لماذا «لقيمات» أسوأ من المسلسلات الخليجية التي ينتقدها؟
منذ بدايته في 2012، نُصّب لقيمات جهةً نقديةً تكشف مع كل حلقة سوء المسلسلات الخليجية.
منذ بداية لقيمات في 2012، أصبح البرنامج اليوتيوبي جزءًا لا يتجزأ من عادات رمضان بالنسبة لمتابعيه، بطريقةً تنافس المسلسلات الخليجية التي يسخر منها، أو الطبق الحلو الذي يستمد اسمه منه. وبالرغم من إصرار مبتكر البرنامج، عبدالمجيد الكناني، على أن برنامجه يهدف للإمتاع، تُناقض الحلقات كلام مبتكره كثيرًا.
يقول الكناني في إحدى حلقات لقيمات: «ليش أنا مهتم بالأعمال السعودية؟ لأن الفنون وجودتها تعطي انعكاس كويس عن هوية وثقافة وطريقة عيش البلد اللي جاية منها. ولأن بلدنا في هذه الفترة تحتاج تكاتف كل المجالات عشان نظهر بصورة مؤثرة وقيادية جيدة، فإن الإعلام والثقافة والفن والمسرح تعتبر مجالات مهمة جدًا للتعبير عننا»
في البداية، كنت سعيدة جدًا لوجود قناة تتخصص بنقد المعروض الفني الهابط في المستويين الفكري والإخراجي. لكن يبدو أنني كُنت أطالب القناة وتوجهاتها أكثر مما تحتمل. لأنه كما يبدو فالموضوع عبارة عن تهريج على المهرجين
الجوهرة الذيب
الطيار: لقيمات يقدم نقدًا سيئًا
هل سبق وخضت نقاشًا على الإنترنت؟ إذا كانت الإجابة نعم، فقد مررت بالتأكيد بالسيناريو التالي: تأتي أنت بحجة تعتقد أنها مقنعة، ثم تبدأ بصياغة أفكارك على شكل ردٍ في منتدى أو سلسلة تغريدات أو مجموعة رسائل واتساب.
تعمل جاهدًا على أن تكون أفكارك واضحةً وقابلةً للفهم، وحجّتك ظاهرةً بأفضل طريقة ممكنة، ثم ترسل رسالتك. ليأتي بعدها خصمك متجاهلًا جميع أفكارك، ويرد عليك بـ: «لاكن؟ لاكن؟ هذا كبرك وما تعرف تكتب «لكن»؟ روح تعلم إملاء يا بابا ثم تعال ناقشني»
لو تحول الشخص الغثيث في الأعلى إلى برنامجٍ يوتيوبي، لكان لقيمات. فمنذ بدايته، نُصّب لقيمات جهةً نقديةً عُليا، ليكشف مع كل حلقة سوء المسلسلات الخليجية ويشفي غليل المتابعين المغبونين، رغم أن الكناني يكرر دائمًا بأنه لا يريد الظهور بمظهر الناقد الفني.
ولا أعتقد أن وصف النقد المُقدم في لقيمات بالنقد السيء أمرٌ مثير للجدل. فعلى الرغم من أن أخطاء الاستمرارية ومبالغات التمثيل بيئة خصبة للنكت السريعة، فإنها لم تكن أبدًا سببًا لسوء الدراما الخليجية.
في كل مرة أشاهد فيها الكناني يسخر من خطأ استمرارية ما، أتخيل أنه يسخر من مشهد التحقيق في «الفارس الداكن» (The Dark Night)، أحد أفضل أفلام العقد الماضي، وأحد أفضل مشاهد ذلك الفيلم. وفي كل مرة يسخر فيها من لهجة ممثل أو ممثلة، أتخيله يسخر من لهجة الممثلة جوليان مور في «30 روك»(30Rock)، إحدى أفضل ممثلات هوليوود، في أحد أفضل المسلسلات الكوميدية.
وفي كل مرة يسخر فيها من مبالغة ممثل ما بجملته الشهيرة: «أوفر أوفر أوفر»، أتخيله يسخر من مشاهد بكاء الممثلة كلير دينز في مسلسل «هوملاند» (Homeland)، وهي التي كانت خلال السنوات السبع الماضية الممثلة الأفضل على التلفاز وبلا منازع.
هل هذه الانتقادات سبب سوء المسلسلات الخليجية؟
أخطاء الاستمرارية والحقبة (حيث تستخدم منتجات حديثة في مسلسل تاريخي)، وإتقان اللهجات وثغرات القصة، كل هذه تفاصيل إنتاجية يجب على طاقم الإنتاج الانتباه لها، لكنها لم تكن أبدًا سبب سوء المسلسلات الخليجية. وتكون هذه الحقيقة في أوضح حالاتها عندما يحاول لقيمات أن يمتدح عملًا ما.
عندما يكون المسلسل سيئًا، فهو يحظى بحلقة كاملة من النقد. وإذا بلغ السوء منه مبلغًا عظيمًا، تخصص له عدة حلقات لتبيان سوئه. في هذه الحلقات يستعرض القائمون على البرنامج أخطاء الاستمرارية باعتبارها دليلًا على سوء الإخراج، ومبالغات الممثلين باعتبارها دليلًا على سوء النص وسوء التمثيل. ورغم أن هذا الاستعراض خاطئ، فهو على الأقل استعراض.
أما المسلسل الجيد، فيُذكر عادةً في نهاية الحلقة، مسبوقًا بإعلانٍ من الكناني على وزن: «الكل يقول إني سلبي وما أتكلم إلا عن الأغلاط». ثم يذكر حسنات المسلسل، ككون التمثيل أو السيناريو جيدًا، أو أن الإخراج جيد. هذه الإطراءات الباردة تأتي جافةً بلا «أدلة» وبلا مناقشة. فمن السهل الضحك على الأخطاء التقنية السطحية، إلا أن تحديد الشيء الجيد يحتاج تعمقًا أكثر.
الهجوم الشخصي: الخطيئة العظمى
وإلى جانب الانتقادات التقنية، يبالغ لقيمات ما بين الفينة والأخرى في الانتقاد، إلى حد الإهانات الشخصية. وهذه هي الخطيئة العظمى.
إذ يسخر الكناني في حلقات عدة من أشكال الممثلات اللاتي يرى أنهن قبيحات. ففي إحدى هذه الحلقات، يستعرض صورتين لشيلاء سبت، قبل وبعد عملية التجميل. وفي حلقة أخرى، يفعل المثل مع الفنانة أمل العوضي.
وليس الغريب في هذه الانتقادات طبيعتها الشخصية فقط، بل كون الناقد من أشد المعارضين لاستخدام مساحيق التجميل في المسلسلات. فكيف يستغرب إصرار الممثلات على الظهور وكأنهن في حفلة عرس لا تنتهي، وهو أحد المشاركين في التركيز المقزز على مظهرهن؟
وفي حلقة أمل العوضي نفسها -التي تبدأ بإعلان سيجعلك تنتحب كلما تذكرت أن هذا البرنامج يهدف إلى محاربة «سماجة» المسلسلات الخليجية- يهاجم الكناني الفنانة القديرة أسمهان توفيق، لأدائها دور امرأة مسنة تدخل في علاقة محرمة مع شابٍ في نصف عمرها. يقول الكناني: «يعني فنانة كبيرة، و لها تاريخ. ووصلت لهالمرحلة من الإنحطاط؟».
وهذا الهجوم من جديد، ليس غريبًا بسبب طبيعته الشخصية فحسب، بل لأن الكناني نفسه لا يتوانى عن استخدام الإشارات الجنسية في حلقاته وفي أفلامه. ولا أدري كيف يكون فعل أسمهان، وهي التي تجسد شخصيةً دون فحش أو تعرٍّ، أكثر خدشًا للحياء من كتابة شخصيةٍ تمارس العادة السرية على كتاب طبي مثلًا.
لكننا لو استثنينا هذه الهجمات الشخصية، يصبح السؤال: ما المشكلة في النقد السطحي؟ ما المشكلة في الضحك على اللقطات السخيفة؟
في كل استراحة في المملكة بتلقى مخرج، وكلهم حالفين ما يسوون ولا فيلم يشبهنا
فهد كوين
لماذا النقد السيء سيء؟
«ما أتابع مسلسلات خليجية» ابحث عن هذه الجملة في تويتر، واستمتع بكل الأشخاص الذين يريدونك أن تصدق بأنهم «كول».
في عام 2010، كنت أحد هؤلاء الفخورين بإنجازهم. كنت بالكاد قد تخطيت الخامسة عشر، ولم تعد عائلتي تغضب عندما تشاهدني أتابع فلمًا أو مسلسلًا أجنبيًا. وكنت وقتها كذلك على باب الاكتشاف الأعظم التورنت، فكنت مستعدًا لنبذ أيام البرامج والمسلسلات العربية.
«أم البنات»
ولكن في إحدى ليالي ذلك العام، وأنا جالس مع عائلتي على العشاء، عرضت القناة التي كانت تُترَك دائمًا على الصامت مسلسلًا جديدًا، «أم البنات». وللمرة الأولى في حياتي البالغة الجديدة، أتابع مسلسلًا مع عائلتي دون أن يصيبني الغثيان.
كان كل شيءٍ يوحي بمسلسل خليجي يشبه المسلسلات الأخرى: أب متسلط وأم مظلومة. قصة حب محرم إلى جانب قصة حب نقي، وأخيرًا، قصة زواج مكسور. وعلى الرغم من هذا، تسمّرت أمام الشاشة ليلةً بعد ليلة، وصرت أكثر إصرارًا من أفراد عائلتي على متابعة هذا المسلسل.
كان أسلوب هبة مشاري حمادة، الذي أصبح مملًا مُجترًا اليوم، ما يزال بريئًا ساحرًا حينها. ذكّرني ذلك السحر بأن مشكلة المسلسلات الخليجية لم تكن قط في طبيعة القصص التي تحكيها، قصص التسلط والحب والإرث، ففي نهاية المطاف هذه القصص قصصنا وهذه المشاغل مشاغلنا، بل إن المشكلة الفعلية تكمن في التنفيذ. والمسلسل الخليجي الجيّد ليس من رفاق الغول والعنقاء، بل هو واقع ممكن في أي لحظة.
منذ ذلك الوقت لا يمر موسم رمضاني دون أن أتصفح فيه حلقات المسلسلات الخليجية، بحثًا عن تجربة ساحرة أخرى. كانت أغلب تجاربي هذه مخيّبة، وحتى الأعمال الجيدة التي أعثر عليها كانت «جيدةً» بأكثر معاني الكلمة كرمًا وتسامحًا، تفعل شيئًا واحدًا بطريقة صحيحة، و«تخربط» في باقي الأشياء. إلا أن القريب الجيد أكثر إنعاشًا من البعيد الممتاز.
لن يمر السواد الأعظم ممن يعتقدون أنهم أفضل من المحتوى الخليجي أبدًا بهذه التجربة. لأنهم لا يعتقدون بأفضليتهم، بل يعرفون حقًا أنها مسلسلات سيئة، وبرهانهم هو برامج كلقيمات.
يقول الناقد السينمائي هولك عن الدور الذي يلعبه ناقد الأفلام:
لا أعتقد أن وظيفتي بصفتي ناقدًا هي أن أخبرك عن أفكاري تجاه الفلم، وظيفة الناقد أن يساعدك على فهم أفكارك أنت
«لأنه خليجي»
لو قرر صانعو البرنامج غدًا أن يحولوه إلى برنامج تشجيعي يمتدح المسلسلات الخليجية ويثني عليها، هل سيتفق معهم أغلب الجمهور؟ بالطبع لا. قرر الجمهور سلفًا بأن هذه المسلسلات سيئة، وما يبحث عنه هو تفسير لسوئها. ولقيمات بانتقاداته الخاطئة، يعطيهم تعريفًا مضللًا لسبب السوء، تعريفٌ يمكن اختصاره بـ: «لأنه خليجي».
في أكثر من حلقة ينتقد تكرار القصص في المسلسلات الخليجية، قصص مثلثات الحب أو مشاكل الزواج أو الشركات والحلال والورث، ويعدّها سببًا لسوء هذه المسلسلات. يتجاهل هذا الاعتقاد المنتشر أن أحداث العديد من المسلسلات الأجنبية الرائعة تدور في أروقة الشركات أو في بيوت العوائل الأميركية مثل «بيليونز» (Billions) و«سوتس» (Suits) و«سكسيشين» (Succession) و«مادمين» (Madmen) و«بارينتهود» (Parenthood) و«بيق لوف» (Big Love).
ورغم وضوح خطأ هذه الانتقادات، تجد التعليقات على حلقات لقيمات مليئة بالآتي: «وسعت ذائقتي النقدية، فضحتهم، من بعد لقيمات صاير ألاحظ التفاصيل ذي، ما أدري كيف كنا نتابع هالمسلسلات والله، نميت الناقد في داخلي». وهكذا يتحول النقد، الذي يُفترض أن يساهم في التحسين، إلى أداة لجلد الذات يستخدمها الخليجيون ضد فنهم.
المخيف هنا أن يصبح تعريف الجيد مساويًا للأجنبي، أن تعد القصص الجيدة هي قصص القتلة المتسلسلين والمدن الما-بعد-كارثية وحروب العصور الوسطى. وعلى الرغم من حبي لكل هذه الأنواع، إلا أنها لا تنبع من ثقافتنا الشعبية، ومن المخيف أن تصبح معيارًا نقيس به فننا.
إلا أن جريمة لقيمات العظمى ليست بحق الجمهور مباشرة. الخاسر الأعظم من سوء لقيمات هم صناع الأفلام الخليجيين.
المخرج الناقد
يبدأ كل مخرج متابعًا عاشقًا للأفلام، ويشابه تعريفه للجودة تعريف بقية الجمهور. ومع مرور الوقت، عندما يتطور عشق المتابعة هذا إلى شغف بعالم السينما، تصبح مهمة «فهم الأفكار» أكثر أهمية. فصانع الأفلام أولى بأن يعرف لماذا أصبحت القصة السيئة سيئةً، ولماذا اللقطة المؤثرة مؤثرة.
ولا تكتمل عملية التحول من متفرجٍ عادي إلى صانع شغوف دون وجود النقاد. في ظهوره على بودكاست «مولتين أون موفيز» (Maltin On Movies)، يتحدث المخرج المبدع إدقار رايت عن ذكرياته وهو مراهق مع كتاب الناقد ليونارد مولتين، وكيف كان يحفظ المراجعات عن ظهر قلب.
ولا تتوقف العلاقة بين الناقد والصانع على التأثير فقط، بل قد يتحول الناقد -مستعينًا بخبرته- إلى صانعٍ ممتاز، مثل بول شريدر أو بيتير بوقدانوفيتش، وجُل رواد الموجة الفرنسية الجديدة.
وكما تختلف صناعة الأفلام من بلدٍ إلى بلدٍ باختلاف الثقافات، تختلف الاتجاهات والملاحظات النقدية.
يقرأ صناع الأفلام الخليجيون اليوم عن السينما الغربية والشرقية أكثر مما يقرؤون عن أفلام بلدانهم ومسلسلاتها. فسَهُل عليهم، من خلال ما شاهدت في مهرجان أفلام السعودية ومسلسلي «بدون فلتر» و«كوكب آخر»، أن يجاروا القصص والأساليب الغربية من أن يجربوا ويصنعوا طريقهم الخاص.
لا أقصد هنا أن لقيمات سبب هذه المشكلة، أو أن مشكلة المحاكاة هذه تجعل كل الأعمال المحلية سيئة، فمن الطبيعي أن تجاري الصناعة المتأخرة الصناعة المتقدمة. كل ما أقوله هو أن التفاعل بتكبرٍ مع الفن المحلي، مهما كان سيئًا، يقلل من فرص تطوره. وهوية لقيمات في النقد، التي استنسخها لاحقًا طارق الحربي على روتانا، هي الأكثر حضورًا والأكثر ربحًا. فبالطبع ستكون هي الأكثر تأثيرًا والأكثر استنساخًا في المستقبل.
أمرٌ مزعج أن يعتنق صناع الأفلام المحليين لبرنامج نقدي، فقط لأنهم يرونه «جلادًا» ينتقم لهم ممن أخذوا مقاعدهم الفنية. ونتيجته الحتمية أن تُقدَّس انتقادات لقيمات، فنرى أعمالًا فنية لا مخاطرة فيها لئلا توسم بـ«أبو رفسة»، ولا نُكت فيها لئلا تتبعها ضحكة عبادي الجوهر الساخرة.
مت بطلًا، أو عش بما يكفي لترى نفسك تصبح الشرير
جوناثان نولان
لقيمات مسلسل خليجي متنكر
في الحلقة السادسة والثلاثين من لقيمات، يتحدث الكناني عن وضع الفن الكويتي حاليًا، ويستعرض اقتباسات من فنانين كويتيين منزعجين مما يصفونه بوقاحة فنهم. تنتهي الحلقة بمونتاج مدته دقيقتان ونصف، يستعرض لقطات من مسلسلات ومسرحيات كويتية قديمة، تسبقه عبارة: «هكذا كانت الدراما في الكويت»، ويختمه الكناني قائلًا: «شتاااان، شتان».
وأنا أشاهد هذه اللقطات التي لا أعرف منها سوى خالتي قماشة، تساءلت ما الفرق بين «رطرطة» ناصر القصبي وحركات إبراهيم الصلال هنا؟ ما الفرق بين كوميديا «أوه لخبطت في الكلام» التي تملأ كل مسلسلٍ خليجيٍ الآن، وإفيهات خالد النفيسي وعبد الحسين عبد الرضا؟ ما الفرق بين شخصية «الخبل» التي كانت موجودة في كل مسلسل ومسرحية وأيًا كان ما يفعله حبيب الحبيب اليوم؟
يحكي الخليجيون لأنفسهم قصةً كان فيها فنهم رائعًا، ثم تدهور مع الزمن. في السعودية عادةً ما تأتي القصة على شكل «مثل طاش». إذ يريد الجميع -بما فيهم فريق لقيمات- مسلسلًا شبيهًا بطاش ما طاش في قدرته على إضحاك الشعب وجمعهم على شاشة واحدة. لهؤلاء أوجه السؤال: متى كانت آخر مرة تابعتم فيها طاش؟
كانت آخر مرة لي قبل أسبوع. عدت لمشاهدة حلقاتي التي كنت أعتقد أنها مفضلة: الغرق في الأرشيف والكشتة والكاوبوي. وكانت التجربة، مثل أي محاولة لاستعادة شعورٍ مضى، مخيبةً للآمال. على مدى الحلقات الثلاث، عددتُ ضحكاتي على أصابع اليد الواحدة، كانت كثير من النكت محرجة، مثلها مثل نكت «هايبرلوب» أو «بدون فلتر».
بينما تتعلق الحقيقة أكثر بارتفاع ذائقة المتابع المحلي، بعد أن انفتحت عيناه على الأعمال العالمية، الأعمال التي لم تكن لتصل إلى جودتها اليوم لولا عشرات السنين من التجارب والأخطاء خلفها. لو قارن المتابع الخليجي بين ما أعجبه بالأمس وما نفّره اليوم، لوجد أنهما متطابقان، بيد أن أحدهما قد صُوِّر بدقة عالية.
لقيمات: الحلقة الخمسين
كان انعدام التطور هذا الدليل الأول على أن لقيمات -ومن ثم قناة سين- أصبحا نموذجًا مصغرًا لصناعة الفن الخليجي.
ففي بداية عرض لقيمات، كانت فكرة برنامجٍ يوتيوبي يسخر من المسلسلات الخليجية فكرةً جيدة، خصوصًا أنها جاءت في وقتٍ كانت البرامج الساخرة كلها تتشابه، مقلدةً الأنجح حينها: «لا يكثر» و«على الطاير» و«إيش اللي».
تغيّرت الأمور مع مرور الوقت. توقفت البرامج الأنجح الواحد تلو الآخر، واتجه مقدّموها إلى تمثيل الأفلام أو تقديم البرامج التلفزية أو إلى برامج يوتيوبية أخرى.
وفي عام 2017، توقف لقيمات هو الآخر. في الحلقة رقم خمسين قال الكناني:
«بعد خمسين حلقة من برنامج لقيمات، أعتقد إني قلت اللي أبي أقوله، وعبرت عما في نفسي أولًا، وعما في أنفس الكثير من اللي أقابلهم أو يتابعون البرنامج، لذلك أحب أقولكم إني راح أتوقف عن تقديم برنامج لقيمات»
لكن في رمضان الذي تلاه عاد لقيمات، وفي رمضان الحالي لعام 2019 أيضًا. إن انعدام التطور الذي أقصده لا يتعلق فقط بأن القائمين على البرنامج لم يتوجهوا لإنتاج شيء آخر، بل في نوعية البرنامج نفسه.
فالانتقادات المذكورة في الطيار ليست بالجديدة، انتقادات «مشهد أبو رفسة» و«اضحك اضحك اضحك» و«كيميديا» -هل نستطيع أن نناقش كيف أن السخرية من البدو ما تزال أكثر أنواع العنصرية قبولًا؟ لا؟ أوكيه-. وكان الكناني يرد عليها غالبًا بطريقتين: إما بقوله بأن البرنامج ساخر هدفه الإضحاك، أو بقوله بأن جودة المسلسلات الخليجية لا تسمح بالنقد الفني الموضوعي.
النقد وقيمة العمل الفني
يتجاهل الكناني أن العديد من المقالات النقدية تستخدم أسلوبًا ساخرًا مضحكًا دون أن تقلل من قيمتها الفنية، بل إن العديد منها أصبحت تسجل وتصور مثل لقيمات بالضبط. كما يتجاهل أن الأعمال الفنية السيئة بيئة أكثر خصوبة للنقد الموضوعي، حيث تسهل معرفة الصحيح بتوضيح الخاطئ، مثل مراجعات «خمسون درجةً من الرمادي» (Fifty Shades of Grey) و«مُشع» (Bright) و«شيرلوك هولمز» (Sherlock Holmes).
توضح مقاومة النقد باختيار الطريق الأسهل أن عيوب الدراما الخليجية لم تكن بسبب غباوة المنتجين أو انعدام ثقافة الكتّاب والممثلين. الجمود والرضا بالقليل أمران مغريان، والكل مهددٌ بأن يُحرق بناريهما، منتجًا في التلفزيون أو إعلاميًا يوتيوبيًا على حد سواء.
النقد الجيد جيد
في عام 2015، أُنتجت حلقة عن لقيمات من برنامج اسمه وحدة وطن على قناة الإخبارية السعودية الرسمية، يجادل «الخبراء» في الحلقة أن لقيمات يساهم في دفع الشباب إلى التطرف والإرهاب. لا أريد سرد الألعاب البهلوانية الفكرية التي استخدمها الخبراء لإثبات التهمة، إلا أنه وجب علي ذكر الشائعات التي تفضي بأن منتجي البرنامج كانوا زملاء أحد الفنانين الذين انتقدهم الكناني، وفعلوا ما فعلوا ليدافعوا عنه.
أما في عام 2016، أنتج القائمون على مسلسل شباب البومب حلقة تقليدية لقصة برنامج لقيمات، تحت عنوان «برنامج دونات».
وعلى الرغم من أن انتقادهم للبرنامج صحيح، إلّا أن تلفيقهم لدوافع الكناني كان غير أخلاقي، إذ أظهروه ممثلًا فاشلًا صنع برنامجه بدافع الحقد والانتقام، بينما تشير الحقيقة إلى أن الكناني كتب سيناريو أحد أنجح الأفلام السعودية القصيرة، ومثّل برفقة أبرز المخرجين السعوديين الحاليين، كعبدالله العياف وبدر الحمود الذي أخرج أولى حلقات لقيمات.
كانت مشاعري السلبية تجاه لقيمات موجودةً منذ البداية، ونمت في كل سنة. إلا أن الحادثتين السابقتين ساهمتا في تغيير طريقة تفكيري تجاه سوء لقيمات. إذ كنت أراه في الماضي برنامجًا سيئًا لأنه برنامج سيء، لا داعي لأي تفسير أو تبرير. ومع الوقت، وجدت كثيرًا من الذين يتفقون معي في المشاعر، ويتفقون في عدم الحاجة إلى التبرير، أو يكتفون بالقول: «سامج ينكت على سامجين».
ثم بعد الحادثتين، اتضحت لي أهمية التبريرات. لا سيطرة لنا على مشاعرنا، لكننا لا نستطيع أن نعيش دون تفسير هذه المشاعر. وإذا غاب عنا التفسير الصحيح، فسنخترع تفسيرًا آخر يناسبنا، خصوصًا إذا كانت المشاعر التي نريد تفسيرها مشاعر سلبية. الأشرار فقط يكرهون دون سبب.
النقد الجيد نقد حقيقي
يستخدم الكناني في الاقتباس بداية المقال أسلوبًا قوميًا غريبًا لانتقاد صنّاع المسلسلات السعودية. استخدامه لجملة «بلدنا في هذه الفترة تحتاج تكاتف جميع المجالات» لا يختلف كثيرًا عن استخدام الخبير القانوني الذي اتهمه بدعم الإرهاب، «المملكة الآن تمر بفترة المفترض فينا جميعًا التكاتف، ليس إظهار مقاطع من هذه الشاكلة».
وفي حلقة الفن الكويتي يستخدم أسلوبًا مشابهًا لانتقاد من يراهم يشوهون صورة المجتمع الكويتي. لم يتهم الكناني أحدًا بدعم الإرهاب أو تشويه صورة الوطن، وهما تهمتان خطيرتان، لكنه استخدم أسلوبًا يوهم بهاتين التهمتين حتى يعزز من قوّة حجته.
في غياب التبرير الصحيح، تظهر التبريرات الخاطئة التي تكون قاتلة أحيانًا.
بعد الحادثتين، استوعبت أن انتقادي الصامت واللامبرر للقيمات كان جزءًا من المشكلة، لأنني لا أستطيع أن أطالبه بتقديم نقد جيد وأنا الذي أرفض أن أفعل المثل له. ومن هنا جاءت فكرة المقالة، فالنقد الحقيقي لا يكون هجومًا شخصيًا ولا يتنكر بجِلد «النقد البناء» أيضًا، إذ يقدم النقد الحقيقي تبريرًا لشعورٍ ما. فالنقد الحقيقي يقدَّم لجمهور العمل لا لصانعيه.
مع دخول السينما للمملكة العربية السعودية، وبدء التجهيزات لصناعة الأفلام الخليجية، أتخيل أننا سنغرق بموجةٍ ضخمة من النقاد المحليين. وفي حال كان أحد هؤلاء النقاد المستقبليين يقرأ هذه المقالة الآن، أتمنى أن تكون قد ساعدته في فهم مشاعره تجاه لقيمات، وأن يساعد هو الجماهير المستقبلية في فهم مشاعرهم تجاه فنهم الذي يشبههم.