لماذا يتعسّر على المعجم العربي قبول التطورات الدلالية؟

المعجم العربي ذاكرة اللغة ووعاء مفرداتها، حكمه معيار صارم كان حاميًا للغة من الوشائح الثقافية والسياسية والاقتصادية. ولكن مشكلة المعجم العربي الحديث تكمن في صعوبة دخول المفردات الجديدة، وعدم تسجيل التطورات الدلالية تسجيلًا سريعًا.

عندما تفتح معجمًا عربيًّا قديمًا، وتبحث عن تعريف الهاتف فستجد هذا التعريف: «إذا كنت تسمع الصوت ولا تُبْصِر أحدًا»، وإذا تلمَّست معنى السيارة في المعجم ألفيتها تعني «القافلة» من الإبل، وإذا بحثت عن القِطَار لوجدت أنه يعني «الإبل تُقْطَر على نسق واحد» في القافلة.

ولكن في أيامنا هذه، مهما بلغ الفرد العربيّ من الثقافة والتعليم، لن ينصرف ذهنه إلى هذه المعاني حينما يسمع هذه الكلمات أو يقرأها. ولا تثريب عليه في هذا، إذ أنها معانٍ مهجورة، تجاوزتها -على سبيل المجاز- قوافل الزمان. 

تقييد المفردات

المعجم ذاكرة اللغة ووعاء مفرداتها. واحتاجت العرب إلى المعاجم حين ترقَّت في حضارتها وثقافتها، وصارت أمةً مستقرةً تقرأ وتكتب، ولم تقتصر أخبارها على السماع والمشافهة، وتوسّعت في المعارف والعلوم والتأليف، على نحو لم يعد ممكنًا فيه أن يحيط امرؤ بكلِّ مفردات اللغة. وفي عصر التدوين وحركة الترجمة، تكاثرت المفردات وتشعّبت، فاحتيج إلى تقييد المفردات المتداولة، خصوصًا المهمة منها، كالتي من القرآن والحديث والشعر والنثر. 

ويزعم علماء اللغة المتقدمون أن ما وصلنا من كلام العرب قبل الإسلام -وهم المصدر المُعتمد في قواعد اللغة ومفرداتها- نزر قليل. ويقول ابن الفارس في كتاب الصحابي في فقه اللغة: «ذهب علماؤنا أو أكثرهم إلى أنَّ الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل، ولو جاءنا جميعُ ما قالوه لجاءنا شعر كثير وكلام كثير.»

وأما التوسُّع في الأخذ بقواعد اللغة ومفرداتها، فيقول آخر: «من عرف كلام العرب لم يكد يُلحِّن أحدًا». ولكن عندما مستَّ الحاجة إلى تقعيد اللغة تقعيدًا قياسيًّا (Normative)، جعلوا مدار الاحتجاج في قبائل بعينها، تُنْسب إلى الفصاحة.

يقول أحد العلماء: «والذين عنهم نُقِلَت اللغة العربية، وبهم اقتُدِي، وعنهم أُخِذَ اللسانُ العربي، من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد، فهؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخِذ ومعظمه، وعليهم اتُّكِل في الغريب وفي الإعراب والتصريف»، لأن هذه القبائل كانت بعيدةً عن المؤثِّرات اللغوية الخارجية.

النقاء اللغوي

أما غيرها من القبائل فلم تُؤخذ منها اللغة بسبب اتصالها بألسنٍ أخرى تُفسد النقاء اللغوي؛ فقبائل شمال الجزيرة العربية كانت محاذية للروم واليونان، وقبائل جنوب الجزيرة كانت مخالطة لأهل الحبشة والهند، والقبائل الشرقية متصلة بالفرس والهنود، وقبائل شمال الغرب مجاورة للقِبط.

وهذا معيار صارم، وما كان يمكن الحفاظ عليه إزاء الوشائج الثقافية والسياسية والاقتصادية، يوم صار للعرب دولة موحدة تمتد حدودها من الصين إلى إسبانيا ومن اليونان إلى الحبشة، ودخل فيها من لا يتحدث العربية، وامتدت الصلات بالحضارات القديمة، فاستوردوا منها الآلات والمفاهيم والمسميات.

كما أن هذا المعيار لا يتوافق مع ما نعرفه عن مصادر الفصاحة واللغة العربية التي قررها العلماء المتقدمون كالشعر الجاهلي والقرآن، فكلا المصدرين حافل بالدخيل والمُعرَّب، وهذا لا يقدح فيهما. ففي الشعر الجاهلي كلمة «قنطرة»، وأصلها يوناني (Kentron). وفي القرآن كلمتا «صراط» و«قسطاس»، وهي كلمات لاتينية، الأولى أصلها (Strata) أي الطريق المُمهد، والثانية أصلها (Iustus) أي الميزان أو العدل.

ولكن مشكلة المعجم العربي الحديث تكمن في صعوبة دخول المفردات الجديدة، وعدم تسجيل التطورات الدلالية تسجيلًا سريعًا. فلأجل الحفاظ على نقاء اللغة وفصاحتها من الشوائب الأجنبية والعُجْمَة، وخوفًا من اندثار المعرفة بالآداب العربية القديمة واندراسها، يعمد اللغويون والمعجميون إلى تلحين الكلمات والمعاني المولّدة والمُستحدثة.

وهذا لخشيتهم أن يحدث انزياح دلالي من الضخامة، بحيث يجعل اللغة العربية التي نتحدث ونكتب بها اليوم -والتي سنتحدث ونكتب بها غدًا- تبدو منقطعة الصلة باللغة العربية القديمة التي جاء بها القرآن والآداب العربية، ومن ثمَّ يغدو العربي مُنبتًّا عنها.

وهذا ما جرى على لغات كالإنقليزية، حتى وصل الحال بمتحدثيها اليوم ألَّا يفهموا كلام شكسبير وأهل عصره إلا بعسر. دع عنك الإنقليزية الوسيطة والقديمة التي ما عاد يُفقه شيئًا فيها، كأنما هي لغات أجنبية باختلافها في الإملاء والنطق والمعنى، بل أيضًا في النحو.

مرونة المعجم الإنقليزي 

ولكن كما قررنا، يعتري اللغة ما يعتري الكائن الحي في  التغيُّر والتحوُّل، ولا يمكن الحيلولة دون هذا. وفي الوقت نفسه لا يمكن ترك الحبل على الغارب، إذ يلزم توفر ضوابط تحكم التغيُّر في اللغة. 

ومقارنة بحال المعاجم العربية، نرى أشهر معجم للغة الإنقليزية معجم أوكسفورد، الذي يخضع إلى تحديث رُبع سنوي، تُضاف فيه جديد الكلمات والمعاني. وحتى تضاف كلمة أو معنى جديد، توضع في قائمة مراقبة إلى حين أن تُثبِت الكلمة أو يُثْبت المعنى نفسه في الاستخدام.

وحينها تُحال إلى مُحرِّرٍ يرصد الاستخدامات المختلفة لهذه المفردة أو لهذا المعنى ليدرس تطوره. وتقوده هذه الدراسة إلى البحث في الصحف والدوريات والمنتديات الإلكترونية والدراسات الأكاديمية والكُتُب المنشورة ووسائل التواصل الاجتماعي، تلمُّسًا لأدلة مكتوبة على الكلمة.

وما إن تكتمل لديه الصورة، يبدأ في تسويد مُدخلٍ في المُعجم، وتمر المسوَّدة عبر عدة فِرَق مكونة من علماء لغة من شتى الاختصاصات، حتى تُعتمد في النسخة الجديدة من المعجم. وهكذا نرى مرونة المعجم الإنقليزي وسرعته في الاستجابة لتطورات اللغة.

وقد يكون هذا بسبب البون الكبير بين الإنقليزية الفصحى والإنقليزية العامية، مقارنةً باللغة العربية المعيارية الحديثة المستخدمة في المخاطبة الرسمية والبحث والتأليف والعامية. ويجعل الفرق الكبير بين هذين المستويين اللغويين من المستحيل إلى حد ما انتقال كلمة عامية مُستحدثة إلى مجال العربية المعيارية الحديثة. 

الدلالات اللغوية وجمود المعجم 

في السنوات القليلة الماضية في السعودية، استُحدِث فعل جديد مُشتق من اسم علم. فنتيجة مباراة كرة قدم بين قطبي العاصمة، صارت الجماهير تستخدم كلمةً جديدةً في المجال الكروي، وتوسع مدلول الكلمة لتشمل مناحٍ مختلفة من الحياة. وهي ليست بالجديدة من حيث المبنى إنما من حيث المعنى. 

والكلمة هي «جَحْفَلة»، نسبةً إلى اللاعب محمد جحفلي، إذ سجّل هدفًا في الدقيقة الأخيرة من المباراة في مرمى الخصم مُحطِّمًا آماله بتحقيق كأس البطولة. وصارت الناس تستخدم كلمة «جحفلة» للدلالة على قتل الآمال في اللحظات الأخيرة.

وفي المعاجم العربية القديمة، جاءت مادة «جَحْفَل» بمعنى: الجيش. ويوصف الرجل بـ«الجحفل»: أي عظيم القدر. والفعل «جحفله»: أي صرعه ورماه. و«تجحفل» القوم: أي اجتمعوا. وفي الاستخدام العسكري الحديث، يُسمى التشكيل المكوَّن من عدة وحدات تعمل في مسرح عمليات واحد: «جحفل معركة» (Battle Group).

ولو كنا نملك معجمًا سريع الاستجابة، لضمَّن معنى «تخييب الآمال في اللحظات الأخيرة» إلى معاني هذه المُفردة. وغير هذا كثير من المعاني والألفاظ المُولَّدة.

تأريخ المعجم 

كما يعاني المعجم العربي من مشكلة ثانية وهي افتقاره إلى مُعجم تاريخي (توجد محاولات لم تكتمل بعد)، يتتبع التطورات الدلالية التي تعتور المفردات ويتقصص أصول الكلمات وفق منهجية علمية موثَّقة. وينبغي أن يسترشد هذا البحث بعلم أصول الكلمات أو التأثيل .

فقد كان اللغويون القدماء يشيرون إشارات عابرة إلى أصول الكلمات التي يشرحونها، لكن دونما تأصيل أو استشهاد علمي يدعم زعمهم. كما أن بعض المعجميين صنفوا كتبًا في المُعرَّب والدخيل، لكنها لم تبلغ الغاية في الاستقصاء.

إذ يتطلَّب هذا معرفة باللغات السامية واللغات الهندوأوروبية على السواء، حصرًا للشواهد اللغوية ووفق منهجية علمية تتبع انتقال المفردة من لغة إلى أخرى إما انتقالًا مباشرًا أو عبر لغة وسيطة. 

وعودة إلى أمثلتنا في الهاتف والسيارة والقطار، ننتبه لطروء تغير دلالي يكاد يأتي على المعاني الأولى، حتى صارت هذه المعاني في باب الغريب والمهجور. ولو علمنا عن أصول الكلمات العربية الدخيلة، لتوصّلنا إلى صلات القرابة التي تربطها -على سبيل المثال- بكلمات إنقليزية مستعملة اليوم، وعلمنا أن صراط وكلمة شارع بالإنقليزية (Street) من نسل لاتيني هو (Strata)، وأن قسطاس والعدالة  بالإنقليزية (Justice) هما من سلالة (Iustus).

ولما كنت أعمل في ترجمة إحدى الكتب، بعنوان: (Justice) الذي صدر بعنوان: «العدالة: ما الجدير أن يُعْمَلَ به؟»، خطر لي أن أترجم العنوان بـ«القسطاس»، أخذًا بهذه الصلة الطريفة بين هاتين المفردتين على بُعد المسافة بينهما، ولكنني أحجمت عن هذا لندرة اطّلاع الناس بهذه الوشيجة، وآثرت الترجمة السائرة. 

وبتلافي هاتين المسألتين، يمكن للمعجم العربي أن يجاري نظرائه في اللغات المعاصرة، ويتمكن من الإيفاء باحتياجات مُتحدثي العربية والقيام بآدابها وعلومها أحسن قيام. 

الترجمةالجزيرة العربيةاللسانياتاللغة العربيةالثقافة
مقالات حرةمقالات حرة