خضرا والمجذوب، الحكاية الشعبية والمقاومة
في رواية «خضرا والمجذوب» للكاتب المغربي عبد المالك المومني، تنطلق المقاومة من استنطاق التراث الشعبي لمنطقة الرقادة الواقعة شرق المغرب...
في رواية «خضرا والمجذوب» للكاتب المغربي عبد المالك المومني، تنطلق المقاومة من استنطاق التراث الشعبي لمنطقة الرقادة الواقعة شرق المغرب. إذ تدور أحداثها حول شخصٍ يعود لمدينته بعد غياب، بغرض التحضير لمشروع حماية تراثها المادي والشفهي وأرشفته؛ متحديًا بذلك العراقيل السياسية والاقتصادية التي تحاول هدم هذا التراث.
ويناقض هذا التصور السائد للتراث الشعبي، باعتباره تراثًا يمارسُ عنفًا وإقصاءً على فئات اجتماعية معينة، ويخدم توجهات ومصالح بضعة أفراد في المجتمع على حساب آخرين.
ينجح المومني في قلب هذه المعادلة، فيراجع الثقافة الشعبية للرقادة، محاولًا تسليط الضوء على ما تآكل منها جرّاء الإهمال والتحريف الذي تعرضت له عبر سيرورة تاريخية طويلة. ويعلن منذ بداية الرواية أن تراث هذه المنطقة برفوف ذاكرته، ينتظر أن يُنفض وينشر. وما كتبه ليس إلا بضعة أوراق.
ويحيل عنوان «خضرا والمجذوب» بشكل مباشر على الحكاية الشعبية العربية «ليلى والمجنون»، كإعلان عن العلاقة القوية التي تجمع المجذوب بخضرا، والتي تشبه علاقة المجنون بليلى، وتتقاطع معها.
فإذا كان الحب العذري هو ما جمع ليلى بالمجنون، وكان المجنون هو من جعلها مضمون شعره -إضافة إلى فراقهما وزواج ليلى من تاجرٍ، كما ذكرت بعض الروايات- فإن المجذوب هو الآخر هيمانٌ بخضرا، وضمّنها في كتاباته الأدبية.
كما أن خضرا ملاذ المجذوب هي الأخرى. إذ استولى عليها التاجر المتمثل في المهندس بنعيسى ومهندس الماء المقاول. إلا أن خضرا في هذه الرواية تنفتح على دلالات عديدة، تمتد لتكتسي دلالة الأرض الخضراء التي تعد في المخيال الشعبي من الأشياء المقدسة، نظرًا للزخم الرمزي الذي تختزنه هذه المفردة. فالاستيلاء عليها إذن، أو مجرد مسّها يؤدي لا محالة إلى مقاومة شرسة من أصحابها، والمتمثلة أساسًا في السارد الملقب باللقلاق، رمز المنطقة.
الحكاية كآلية من آليات المقاومة
بعد الولوج إلى المتن الروائي، نجد أنفسنا أمام بطلة في الحكاية الشعبية بدل بطل. ليس هذا فقط، بل إن هذه الحكاية يحكيها رجل بدل امرأة، وهذا ما لم نتعود عليه، إذ يرتبط سرد الحكايات والقصص ارتبطًا كبيرًا بالمرأة والمجانين في المخيال الشعبي. وهذا ما يؤكده السارد الذي يحكي الحكاية، حيث سمعها من نساء القرية ومجانينها.
فانخرط هو الآخر في هذه السيرورة، سيرورة الحكي، على غير العادة والمألوف، متحديًا بذلك العُرف الاجتماعي وارتياب الآخرين منه ومقاومتهم، ومؤكدًا على أن الحكاية هي التاريخ الشفهي للشعوب التي لم تولها كتب التاريخ الاهتمام الكافي.
إذ تتخذ الحكاية دور المدافع عن الفئات الاجتماعية الهشة، فهي المحافظة على «للّا خضرا» في الذاكرة الجمعية، تلك المرأة الصالحة التي يحكي عنها السارد، والتي تحرص الأمهات على نقلها لأبنائهن.
الحكاية المقاومة للعنف
تقترن المرأة في الرواية عند العامة بالمجانين. إذ يُعدّان معًا الفئة الأكثر دونية في محيطهم. كما يقتسمان العديد من القواسم المشتركة، ويبقى أبرزها العالم الغيبي والسحري الذي تستقي منه هذه الفئة، والذي يُبرِز بشكل جلي النسق الثقافي للمجتمع.
فتعد هذه العوالم الماورائية الشعبية ردات فعل لهذه الفئة، أو بعبارة أخرى أفعال مقاومة ضد ما يُمارس عليها. فتجد المرأة في الحكاية وتفسير الأحلام والغناء وغيرها الطريقة المثلى لتربية الطفل والتأثير فيه لتمرير قيم وتصورات معينة. يعي الشيوخ هذه المسألة مليًّا، حتى جاء في الرواية: «ولم نحس إلا وثلاثة شيوخ يجرون نحونا وفي يد أحدهم هراوة ويصيح: ما بقى غير الدلالة الهاملة تربي أولادنا وبْناتنا!».
هكذا إذن تتخذ المرأة الحكاية كأسلوب تربوي مقابل أسلوب الهراوة عند الرجل، التي لا تحيل إلا على العنف الجسدي مقابل الحكاية ليس باعتبارها مقاومة لهذا العنف فقط، بل ومنتصرة عليه رمزيًا. حيث يختار الأطفال الدلالة ويقفون في صفها، ويتأثرون بالحكاية.
ويعترف الطفل/السارد بسلطة الحكاية عليه، بل ويمارسها فيما بعد، فالحكاية مصدرها الخيال والحلم، وهما حسب السارد مصدر لتغيير العالم. فيقول: «العالم لا يعمره ولم يغيّره إلى الأفضل إلا الحالمون!».يتضح جليًّا إذن ارتباط الحكاية بتغير العالم إلى الأفضل، أو بعبارة أخرى، كآلية من آليات مقاومة المدنّس؛ كونها تعيد صياغة العالم وتضفي المعنى على اللامعنى.
الحكاية المقاومة للإقصاء الاجتماعي
وإذا اقترن الجنون أساسًا بالداء، وأن أفعاله لا تؤخذ بمحمل الجد؛ فمن خلال الرواية يتسم المجنون (أو الكوال المجذوب أو البوهالي، وكلها عبارات تصف المجنون) بالقدرة التنبؤية التي يمتاز بها والتي يخشى منها العامة. كما يُعدّ كاشف المستور الذي تسترت عليه الجماعة.
ويتخذ المجنون أو الكوال هو الآخر من الحكاية آلية لمقاومة النسق التصوري للأفراد، وبشكل عام مقاومة نسق اجتماعي متشدد، وهو النسق الذي يمعن في إسكاته. مما يكشف ضمنيًا مدى خوفه من أقوال هذا المجنون.
كما أن الجنون وصمة تُستعمل بغية الإقصاء الاجتماعي، أي لإسقاط الشرعية عن أحكامه التي غالبًا ما تكون قاسية. فيتحول خطابه من خطاب توجيهي تنبيهيّ إلى هلوسات، يقول الكوال: «ولو باسم الله! وذكروه لى العين تجري وتفيض وعمرها ما تغيض… يا ويل من لا يذكر! يا ويل من لا يشكر! يجي وقت ترفع البركة ويعم الشر! أنا أخبرتكم أنا علمتكم! –وكانوا ينهرونه ويبعدونه.»
قاوم الكوّال الإقصاء الاجتماعي بالحكاية الشعبية التي جعلته هو و«خضرا» مقبولين اجتماعيًا عند العديد من الأفراد، ومؤثرين في محيطهم. فاستخدمت الحكاية الشعبية إذن لمقاومة بنية ثقافية ورمزية متجذرة في المجتمع بتحولاتها، تكرس الإقصاء والعنف الرمزي.
الذاكرة الشعبية وسلطة المستعمر
يحظى طائر اللقلاق -وهو سارد الرواية الفخور- باحترام شديد في الثقافة الشعبية. إذ يرتبط في المخيال الشعبي بالقاضي، ويقال أن أصله كذلك، وبالحاج، باعتباره يحج كل سنة إلى الديار المقدسة؛ ويرادف في الحلم معنى المسافر العائد والخير والزهد. ويحيلنا اللقلاق أساسًا إلى الترحال. إذ يتبع ظروف العيش الملائمة ولا يعود لعشه إلا إذا توفرت، فهو رمزٌ للبركة بالتعبير الشعبي.
ويحاول اللقلاق السارد في الرواية جليًا العودة إلى مسكن والده القديم، ليتخذه عشًا، لكنه يفشل في ذلك. فيسافر تحت وطأة الظروف، لكنه يعود في كل مرة رغم كل التحديات التي يواجهها. لا يفتأ أن يتنقل من مكان لمكان، وفي كل مرة يحاول العودة لوطنه والاستقرار به، تواجهه ظروف غير طبيعية. ورغم ذلك، يتوضح في غير ما موضعٍ، إصراره وعناده على العودة إلى عشه ومقاومة كل الظروف.
فيجعلنا وجود اللقلاق السارد في الرواية المسافر خارج أرضه، والمحب لها ولأهلها نبحث عن شخصية ثانية تقطن بهذه الأرض وتضمر لها الشر. ويتمثل ذلك في شخصية «بنعيسى» والمقاول اللذين خربا الأرض وعبثا بتراثها ولا يمثل بنعيسى سوى بنية المجتمع السياسية والقائمة على الأعيان الذين يعيثون فسادًا، وهي بنية وليدة الاستعمار ووفية له.
ويكفي الوقوف عند مربيه المعمِّرْ «مورلو» وما يحيله هذا الاسم من رمزية في الرواية. بل حين يتحدث السارد باللغة العربية الفصحى والدارجة المحلية غارفًا من القاموس العلمي والشعبي، نصطدم بـ«بنعيسى» المتحدث باللغة الفرنسية، بأسلوب محتال وتهكميٍّ وساخر، همه الأساسي الربح المادي.
مما دفع السارد لينفعل قائلًا «الربح، والربح العاجل، والمال السهل، مقابل الفقر والقفر»، مضيفًا:
«الناعسة يا سيدي تاريخ. عين شيد الرومان أو أهملها منصتها الحجرية، والقصبة تاريخ عريق، وكانت شاهدة في العصر الحديث على مساعدة قبائل بني يزنناسن للأمير عبد القادر الجزائري، والذي حل بها، ونظم مقاومته للفرنسيين بها. كل هؤلاء مروا من هنا. أتريدون أن ندمر كل هذا، كما دمره المعمر مورلو والمؤسسات المالية الدولية، الذين أوصوا ببناء المدينة القرية الحديثة؟»
بين اللقلاق و«للّا خضرا»
هكذا إذن، ينتصر السارد للإنسان مقابل اختيار السياسي للمال والمشاريع الاقتصادية. وإن هدد السياسي الآثار المادية للمنطقة بالزوال، فإن الأغاني والحكايات وكل ما يشكل الذاكرة الشعبية ينفلت من هذه العملية؛ عملية المحو، بل يزيد توهجًا ومقاومة.
الشيء الذي عبر عنه المومني بلغة رمزية في آخر الرواية، فتتّحد للّا خضرا بالسارد، ويخرجان من البئر ليتجاوزا ما وراء النجوم. إنها دلالة على الانفلات من ضيق المحليّ وحصره نحو فضاء أرحَب، ألا وهو الكونية المتمثلة في ما وراء النجوم.
لم تأت مقاومة السارد لشخصية بنعسيى كممثل للبنية السياسية القائمة لدى الأعيان من فراغ، بل من تشربه للتراث الشعبي الذي سكنه، والذي تحول إلى مرجعية للسارد في حياته اليومية. وتذكرنا رمزية المقاومة بللّا خضرا وجودِها وكرمها، ليعم السلم والأمان المنطقة إلى أن لقيت حتفها بأوامر من السلطان، مخافة أن تنافسه السلطة التي كانت بمنأى عنها. فتحولت بعد ذلك إلى «ولية نقية بيضا وروحانية نورانية» تزور النائمين في الحلم.
على هذا الشكل، وأمام هذه البنية، تُقاوم خضرا واللقلاق مقاومة هادئة بوسائلهما المتلخصة في الحلم، فتظهر للّا خضرا في الأحلام، ويحلم السارد ويحاول تحقيق أحلامه.
الرواية كأداة مقاومة لحفظ التراث
تكمن ميزة رواية «خضرا والمجذوب» في رصيدها الإثنوغرافي. حيث اشتغل المومني في روايته على العديد من مظاهر الحياة القروية، وما تتضمنها هذه الحياة من نمط عيش وعادات وتصورات وطقوس واحتفالات، إضافة إلى رؤى وأحلام وأشعار.
وجاء اشتغاله موازيًا لاشتغال الإثنوغرافي إن صح القول. إلا أنه استغنى عن صرامة النظرية الإثنوغرافية وما تتطلبه من قيود، وآثر خيال المبدع الجامح، مستحضرًا علاقة الأفراد بتاريخهم، ومحددًا الهموم الفردية، وبالتحديد تلك التي عانى منها السارد في علاقته بالنسق الثقافي والسياسي والاجتماعي لمجتمعه. مما يحدون لعدّ السارد مقاومًا في هذا المجتمع.
وإن كانت المقاومة تحيلنا بالدرجة الأولى إلى تجربة الحرب والثورة دلالة على الصراع والنزاع ضد الآخر العدو، فالمقاومة في «خضرا والمجذوب» مقاومة من نوع آخر؛ مقاومة النسيان والنفي والإقصاء الرمزي وبالتالي مقاومة الموت التي لا تتم إلا عبر مقاومة ثقافية، قد تؤدي بشكل أو بآخر إلى مقاومة سياسية أيضًا.
وهو ما حاول المومني التعبير عنه لا في هذه الرواية فقط، بل من خلال تجربته الروائية بشكل عام، التي امتدت منذ 1996 حين نشر روايته الأولى «الجناح الهيمان بنبع ركادة الوسنان».
حيث استطاع في هذه الرواية أن يحفظ بعض معالم الذاكرة الشعبية، وما تختزنه من ثروة رمزية وتاريخية وثقافية واجتماعية، مشيرًا إلى قيمها المتمثلة في مقاومة الشرور والفقر والظلم. إنها مقاومة المدنس الذي يتخذ شكل سلوكيات تارةً، ويتجلى على هيئة أفراد تارةً أخرى.
ولا يمكن وصف هذه الإرادة القوية في الحفاظ على التراث -والمتمثلة في إقامة مشروع التوثيق- إلا بنفحة أمل، إذ يغدو تحقيق هذه الرغبة ركيزة أساسية للحفاظ على الماضي والحاضر لبناء المستقبل.