يكون العنصر مشتركًا لتبني القضية كما لو أنها هي ذاتها. ففي قضية العرقية مثلًا، يقر مناهضو الاستيراد بوجود تمييز أو ظواهر مرتبطة بفكرة الأعراق، لكنهم يرفضون أن تكون فكرة العرقية كونيّةً أو أنها تستبطن المعاني نفسها عن الأعراق، ولا أن التمييز نفسه قائمٌ في كل مكان.
لا يبدو استيراد القضية هنا إلا إلغاءً للمحلية والظروف المغايرة التي تستوجب طرحًا يأخذ بعين الاعتبار خصوصية ظواهرنا.
القضايا عابرة للحدود
يحتج متبنو القضايا بكون القضايا تشكل جزءًا من عالمنا الآخذ في التكامل أكثر فأكثر، أي أن أصداء التفاعل معها والأخذ فيها نابعان من الثقافة المُعولمة التي ننتمي لها اليوم. ويعني هذا بأن القضايا ليست حصرية على منطقة أو دولة دون أخرى، بل هي كونية تمسنا جميعًا.
ويضيف مناصرو التبني أن القضايا ليست عابرةً للحدود وحسب، بل هي جزءٌ من وجودنا البشريّ ونضالنا الجمعي، مؤكدين على ضرورة المشاركة في الحركات الاجتماعية لأنها تعبر في الأخير عن قضايانا، حتى وإن اندلعت شرارتها خارج أوساطنا المباشرة.
على الجانب الآخر، يستند المناهضون لاستيراد القضايا على حقيقة أن تبنيها بهذا الشكل ليس إلا إمعانًا للخضوع الثقافي وامتدادًا للاستهلاكية كما هي حاضرة عندنا، فتبدو هذه القضايا كونية لأنها مُصدّرة حالها حال السلع الأخرى التي تهيمن على وسائل الإنتاج المادية والثقافية.
فهي جزء من السوق العالمي بتفاوتاته وطبقاته. ويخلص مناهضو استيراد القضايا إلى وجوب الاستغناء عن تعليب القضايا وقراءة ظواهرنا وواقعنا من منطلق خصوصيتنا نحن.
يستثني هذا الاستعراض الوجيز أولئك المنطلقين من مناظير التقدم والتخلف والحضارة والانحطاط وأولئك المنطلقين من أسس جوهرانية. هناك من يستند في مناصرته للقضايا مثلًا على فكرة أن الغرب يعيش مرحلةً حضارية متقدمة علينا بحيث تصبح قضاياه جزءًا من المستقبل الذي سنبلغه يومًا ما، مما يعني أن تبني قضاياهم هو في الأصل نوعٌ من استشراف المستقبل وتجنب مشاكله قبل حدوثها.
وهناك من يستند في مناهضته على وجود جواهر أزلية طبيعية للشعوب بحيث تدور أي قضيةٍ ضمن حدود مرسومة مسبقًا، كمن يدعي أن هناك جوهرًا شرقيّا للمرأة أو الرجل أو جوهرًا ماديًا للغرب. وفي هذه الحالة، لا يكون لاستيراد القضية أي معنى لأنها أصلًا نابعةٌ من جوهرٍ لا ننتمي إليه.
وهم الخصوصية المجتمعية في عصر العولمة
يمكن تبني القضايا دون الوقوع في فخ استيرادها. يرتكز هذا الزعم على فكرةٍ رئيسية: هناك مساحة ضبابية شاسعة بين حدي التبني أو الاستيراد والأصالة المرتبطة بالخصوصية.
فمن جانبٍ أول، لا يمكن تجاهل حقيقة أننا نعيش عصرًا عولميًا بشكلٍ أو بآخر، بغض النظر عن المعاني الإيجابية أو السلبية التي نُسبغها على هذه العولمة. وهذا يعني أننا لا نعيش واقعنا وظواهرنا بمعزلٍ عن واقع وظواهر غيرنا حتى على مستوى الحياة اليومية، بل هو جزءٌ من تشابك وتعقيد ما يتجاوز حيثياتها.
من الضروري إدراك هذا الاتصال والتكامل في سبيل فهم ما نعيشه. وتشكل هذه المقاربة العولمية للظواهر أساسًا لكتاب «الفتاة الحديثة حول العالم: الاستهلاكية والحداثة والعولمة» (The Modern Girl Around the World: Consumption, Modernity, and Globalization)، إذ تسلط مقالات الكتاب الضوء على تشكّل صورة الفتاة العصرية في فترة ما بين الحربين العالميتين في مختلف أرجاء العالم وعلاقة هذا التشكل بأنماط الإنتاج الثقافية في تلك الفترة.
كما تشكل ذات المقاربة منطلقًا لكتاب «الحلاوة والسلطة: مكانة السُكر في التاريخ الحديث» (Sweetness and Power: The Place of Sugar in Modern History)، حيث يتطرق الكاتب سيدني ولفريد مينتز للدور الذي لعبه السُكر في تغيير أنماط الاستهلاك بين الطبقات وطبيعة العلاقات الاجتماعية وغيرها.
ففي سياق المقاربة التكاملية/المقارنة، يرتبط ما يبدو فرديًا بما يتجاوز الفردية المباشرة، مثلما ترتبط الظواهر الاجتماعية بما يتجاوز حدود المجتمع المتخيلة، وتتشكل الظواهر المحلية وفهمنا لها في اتصالٍ مع القضايا التي تتجاوز محليتها. وتُسجّل ماهية القضية الاتصالية هذه لصالح تبني القضايا.
السياقات المجتمعية ووهم جوهرية القضايا
لا بد أيضًا من إدراك وهمية جوهر القضية الذي يحاول تفنيد كل طرح من باب الخصوصية المجتمعية والثقافية وغيرها. فمهما بدت كل قضيةٍ كونية في تجلياتها، فإنها تستوجب أخذ السياقات الاجتماعية بعين الاعتبار في تحليلها، لكن هذا لا يستتبع كون الأدوات التحليلية ولا عناصر القضية حصرية على هذه السياقات.
بعبارةٍ أخرى، لا يقتصر الأمر على تشكل القضايا في اتصالها مع ما يتجاوز المجتمع وحسب، بل يشمل فكرة أن تعريف ماهية القضية ومقاربتنا لها من أساسهما تجاوزٌ للخصوصية. إذ يفترض مناهضو استيراد القضية أحيانًا أن للقضية شكلًا مثاليًّا محددًا، بحيث يصبح تبنيها إما تشويهًا لها أو تحويرًا لسياقاتنا الخاصة.
لكن هذا الافتراض يبطل حينما وضعنا بعين الاعتبار انعدام شكلٍ مثالي مجرد، بل إن هذه التجليات السياقية المختلفة هي ما يُعطي معنى للقضية. فالعلاقة بين المجرد والمادي ليست علاقة هرمية يستأثر فيها الواحد بالآخر، بل هي تفاعل مستمر يصيغ كليهما.
لا يعني ذلك أن استيراد القضايا بلا معنى، بل هناك احتمالية الوقوع حقًا في فخه. يحدث ذلك حين تُشيّأ القضية بعناصرها ومعانيها وأدواتها التحليلية، بحيث تُعامل كما لو أنها نموذج يسقط على واقعنا بغاية تفسيره. بعبارة أخرى، تصبح القضية مستوردةً وقتما افتُرض أن لها جوهرًا وعناصر محددة ومقررة لا تختلف باختلاف الزمان والمكان.
ولعل أغلب الأمثلة على هذا الاستيراد كامنة في أطروحات من يؤمن بالتقدم والتخلف وما أشبهها، إذ تصبح القضايا حينئذ كما لو أنها سلعة مثل غيرها مما لم نصل له بعد، وتطفح نظريات أحدث طرازًا وتفسيرات تجاوزها الغرب.
لكن ما إن نضع بعين الاعتبار انعدام ماهية محددة مستقلةٍ عن تكامل حدود القضية مع القوى الأخرى، فإن من الممكن تناولها دون طرحها كسلعةٍ مستوردةٍ أو إخضاع ثقافتنا الخاصة لمعانيها، كما يصبح من الممكن معالجتها على ضوء راهنيتها بواقعنا.