الموت وتعبيراته في النقوش الصفائية قبل الإسلام

يتناول الكاتب أحمد الروقي في هذا المقال قصة النقوش الصفائية التي تُعبّر عن الموت وتؤرخ له في عصر ما قبل الإسلام من القرن الأول قبل الميلاد إلى الرابع...

يطلق لفظ النقوش الصفائية على نوع من النقوش العربية القديمة، تمتد من تلول الصفا جنوب سوريا مرورًا بحرة الأردن إلى شمال المملكة العربية السعودية.

وتتراوح المدة الزمنية التي كتبت فيها النقوش من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي، إذ سمّي كتّاب تلك النقوش بدوَ تلول الصفا/الحرة، وكانوا يتحدثون لغة عربية بدائية تُعدّ بتعبير المستشرق الألماني والمختصّ في النقوش إيرنست كناوف إحدى العربيات القديمة.

وبالرغم من غزارتها واستثنائيتها، إذ لا تقارعها في العدد والغزارة أي نقوشٍ أخرى، تتفاوت هذه النقوش في أهميتها مع بعضها البعض. ويُطلق على النقوش التي لا تحمل أهمية تاريخية جليّة لفظ «مخربشات»، وتحمل بالمقابل قيمة متوارية تستمدها من تنصّلها من رتابة التاريخ.

إذ تكتنز أخبارًا يومية اعتيادية لجماعات بشرية تعيش خارج الفضاء التاريخي. من هنا تكمن روعة هذه المخربشات التي تهرب من رصانة الرواية التاريخية، مكثفة بذلك التركيز على التجربة الشعورية لتلك الجماعات. ويعدّ ما تقدمه هذه النقوش عن الحب والحروب الهامشية -تاريخيًا- والرعي والبكائيات والأدعية والموت إرثًا زاخرًا محتشدًا على نفسه.

اتظر مناي، رغم مناي

يستحضر لبيد بن ربيعة في معلقته صورة الموت في صغير حمار الوحش الذي ضل عن القطيع، فافترسته الذئاب على مرأىً من أمه. فيصور المنية كصياد في قوله «صَادَفْنَ منها غِرَّة ً فَأصَبْنَهَا – إنَّ المنايا لا تطيشُ سهامُهَا». وهذا التصور نتاج فكرة أسطورية تسبق المعلقة ونشأتها، أعاد لبيد صياغتها وترميمها.

تتشارك صورة لبيد في النمط مع لفظٍ في النقوش الصفائية يسبق المعلقة زمنيًّا بخمسة أو ستة قرون، ويستدعي صورةَ مطابقة. على سبيل المثال لا الحصر، «وتظر مناي فهرضو فلته» بمعنى: «المنية تنتظر، فيا رضو (إله عربي) فَلِّت كاتب النقش منها».

نقوش صفائية / أحمد الجلاد

دُوّن هذا التعبير في نقوشٍ كثيرة وبفتراتٍ زمنية مختلفة وجغرافيا متباعدة، إلا أن اللّفظ واحدٌ ومشترك. وبالرغم من تطابق «المنية تنتظر» لفظيًّا مع «اتَّظَرَ مناي»، تجانب العبارة صورة المدلول التي يستحضرها لفظ «اتظر»، فاللفظ يستخدم أيضًا في انتظار العدوّ أو فريسة الصيد أو حدث فلكيّ أو نزول المطر.

تشترك كل الأفعال المذكورة في يقظة المترقب، مما يوحي لنا بأن انتظار المنية ليس انتظارًا إلى حين، بل فعل ترصّدٍ واعٍ.

كما لا تكتمل صورة هذا اللفظ الدلالية إلا بمقارعته للألفاظ الأخرى التي تشكِل «دورة الموت» في النقوش. إذ أن «ترصد المنية» يحضر أحيانًا في تعالقٍ نصيٍّ ومفاهيميٍّ مع تدخل الإله أو الربّة، فذكر «وتظر مناي» دائمًا ما يأتي متبوعًا بدعاءٍ قصير للمعبود بالخلاص. 

ففي نص لإله القوافل «شيع القوم» يذكر الكاتب «فإنك بغيه وقافيته، وبخفرتك فلتان من موت» بمعنى: «[يا شيع القوم]، أنت المُبتغى والدليل، وبحمايتك نفلت من الموت». دور الآلهة وسلطتها على الموت سلطة دنيويةٌ محدودة -على الأقل إزاء ما نعرفه- تتمثل في زيادة العمر.

نقش عين عبدات

بالرغم من استثنائيّته التعبيرية، يتقاطع النقش الآنف الذكر في المعتقد مع النقوش التي تستخدم لفظ «وتظر مناي»، والتي تطلب الحماية والفلتان من الموت. ويتقاطع معها نقشٌ آخر غريب ثقافيًّا ولغويًّا بالنسبة للنقوش الصفائيّة الأخرى وهو نقش عين عبدات النبطي.

يشترك الأنباط مع سكان حرة الصفاة في أن كليهما عربٌ. لكن الفارق بينهما هو الفرق بين الحاضرة والبادية، فالأنباط عربٌ متحضِّرون وسكان مملكة ويستخدمون الآرامية كلغةٍ رسميةٍ مكتوبة بجانب اللغة العربية كلغةٍ محكية. 

لا يوجد أي ذكر للموت في النقوش النبطية على نحو عقائدي، وجل النقوش التي تذكر الموت نقوش جنائزية أو تأسيسية للمقابر تذكر في تشريعاتها إزاء من دُفن في القبر وتاريخ موته وتوصي باحترام حرمة القبر. ولا تُفصح بأي شيء عن المعتقد الدينيِ حيال الموت، باستثناء نقش عين عبدات، الذي يُعدّ أحد أقدم النقوش العربية الصريحة وأقدم بيت شعرٍ عربي نضع أيدينا عليه. 

الإله يردع الموت

كرس هذا البيت للملك العربي النبطي «عُبادة الأول»، والذي بعد موته صيّره الأنباط إلهًا. وُجد النقش في مدينة عبدة/عبدات النبطية في صحراء النقب -والتي سميّت باسمه تقديسًا له-، وكتب النقش بالقرب من ضريحه لشخص يدعى «جرم إلهي»، وبالرغم من أن تأريخ النقش يعود للقرن الأول الميلادي، أي قبل نشوء الإسلام بخمسة قرون، قد يكون فحوى السطر مأثورًا يسبق تاريخ النقش، اقتباسٌ لا من ابتداع الكاتب -وقد يكون عكس ذلك-.

البتراء عاصمة الأنباط / Moises Saman

يظل المعنى مبهمًا في هذا البيت الشعري المنقوش بالرغم من عربيته التي لا غبار عليها. إذ جاء في إثره ثلاثون ترجمة وشرحًا تتفق في الصورة الكبرى وتختلف في التفصيلات. فوفقًا لقراءة كروب «فيفعل لا فدى ولا أثرى، فكن هنا يبغنا الموت ولا أبغاه. فكن هنا أداد جُرح ولا يددنا».

والمعنى الذي يقترحه كروب: «ألا يخلّف الإله آثارًا وضحايا، وأن الموت عندما قارب كان الإله موجودًا لردعه، وأن الجرح عندما تقيّح وانتان وظهر الدود منه، لم يسمح للدود بإلتهامه»؛ ويستحضر المعنى صورة متناصّة وواحدة باختلاف كلٍّ من التعبير والثقافة.

لا مهرب من الموت

في خضم الصراع المثنوي بين الإله والموت، سلطة الآلهة ليست كاملة. إلا أن الإقرار بحتمية الموت واضح، فالدور الذي يلعبه الإله في تلك المعتقدات لم يكن سوى دفع وتأخير ما هو حتميّ. هناك نقش لشخصٍ يدعى «ماسك بن أسد»، يذكر أنه أثناء وروده للماء تذكر الموت فاعتراه الحزن [حرفيًّا: «فقصف» أي تكسّر وتحطم]، ثم طلب من اللات الحماية والزيادة في العمر، والتي يصفها بصديقته «فها اللات، عَمِّري صديقك وجنني، ومن موت ليس فصاي».

تستدرك خاتمة النقش «من موت ليس فصاي» سلطة الموت وانتصاره في النهاية وحتميّة حضوره، وتأتي بمعنى «لا مهرب من الموت»، وينبثق منها التعبير الأخير الوارد وبكثرة لوصف الموتى «رغم مناي»، والتي تأتي في نقوشٍ عدة «حبيبته رغمت مناي» أو «و وجم على حبيب فحبيب فرغموا منايا» بمعنى: «بكى على حبيبٍ خلف حبيب، أرغمتهم المنية».

ولفظ «وجم» من الألفاظ التي يصعب تجاوز معناها، فهو أحد الألفاظ العربية المندثرة التي شاع استخدامها في الصفائية، وتأتي بمعنى «انتحب، أو بكى بكاءًا طقوسيًّا». أما رغموا مناي أو أرغمتهم المنية فيأتي تباعًا لوصف الميّت.

ويعطي لفظ «رغم» مدلولًا بالإسقاط على الأرض والجبر، ويعاضده اللفظ الآخر الذي يوصف به الميّت وهو «طرح» أي أسقطه الموت. فالصورة الأخيرة استكمال لفعل الترصّد، إذ هو إعلانٌ لانقضاض المنيّة وطرحها للفاني.

اللقى الأثرية المتعلقة بالموت

يصعب أن نجد إجابات أثريّة عن الطقوس والشعائر التي ترافق الموت، إلا نُزرًا يسيرة. فتشترك آثاريًّا ممالك وشعوب عربية كثيرة داخل الجزيرة وخارجها في طقس «البلية»، والذي يمتد لعصور موغلة في القدم، ويستمر إلى بدايات نشوء الإسلام، ويؤكد عليه الأدب الجاهلي؛ وهو دفن ناقة الميت أو خيله معه بعد عقرها إيمانًا بحاجته لإمتطاءها في الحياة الأخرى.

نقوش تصوّر محاربًا عربيًا على جمل / Hani Hayajneh

وعلى الصعيد الاحتفالي، فعند الأنباط تُقام وليمةٌ تدعى «مزرح». وللوليمة أسباب كثيرة منها إحياء ذكرى الميّت. وتقام في غرفة المأدبة، ويديرُ دفّة الشعيرة من يسمّى بـ «ربِّ المزرح/الكاهن» بحضور جثمان الميت، وينتهي الطقس على الأغلب بكسر الأواني في المكان لسبب نجهله.

وفوق القبور النبطية توجد حفرٌ غائرة لإراقة الماء والخمر فيها، وقد يكون للفعل رمزيته في إلقاء السلام على الميت.

أما بدو الحرّة فالأمر مسكوتٌ عنه آثاريًّا، وما زال في مرحلة إماطة اللثام. إلا أن لفظ «رجم» الموجود في النقوش التي تتعلق بالقبور، يعيدنا للفكرة القائلة بأن الرجم في صورته الأولى كان أمرًا شعائريًّا محمودًا، والذي يمثل فرضًا من فروض الولاء والطاعة التي يقدمها الحي للميت.

إذ يكون وضع الحجر على قبر الميت تبجيلًا مذعنًا ومساعدة له في بناء قبره. يثبت هذه الفكرة أهم قبر صفائي عُثر عليه في أواسط القرن المنصرم، و يسمّى بـ«قبر هاني» أو «رجم هاني»، ويقف كدليلٍ أثري على شعائر زيارة القبر.

رجم هاني، قبر هاني

يرقد في القبر رجل يتراوح عمره حسب التحليلات الباثولوجية ما بين الثلاثين والخمسين سنة، يتجه رأسه نحو الغرب ووجهه للجنوب. ووُضعت يده اليسرى على كتفه الأيمن بينما يده اليمنى مبسوطة.

ويقدر سبب وفاته على الأغلب إلى الضرب بآلة حادَة. دفنت معه قربة ماء ووعاء خشبيّ حطِّم عمدًا وعصا قسِّمت عمدًا لخمسة أجزاء ومغرفة حديدٍ غير مكتملة. ويصعب إعطاء رأيٍ واضح إزاء هذه المعثورات فيما إن كانت مقتنيات شخصية أو أشياء لها مدلولاتها الرمزية.

تزيّن القبر قبّة من الحجارة والرجوم، تكوّنت على الأغلب بسبب الزيارات المتكررة للقبر وإبداء الاحترام بوضع الحجر على نسقٍ معيّن. وفي فضاء القبة والمنطقة المجاورة وجد مائة واثنان وسبعون نقشًا صفائيًّا، خمس وتسعون منها تذكر هاني إسمًا، وثمانية عشر لأقاربه والأخرى لصحبه وللزوار. قد تحكي هذه الأهمية البارزة عن هاني ما أغفله عنّا التاريخ، إذ قد يكون بطلًا أو رجلًا مقدسًا ذا كرامات.

تأتي نقوش الزوّار في ذكرهم لمساعدته في بناء الرجم لهاني أو بالبكاء عليه، باستثناء نقش واحد يصوِر مشهدًا قتاليًا.

نقش يصور مشهدًا قتاليًا / متحف الأردن

كما يوجد خارج وبجانب القبة الرجمية، قبر لامرأة مجهولة تجمعها على الأرجح أواصر قرابة بهاني. وهي مدفونة بذات الوضعية التي دفن عليها هاني، موجه رأسها إلى الغرب ووجهها إلى الجنوب.

وتضم المعثورات الموجودة في قبرها خرزًا أزرق وخرزة عرق لؤلؤ ومشطًا خشبيًّا، وبالرغم من كون المرأة المجهولة أقل أهمية اجتماعية -أو دينية- منه، تتشاطر معثورات قبرها في القيمة وتختلف في النوع.

عودٌ إلى بدء

يفصح ما خلفه بدو تلال الصفا من أثر منقوش عن مكنون معتقدات لا يمكن التغاضي عن أهميتها. إذ أنها تميط اللثام عن وجه «جاهلي» قديم للغة وعقائد وتاريخ يسبق حقبة ما قبل الإسلام المتأخرة، وسلسلة متصّلة لثقافة يسبك الإيمان والموت شاعريتها. والمفارقة المضحكة أن الشاعر الجاهلي/المسلم لبيد بن ربيعة، الذي وصف الحجارة بـ«صُمّاً خوالدَ ما يُبينُ كلامُها» قد انعكس صدى وشوشتها في معلقته.

الإسلامالتاريخاللغاتالنقوشالثقافة
مقالات حرةمقالات حرة