الرفاه بين مصارع حقب المال الورقي

إن كانت الوفرة المالية دليلًا على رفاه الفرد كيف يمكن للزيادة في الوفرة المالية أن تنعكس في صعوبة نيله لسلع أو خدمات اعتاد اقتنائها قبل تلك الوفرة؟

اقترن مفهوم الرفاه في توارثنا وفهمنا له بالوفرة المالية. وانطوى قياسنا عليه باكتساب الدول الغنية معدل رفاه عالٍ مثل أميركا وبعض الدول الأوربية التي يتمظهر فيها الرفاه في اقتناء السيارات الفارهة والمنازل ونمط الحياة المتطور والتقنية الحديثة.

وهذا ما يجرنا إلى تساؤلات عدة. فقد أدّى إقدام بعض الدول على طباعة النقد مخفضة قيمة عملتها «العائمة» -أي القائمة على العرض والطلب- إلى ارتفاع أسعار المنتجات والخدمات المستوردة من الخارج على وجه الخصوص. فنجد بأن السلعة التي كانت تباع بخمسة ريالات، تباع اليوم -على سبيل المثال- بعشرة، أي أصبحت أصعب منالًا.

إن السبب الرئيس وراء ذلك يعود لطباعة البنك المركزي كمية من العملة، مماثلة لحجم المعروض النقدي في أسواقها، أي كمية الوحدات الورقية المتوفرة داخل حدود الدولة.

ومن هنا نعود لمفهوم الرفاه. فإن كانت الوفرة المالية دليلًا على رفاه الفرد كيف يمكن للزيادة في الوفرة المالية، والتي يفترض أن ترفع من معدل الرفاهية، أن تنعكس في صعوبة نيله لسلع أو خدمات اعتاد اقتنائها قبل تلك الوفرة؟

نشأة النظام المالي 

إن ما توارثته خبراتنا الحياتية حول منظورنا للرفاه ليس إلا انعكاسًا لأمر آخر. فقد يتحقق الرفاه من خلال الوفرة المالية، لكن وفق شروط وأحكام قد لا تكون جلية للعيان، وبالأخص لغير المختصين بالسياسات المالية أو النقدية.

إذ يُعد منظورنا للرفاه منظورًا لأشعة لا نرى أساسها، ألا وهي العلاقة التي تربط بين جهد الإنسان بعمل ما وما يقابل ذلك الجهد من انتفاع.

ومن هنا نعود إلى نشأة النظام المالي الذي ابتدأ بمرحلة الامتنان بين الأشخاص، وما تلاها في مرحلتي التبادل ثم المقايضة اللتين كانتا عبارة عن انتقال لحظي بين جهد المرء وانتفاعه، أي عمل مقابل كسوة، أو كسوة مقابل طعام، وهلم جرًا.

رسم من عام 1874 من صحيفة Harpers Weekly، يصور رجل يقوم بالمقايضة: يعرض الدجاج مقابل اشتراكه لمدة عام في الجريدة / المعرفة

ومع كثرة الجهود التي استشعرت الحاجة لحفظ حق الانتفاع، ابتُدع البيع والشراء، على أن يكون البيع هو الاستغناء عن جهد أو أصل مقابل مخزن للقيمة، كالأحجار والمعادن النادرة. أما الشراء فهو عكس ذلك تمامًا، أي الاستغناء عن مخزن للقيمة مقابل جهد أو أصل.

ومن هنا انطلق النظام المالي مارًا بالعملات المعدنية ثم الذهب والأوراق النقدية المقترنة بالذهب. لينتهي به المطاف بالتطوير الحديث للحفاظ على قيمة هذا النظام، بابتداع البنوك المركزية التي تقودها حكومات وكيانات سياسية.

أما اليوم، فنحن في مرحلة المال الورقي -فيات-، والذي توقف فيه اقتران العملة النقدية بأي أصل أو معدنٍ آخر، إذ تُبنى قيمتها على سياسات نقدية قائمة على اقتصاد الدولة والعرض والطلب على تلك العملة. وفي الوقت نفسه، تقرن دولٌ عملاتها بعملات «عائمة» في دول أخرى.

ودون الخوض في تفاصيل المراحل الأولى للنظام المالي، وجب أن ندرك هنا الفارق بين المرحلتين، الحالية وما قبلها. فقبل عام 1971، اقترنت الأوراق المالية اقترانًا كاملًا بالذهب، أي حُدّدت قيمة العملة بناءً على الأوراق التي تطبع بالاعتماد على مقابلها من مخزون الذهب.

بذلك، ومع ثبات كمية المخزون، تنخفض قيمة وحدة العملة كلما زادت كمية المطبوع منها، والعكس بالعكس. الأمر نفسه مع ثبات كمية المطبوع من وحدة العملة، فكلما زادت كمية المخزون من الذهب، ارتفعت قيمة وحدة العملة.

صدمة نيكسون

لا شك في أن ارتفاع تلك القيمة يعني زيادة السلع والخدمات الممكن الحصول عليها مقابل تلك الوحدة من العملة. أما اليوم، أي في حقبة المال الورقي -فيات-، فقد فُكَّ الاقتران بمعدن الذهب في سلسلة من التدابير الاقتصادية التي اتخذها الرئيس ريتشارد نيكسون في سبعينيات القرن العشرين لأسباب لا يسعنا الخوض بها، خاصة في هذا السياق.

ريتشارد نيكسون يوقّع على فك اقتران الدولار بالذهب / Congress Library

ففي هذه الحقبة، وحينما تكون العملة الورقية «عائمة»، تنبني قيمة العملة على العرض والطلب، أي أنها، ومع ثبات الطلب عليها، تنخفض قيمتها كلما زادت الكمية المطبوعة منها، والعكس بالعكس. أما في حال ثبات المعروض منها، ترتفع قيمتها كلما ارتفع حجم الطلب عليها، والعكس بالعكس أيضًا.

أما العملة الورقية «المقترنة»، مثل الريال السعودي المقترن بالدولار الأميركي، أو الدينار الكويتي المقترن بسلة من العملات، فهي عملات مقترنة بعملة أخرى «عائمة»، وتتحدد قيمتها بناء على المطبوع منها مقابل المخزون من تلك العملة العائمة، بمنهجية أشبه بمنهجية الاقتران بمعدن الذهب.

والفارق هنا بين منهجية العملة السابقة والحالية جليٌّ للعيان، وهو ارتباط الأولى بمعدن طبيعي محدود لا يمكن استنساخه، على عكس الأخيرة التي تختلف بها آلية تحديد القيمة لتبنى على العرض والطلب القائمين على عوامل من صنع الإنسان وتبدل أحواله.

يجرنا هذا إلى الخوض في مفهوم الندرة، أو على وجه الخصوص، ندرة الذهب التي تحددها محدوديته تجاه رغبة الإنسان في اقتنائه. وبذلك ندرك بأن ندرة الذهب تزداد بارتفاع مستمر تزامنًا مع ارتفاع عدد سكان المدن الحديثة القائمة على نظام مالي موحد.

بمعنى آخر، أن قيمة الذهب اليوم لا سعره، أدنى من قيمته بعد سنوات، ويعود السبب إلى الارتفاع المستمر في ندرته. وعليه ندرك بأن جهد الإنسان والمحقق لقيمة محددة، يمكن استبداله اليوم بكمية من الذهب أكبر من تلك التي يُستبدل بها ذات الجهد بالذهب بعد سنوات. وهذا أمر طبيعي، إذ هي بحجة السبق في الامتلاك.

قيمة العملة 

أما اليوم، ولأن قيمة العملة قائمة على العرض والطلب، فكلما ارتفع عدد سكان تلك المدن زادت الأيدي العاملة. من هناك يرتفع المعروض من السلع والخدمات، وكذلك الطلب عليهما، مما يؤدي لزيادة الطلب على العملة الورقية، وبالتالي ارتفاع  قيمتها.

ومع ارتفاع قيمة العملة، كما أشرنا سابقًا، تنخفض الأسعار مقابل تلك السلع والخدمات، أي ندرك «انكماشًا اقتصاديًا»، والعكس بالعكس؛ أي كلما انخفضت قيمة العملة ترتفع الأسعار مقابل ذات السلع والخدمات. ينفر هذا الانكماش أصحاب رؤوس الأموال من الاستثمار، ليسبب ادّخارهم النابع عن تنبؤٍ بانخفاض الأسعار ركودًا اقتصاديًا.

وعليه، تتدخل الجهات المعنية بزيادة المعروض من العملة عن طريق طباعة المزيد منها أو خفض فوائد الاقتراض بها، لتعود الأسعار كما كانت عليه وتبقى ثابتة كلما ارتفع عدد السكان.

ولكن أحيانًا، ولعثرات سياسية واقتصادية، وكنتيجة لإخفاقات نظرية وتطبيقية، ترتفع الأسعار تدريجيًا عوض ثباتها، لندرك بذلك «تضخمًا اقتصاديًا». وتجدر الإشارة بأن مفهوم «التضخم» يعني ارتفاع الأسعار فقط في حال جاء هذا الارتفاع نتيجة لزيادة الوفرة المالية في السوق.

أما «الانكماش» فعكس ذلك، ويعني انخفاض الأسعار فقط في حال جاء هذا الانخفاض نتيجة لشح السيولة في السوق.

وقبيل العودة لعلاقة مفهوم الرفاه لما تطرقنا له، وجب علينا التمييز بين مفهومين أولهما السعر، وهو ما يحدده بائع السلعة أو مشتريها، كل على حدة، في ظل ما يناسبه. أما القيمة فهي السعر الذي يتفق عليه الطرفان على إتمام الصفقة.

فعند استيراد التاجر لمنتج تكلفته 4 ريال سعودي بهدف بيعه محليًا بمبلغ 8 ريال سعودي، لا يعني هذا بالضرورة أن قيمة هذا المنتج تعادل 8 ريال سعودي، إلا إذا ما وجد طلبًا كافيًا على المنتج رغم بيعه بهذا السعر.

ولكن، ماذا لو توافر المنتج ذاته لدى تاجر آخر بسعر مختلف؟ ولنفترض أنه توافر بما يقدر بستة ريالات سعودية، فحتمًا لن تكون القيمة الحقيقية حينها ثمانية ريالات، بل ستة، في حال توافر الطلب الكافي ذاته على المنتج وهو بهذا السعر.

الرفاه ومتوسط دخل الفرد

إن زيادة الوفرة المالية أو شح السيولة والمسببتين للتضخم والانكماش، تنعكسان في ارتفاع أو انخفاض متوسط دخل الفرد. ويعد احتساب المتوسط أمرًا سهلًا للغاية؛ إذ يُقسم إجمالي ما جناه الأفراد سنويًا على إجمالي عددهم.

ليس هناك شك إذن في أن معدل رفاهية الفرد في ارتفاع مستمر تزامنًا مع ارتفاع راتبه السنوي عن هذا المتوسط، والعكس في حال انخفض راتبه. وعليه، فإن ما يؤثر في رفاهية الفرد ليس ما يتعلق بمسألة خفض الراتب أو ارتفاعه، بل مدى ابتعاده عن متوسط الرواتب.

ففي حال انخفضت الرواتب في قطاع التعليم، من الطبيعي أن ينخفض متوسط الرواتب داخل الدولة، وهو ما من شأنه أن يؤثر بانخفاض الأسعار نسبيًا وفقًا لكمية العاملين في هذا القطاع. ولكن، حينها سيكون معدل انخفاض راتب العامل في هذا القطاع أكبر من معدل انخفاض أسعار السلع والخدمات التي أخذت متوسط الرواتب بكل القطاعات في عين الاعتبار.

بذلك، سيكون العاملون في هذا القطاع الأكثر تأثرًا على نحو سلبي، أما العاملون في قطاعات أخرى فهم الأكثر استفادة.

يختلف الأمر في في حال تم خفض أو رفع رواتب الموظفين في جميع القطاعات. فلا شك من أن متوسط الرواتب سينخفض أو يرتفع، وتنخفض الأسعار بناءً عليه أو ترتفع. لكن لا اختلاف سيحل بمعدل رفاهية العاملين في أي من القطاعات. ويعتمد ذلك على تطابق التباعد أو التقارب بين رواتب هؤلاء العاملين في شتى القطاعات، توافقًا مع متوسط الرواتب.

رؤية المملكة 2030 / Reuters

قد يكون من الظلم رفع أو خفض رواتب فئة دون أخرى بغير وجه حق. ولكن رفع أو خفض رواتب جميع الفئات دفعة واحدة لن يترتب عليه أي تأثير على فئة دون أخرى فيما يتعلق بمستوى الرفاهية.

ويمكن استخدامه كآلية إصلاح فيما يتعلق بقضايا الاقتصاد الكلي للدولة، كما حصل في إحدى مراحل تطبيق رؤية المملكة العربية السعودية 2030، حين تم إيقاف البدلات والعلاوات مؤقتًا لإصلاح وجهة المعروض النقدي والمنهجية الاستهلاكية، مما أدى إلى انخفاض الأسعار ليعود معدل رفاهية الفرد تدريجيًا كما كان.

تحقيق الرفاه 

الرفاه إذن غاية، وتحقيق تلك الغاية لا يتم إلا من خلال إصلاح العلاقة بين جهد الإنسان وانتفاعه بالمقابل، أي العلاقة المتمثلة اليوم بقيمة العملة الورقية، تلك القيمة القائمة على العديد والعديد من العوامل في ظل حقبة المال الورقي -فيات-.

والرفاه مزيجٌ معقدٌ لا يأتي بسياسات الحد من الأسعار، لما يتسبب به من نفور المستثمرين المؤدي إلى الركود الاقتصادي. كذلك، لن يُحقق الرفاه برفع الأجور عشوائيًا دون بحث عميق ودراية، لما ستؤول إليه الأمور بعدها من ارتفاع حاد في الأسعار.

وعليه، يمكن القول بأن الرفاه يتمثل برضى المجتمع عن حال معظم أفراده، حال تكوّن نتيجة انتفاع الأفراد من سلع امتلكوها أو خدمات أسهمت في تحسين حياتهم، على أن تكون قيمة تلك السلع والخدمات قد تحققت بواسطة الأجور التي حصدتها جهود بذلها كل فرد منهم.

وبذلك، يصير الرفاه رضى الإنسان عن قيمة عمله وجهده ووقته، لا بمال لا قيمة له ولا بثراء مُقتَرض ولا بحلة مصطنعة.

الاقتصادالتضخمالعملةالمالالرأسمالية
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية