هل غيرت كورونا نظرتنا للعمالة الأجنبية؟
تسعى دول الخليج لضبط وجود العمالة الأجنبية والأنظمة المتعلقة بها، لكن بعد جائحة كورونا، كيف لنا أن نراجع مفاهيمنا حول تواجدهم؟
فرضت جائحة كورونا العديد من التحديات والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية على حياتنا اليومية. ووضعت بعض القضايا العالقة تحت المجهر، خصوصًا فيما يتعلق بموضوع العمالة الأجنبية التي ارتبطت بدول الخليج العربية.
تعتمد هذه الدول اعتمادًا كبيرًا على الوافدين ذوي الأجور المنخفضة. ومن هنا تنبثق تساؤلات عديدة أهمّها: ما الصعوبات التي واجهت العمالة الوافدة قبل وبعد كورونا؟ وهل تؤدي مغادرتهم لتوطين الوظائف؟ وكيف يحتّم علينا الواقع مراجعة نمط حياتنا غير المستدام اقتصاديًا في زمن ما بعد النفط.
نظرتنا للعمالة
تتباين طريقة الحديث عن العمالة باختلاف النظرة لهم. فيسميهم البعض العمالة الوافدة نظرًا لوجودهم المؤقت. في حين يراهم آخرون عمالة «سائبة» للإشارة لدور الكفيل في إحضار العامل وعدم توفير عمل له. ويستخدم لفظ «هامشية» و«مخالفة» للعمالة غير الماهرة والتي تحصل على قوتها اليومي من العمل غير المنتظم أو المخالف.
وتطلق مفردة «أجنبي» على من يعملون في وظائف متوسطة ومرتفعة من العرب والغربيين. وفي حين يحتدم النقاش عن العمالة وسبل حلّها، لا يزال الكثير منا لا يستغني عن العمالة «المنزلية».
ولذلك قد يغيب عن البعض أن اعتمادنا على العمالة لا ينحصر في فضاء معين، بل أصبح نمط حياة. حيث شكلت المهام المنوطة بهم سلسلة تبدأ في المنزل وتنتهي خارجه. ليصير وجود العامل رفاهية وضرورة بُني عليها الاقتصاد المحلي.
كيف أصبحت العمالة مشكلة؟
بدأ تدفق العمالة في السعودية، كغيرها من دول الخليج العربية، خلال طفرة النفط وما نتج عنها من توسع عمراني وتغير لنمط الحياة. حيث تشكل العمالة الأجنبية الآن حوالي نصف تعداد سكان البحرين وسلطنة عمان، وثلثي سكان الكويت، وقرابة تسعين بالمائة من سكان الإمارات وقطر، وثلث سكان السعودية.
وبما أن حجم السعودية وعدد سكانها أكبر بكثير من باقي دول الخليج العربية، فإن إجمالي عدد الأجانب في السعودية أعلى من غيرها في دول الجوار، حيث وصل إلى ثلاث عشرة مليون أجنبي.
لذلك بدأت السعودية في السنوات الماضية بتقليل عدد الأجانب لجملة من الأسباب، كان أولها محاولة ترحيل العمالة المخالفة، والتي بدأت منذ عام 2013.
وكان من أهم حملاتها «وطن بلا مخالف» التي انطلقت عام 2017، واستطاعت ضبط الكثير من مخالفي نظام الإقامة ونظام العمل ونظام أمن الحدود وترحيل حوالي مليون مخالف حتى عام 2019.
ويتطلب تنفيذ رؤية 2030 توطين عدد أكبر من الوظائف في القطاع الخاص وتقليل نسبة الأجانب فيه، من خلال وضع رسوم على العمالة وتمكين القطاع الخاص لرفع مساهمته في الناتج المحلي في نفس الوقت.
ولكن الجائحة جاءت لتعجل من خروج الأجانب، في ظل استمرار اعتماد القطاع الخاص عليهم وغياب فرص وظيفية كافية وملائمة لاستيعاب المواطنين الباحثين عن فرص عمل.
العمالة والجائحة
وفي ظل جميع هذه الإجراءات لتقليل أعداد العمالة الرخيصة، لا يزال يعيش الكثير منهم في أحياء سكنية مكتظة وغير صحية، مما شكل سببًا رئيسيًا في تفشي الوباء في مساكنهم، وجعل من محاولة الحجر على المرض شبه مستحيلة.
كما زاد التخوف من العمالة بسبب طبيعة بعض وظائفهم التي تقتضي التعامل المباشر معهم في بداية الجائحة. وساهم في ذلك أيضًا الإفصاح عن أعداد الحالات بين العمالة خلال المؤتمر الصحفي اليومي لوزارة الصحة، والذي أوضح تفشي الوباء بين العمالة في نسبة تخطت ثمانين بالمائة من إجمالي الحالات لأيام متتابعة.
وقد يكون للجائحة أثرٌ إيجابيٌ في تسليط الضوء على وضع العمالة الوافدة. حيث نقلت عدسات الكاميرا ووثقت الوضع السكني لهم خلال رحلات المسح النشط، والذي أخذت المشاهد لأحياء وأدخلته عمائر لم يفكر قط في دخولها أو الوقوف على أوضاع ساكنيها من قبل.
مسؤولية من؟
إن تبعات جائحة كورونا على القطاع الصحي والحاجة لتوفير سكن ملائم للتخفيف من الازدحام بين العمالة، فتح باب النقاش على غياب دور الكفيل في تحمل هذه المسؤولية.
ولم تتفشّ هذه الظاهرة في السعودية فقط بل في كل دول الخليج العربية، حيث أشار البعض إلى غياب دور الكفيل في تتبع أوضاع عمالته من الناحية السكنية والصحية. وإن إقحام الدولة في هذا الجانب ما هو إلا تضييع لجهودها وتبديد لثرواتها في أمور كان على الكفيل توفيرها.
في حين حمّل آخرون المسؤولية على الدول التي تأتي منها العمالة، وأنها تستهين بهم في بعض الأحيان، وتتقاعس في إرجاعهم لضمان استمرار الحوالات. فهي بذلك شريك في تدهور أوضاعهم. وبذلك يقع على العامل مسؤولية إخفاق بلده تجاهه، فيصبح تحت عبء مضاعف لم يكن هو طرفًا فيه.
كما أن غياب الوعي المجتمعي عن المسؤوليات التي تقع على عاتق الفرد تجاه العمالة والتساهل معهم، وغياب آلية شاملة تضمن حاجتهم وتحتم على الكفيل توفيرها لهم، يضع الكثير من العمالة في نقطة عمياء، تجعل البعض منهم بعيدًا عن مرأى المجتمع والجهات المختصة. ليخلق ذلك فجوة بين العامل ومحيطه في البلد الذي يعمل فيه.
تغيير النسيج الاجتماعي
ولا يعدُّ تواجد العمالة بهذه الأعداد خارج المنزل إلا امتدادًا للحاجة لهم داخله. حيث صار الاعتماد على العمالة الأجنبية جزءًا من حياتنا ونسيجنا الاجتماعي.
فالغني وميسور الحال وأحيانًا حتى من هم من ذوي الدخل المنخفض يستقدمون العمالة المنزلية، لوجود ثقافة مجتمعية تشعر الفرد بعجزٍ في غيابهم. كما أن سهولة استقدامهم جعلهم في متناول الجميع، حيث أصدرت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية خمسمائة ألف تأشيرة للعمالة المنزلية العام الماضي.
وساهم وجود العمالة الأجنبية في كافة محاور الحياة في تشكيل نظرة تجاههم؛ نظرةٌ مسبقة صارت جزءًا من فهمنا لهذا «الآخر» الذي -ورغم عيشه بيننا- لا يزال يقف خلف حاجز ثقافي واجتماعي ولغوي.
كما ساهمت هذه النظرة في معاملة العامل على أنه «بسيط»، فقد يعتقد كفيله بأن توفير الحد الأدنى من احتياجاته يتلائم مع طبيعة حياته البسيطة في بلده. وقد يحول هذا التصور بينه وبين حصوله على حياة أفضل يستطيع الكفيل بسهولة توفيرها له.
في الآونة الأخيرة، بدأ البعض الاستعانة بعمالة منزلية محددة بفترة زمنية معينة. وهذا تحولٌ مهم قد يقلل من اعتماد الأسر على العمالة وخصوصًا الأطفال حتى لا تستمر ثقافة الاتكال.
كما أن عدم تواجد العمالة المنزلية بشكل دائم يحفز الفرد على القيام بأعمال أكثر في المنزل، ويرفع مستوى الوعي تجاه العمالة سواء في المنزل أو خارجه. فالعمالة المنزلية المؤقتة ظاهرة قد تكاد تكون طبيعية في الكثير من دول العالم بخلاف العمالة الدائمة التي تعيش لسنوات مع العوائل المستقدمة.
توطين الوظائف
توقعت دراسة أجرتها شركة جدوى للاستثمار خروج أكثر من مليون عامل من السعودية قبل انتهاء السنة الميلادية، والتي رأى البعض أنها ستساعد في توظيف العاطلين عن العمل.
ولكن هذا الاستنتاج لا يعطي نظرة حقيقية للواقع، حيث يعمل أكثر من خمسين بالمائة من العمالة في قطاع التشييد، ويتقاضون أقل من ثلاثة آلاف ريال شهريًا، وهذه بطبيعة الحال وظائف لا تناسب المواطن.
ففي عام 2018، وبعد بدء حملة «وطن بلا مخالف»، غادر العديد من العمالة من ذوي الدخل المنخفض والمهارات المحدودة، فلم يساهم ذلك في توظيف المواطنين الباحثين عن عمل أو من تخرج حديثًا من الجامعة. في حين لا يزال حوالي خمسون بالمائة من الوظائف التي يتجاوز راتبها عشرة الآف ريال لغير السعوديين، والتي حتى وإن وُطّنت لن توفر وظائف كافية لحل مشكلة البطالة.
كما سيبقى العديد من السعوديين بتخصصات قد لا تلائم متطلبات سوق العمل. ولذلك فإن السعودة لا تعتمد بالضرورة على استبدال الأجنبي بالمواطن، بل تكمن الحاجة في خلق وظائف ملائمة لهم.
لذلك فإن الجهل بعوائق التوطين والتحديات التي تواجه خلق وظائف ملائمة للخريجين والعاطلين، يجعل البعض ينظر إلى العامل الأجنبي على أنه السبب في حرمانه وغيره من الوظيفة التي هي الأجدر للمواطن، ومنه يقل التعاطف مع الأجنبي وينعكس ذلك في التعامل معه.
كما أن استقطاب العمالة الأجنبية لا يزال قائمًا، حيث جرى تعيين أول ملحق عمالي للمملكة العربية السعودية لدى جمهورية الفلبين لضمان ملاءمة العمالة المستقدمة لسوق العمل السعودي، وهي الخطوة الأولى التي تقوم بها السعودية وتستهدف أيضًا بلدانًا أخرى مثل مصر والهند وإندونيسيا وباكستان وبنقلاديش وسريلانكا.
مراجعة المفاهيم
إن الحاجة للعمالة ضرورة في الكثير من دول العالم. ولذلك فهي تشكل تحديات عدة قد تؤدي إلى قرارات غير متوقعة مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي والذي كان أحد أسبابه كثرة العمالة الرخيصة من شرق أوربا.
إذ لا تزال العمالة الأجنبية في أوربا وخصوصًا في قطاعي التشييد والزراعة حاضرة وبقوة، مما قد يُوقع بعضهم في خلافات مع صاحب العمل.
لذلك تعمل بعض المنظمات الإنسانية على حل هذه الإشكالات عن طريق تقديم المشورة للعامل وتعريفه بحقوقه ومحاولة معالجة الخلاف مع صاحب العمل. وفي حال لم تدفع له رواتبه تحرص هذه المنظمات على توفير المساعدة القانونية لنيل العامل حقه.
ولكن ما يميز دول الخليج العربية عن غيرها هو عدد العمالة المرتفع للغاية، وخصوصًا تلك الرخيصة مقارنة بباقي دول العالم. ومع محاولة تقليل عدد العمالة، لا يزال وجودهم مهمًا في الكثير من المجالات، وخصوصًا تلك المرتبطة بقطاع التشييد.
لذلك يحتّم إقبال السعودية على مشاريع إنشائية عدة توفير سكن خاص للعمال يتلاءم مع احتياجاتهم الأساسية كخطوة أولى لحل مشكل السكن غير اللائق.
ففي المدينة مثلًا، بدأ إنشاء ما يسمى بالإسكان النموذجي للعمالة في المشاريع الجاري تنفيذها في المدينة المنورة، والتي صُممت خصيصًا لتضمن للعامل السكن المريح وتحد من انتشار الأوبئة.
من الجانب الآخر، قد يصعب تغيير السلوكيات الفردية تجاه العمالة بسبب سنواتٍ من تراكم المعتقدات والآراء التي رسخت نظرة دونية تجاههم.
ولذلك، يبقى من المهم محاولة إعادة النظر في مفهوم العمالة وعلاقتنا معهم، وأهمية تحسين أوضاعهم في ظل إجراءات التقشف والتنوع الاقتصادي، ليعكس هذا التحول تغييرًا صحيًا ومستدامًا لنمط الحياة في المنزل وخارجه.