كأس العالم قطر: مشاعر ستدوم إلى الأبد

يقولون إن كل أربع سنوات كان الأديب الشهير«إدواردو قاليانو» يعلق لافتة على باب منزله، كتب فوقها مغلق لكرة القدم، ولا يظهر أبدًا إلا بعد انقضاء شهر يشاهد في أثنائه مباريات كأس العالم ويكتب عنها. الغرض دومًا ليس سرد الوقائع والأرقام مجردة، إنما تخليد المشاعر المصاحبة لتلك الوقائع، وذكر دلالات الأرقام. كيف شعرت وشعر الناس من حولك بالفخر والحزن والإثارة والجنون التام.

كان كأس العالم قطر 2022 مليئًا بتلك المشاعر التي تستحق التخليد، مشاعر لامست قلوبنا بعمق وجعلتنا نهمس بالدعاء حينًا والصراخ فرحًا أو غضبًا أحيانًا أخرى. كأس عالم هي الأقرب لنا لأنها بمذاق عربي خالص، وربما كان هذا السبب أنها الكأس الأكثر إثارة في التاريخ كما يعتقد الكثيرون، فنحن أهل لما هو حقيقي غير مصطنع.

بدأ كأس العالم بقرآن كريم ورسالة سلام لشعوب العالم من أرض قطر، وانتهت البطولة بمشهد رفع ميسي لكأس العالم مرتديًا بشت عربي سيبقى في الأذهان لعقود. كانت بصمتنا العربية واضحة للجميع، لنبدأ الحديث عن كأس العالم من تلك البصمة إذن.

الخيول العربية في فضاء قطر

شارك العرب بأربعة منتخبات في البطولة، وكانت أولى البصمات خضراء سعودية، لم يكن أشد المتفائلين بالمنتخب السعودي يحسب أن المفاجأة ستحدث أمام ميسي المرشح الأول لنيل الكأس، الذي يريد إثبات أنه البطل من المباراة الأولى.

لكن المنتخب السعودي فعلها على طريقة الكبار بفوز تكتيكي بحت، خطة وضعت بعناية من الفرنسي رينارد صدمت لاعبي الأرجنتين وكبدتهم الخسارة الوحيدة خلال البطولة، ليظهر هتافًا سعوديًا خالصًا عنوانه «ميسي وينه». لم يتمكن منتخب الصقور من استثمار هذا الفوز الثمين؛ لكن الأكيد أنه جذب أنظار العالم، وأعلن مبكرًا أن للجماهير فعلَ السحر، خاصة مع المنتخبات العربية وهو ما سيظهر جليًا فيما بعد.

تمكن المنتخب التونسي هو الآخر من تحقيق فوزه الوحيد أمام العملاق الفرنسي، وكأن مونديال قطر قرر أن يقدم للمنتخبات العربية ذكريات لا تنسى، حتى ولو لم يتسن لهم مواصلة المشوار. كان الاستثناء الوحيد هو قطر نفسها، لم يفلح العنابي في تقديم شيء رغم الآمال المعقودة على المنتخب المضيف. أما منتخب المغرب فتلك قصة أخرى.

المغرب: الحصان الأسود والمفاجأة السارة

كانت رحلة المغرب في قطر أشبه بحلم يبدأ مشوشًا ثم تتضح ملامحه فيما بعد، قبل شهرين من المونديال جرى تعيين وليد الركراكي، ولم يتوقع أحد أن يكون وليد كلمة السر في تغيير هوية المنتخب الذي طالما اعتقد الكثيرون أنه يفتقد إلى فكرة الهوية بسبب اللاعبين مزدوجي الجنسية.

ظهر منتخب المغرب على أرض الميدان متماسكًا بشكل ملحوظ، والأهم أنه على مستوى علاقات اللاعبين كان الأمر أشبه بأسرة واحدة، أسرة مغربية استقبلت أبنائها الذين ولدوا في الخارج وغمرتهم بالحب والتفاهم والمساواة. وكان هذا الأمر الفصل في حلم المغرب الجميل.

بدأ الأمر بالفوز على بلجيكا الذي مهد للمغرب تصدر مجموعتها، ثم بدأت تتضح ملامح الحلم تباعًا؛ إقصاء للمنتخب الإسباني بعد تصديات بونو وبانينكا حكيمي، ثم كتابة التاريخ أمام البرتغال على يد النصيري الذي قفز إلى القمة بارتفاع مترين وثمانية وسبعين سنتيمترًا في حضرة رونالدو.

توج مشوار المغرب بتحقيق المركز الرابع لأول مرة في تاريخ العرب وإفريقيا بأسماء يترقب الجميع مشوارها القادم مثل أمرابط وأوناحي، وذكريات لا تنسى لآلاف الجماهير المغاربة والعرب من أرض الملعب، وعلى رأسهم أمهات اللاعبين اللاتي كانت احتفالاتهن عقب كل مباراة المشهد الأجمل في كأس العالم.

كان المغرب مفاجأة المونديال السارة أمَّا المفاجئات السخيفة فكانت حاضرة أيضًا.

الخاسرون والفائزون في كاس العالم

شاركت بلجيكا في البطولة محتلة المرتبة الثانية في تصنيف فيفا للمنتخبات؛ إلا أن مردود الفريق كان أكثر من مخيب، فقد سجلوا هدفًا وحيدًا، وخرجوا من دور المجموعات. أما قياسًا إلى التوقعات يبدو المنتخب البرازيلي هو أكبر الخاسرين، رغم وجود نيمار وكتيبة مدججة بالنجوم فشلت البرازيل مرة ثانية ليتأخر حلم المونديال أربعة سنوات أخرى.

ولا يوجد خاسر أكبر من نيمار إلا البرتغالي رونالدو الذي رغم تحقيقه لرقم قياسي كونه الوحيد الذي سجل في خمسة مونديالات متعاقبة، فإنه خسر رهانه على هذه البطولة، حيث شارك في المباريات الإقصائية من على دكة الاحتياط، كما خسر رهان رونالدو ميسي الشهير.

ظهر المنتخب الألماني مشغولًا بالسياسة عن كرة القدم، خرج مدرب الفريق ليؤكد أن كأس قطر ليست لكل الجماهير ردًا على مطالبة الفيفا باحترام ثقافة الدولة المضيفة بمنع لافتات دعم المثلية الجنسية. قبل بدء المباراة الأولى أشار اللاعبون إلى الكاميرات أنَّه جرى تكميم أفواههم عنوة، لكن في المقابل قادتهم عقولهم إلى تكميم أقدامهم عن لعب الكرة، وانتهى الأمر بخروج من المجموعات للكأس الثانية على التوالي بعد هزيمة مستحقة أمام المنتخب الياباني الذي كان واحدًا من فائزين كأس العالم.

يمكننا القول إن المنتخب الياباني كان أكثر المنتخبات جنونًا في قطر، فاز على منتخبات بحجم إسبانيا وألمانيا وخسر أمام المغمور كوستاريكا. لكنه ساهم في ظهور الكرة الآسيوية ظهورًا مميزًا، إذ لعبت فرق كوريا واليابان وأستراليا ثمن النهائي، وظهرت السعودية وإيران بأداء أكثر من جيد.

أرقام ودلالات

حقق كأس العالم أعلى معدل تهديفي في تاريخ البطولة على الإطلاق، إذ أُحرز 172 هدفًا، كما أنه الكأس الوحيد الذي تأهل خلاله منتخبات من كل قارات العالم للأدوار الإقصائية. وفي نظر الكثيرين كانت المباراة النهائية هي الأفضل على الإطلاق.

أحد أهم المؤشرات على جودة لاعب الوسط هو مصطلح «التمريرة المتطورة» الذي يعني التمريرة التي تهدف إلى كسر خطوط الخصوم. شارك الكرواتي لوكا مودريتش ذو السبعة والثلاثين عامًا في تسع وستين تمريرة متطورة، أكثر باثنتي عشرة تمريرة من أي لاعب آخر. هذا يشرح لك ببساطة قيمة الكرواتي الذي قاد بلاده إلى الميدالية البرونزية بعد أن حقق الفضية الكأس الماضية.

تعامل البعض مع منتخب المغرب على أنه منتخب مستضعف لكن قواعد «الأندر دوق» التي تشمل الاعتماد على الدفاع والكرات الثابتة والمرتدات لا تليق أبدًا بما قدمه المغرب. صنع لاعبو المغرب فرصًا لتسجيل الأهداف أكثر من أي فريق آخر غير فرنسا، وكانوا ثالث أسرع فريق يتحرك بالكرة في البطولة.

أصبح مبابي ثاني لاعب على الإطلاق يسجل هاتريك في نهائي كأس العالم. فاز بالحذاء الذهبي وأصبح أول لاعب يسجل ثمانية أهداف في بطولة واحدة منذ رونالدو 2002. قبل أن يتم الرابعة والعشرين بأيام، كان أكثر لاعبي كرة القدم تسجيلًا في المباريات النهائية لكأس العالم على الإطلاق.

كسر ميسي عددًا لا بأس به من الأرقام؛ أكثر اللاعبين خوضًا للمباريات في كأس العالم بـست وعشرين مباراة، وأكبر المساهمين بأهداف في تاريخ كأس العالم بـواحد وعشرين هدفًا، والوحيد الذي توج بجائزة أفضل لاعب في البطولة مرتين ورجل المباراة خمس مرات. بالحديث عن ميسي ورفاقه فلا مجال أبدًا أن نغفل النهاية السعيدة.

ميسي والنهاية السعيدة

لن ينسى ميسي قطر أبدًا، الأرض التي حقق فوقها الحلم المستحيل. لم يقدم ميسي شيئًا جديدًا عليه خلال البطولة لكنه كان مختلفًا هذه المرة. كان مؤشر المنتخب، بوصلته وميزانه، كان قائدًا للفريق والجماهير وأيقونة البطولة.

فعلها ميسي أخيرًا وأضاف البطولة الوحيدة الناقصة في دولاب بطولاته. أثبت للأرجنتين أنه الابن الوفي والمحب المخلص إلى الأبد. خرجت جماهير الأرجنتين إلى الشوارع لاستقبال ميسي ورفاقه، كان المشهد مهيبًا حقًا، تصعد الكاميرا إلى أعلى فتكتشف أن الكادر لا زال لا يتسع للجماهير، ثم تحلق الكاميرا في السماء ليتماهى ميسي ورفاقه مع بقية الجماهير ولا يمكن لنا أن ننتظر أكثر من كلمة النهاية.

سننتظر حتمًا كأس العالم القادمة بعد أربع سنوات، سنغلق علينا منازلنا شهرًا مثلما كان يفعل قاليانو؛ لكن ستبقى في ذاكرتنا تلك النسخة العربية من الكأس أبدًا ما حيينا.