قطار الرياض أمام تحديات احتكار شبكة الطرق
تكمن الفكرة من زيادة الطاقة الاستيعابية للطرق في أي جزء من شبكة الطرق في زيادة عدد مسارات الطريق، أو تحويل تقاطع إلى كبري...
ليس شرطًا أن يحمل المرء شهادة في هندسة النقل أو التخطيط الحضري ليدرك أن النمط الحالي للنقل في المدن السعودية منعدم الكفاءة. حيث يعاني سكان المدن الرئيسة في السعودية من الازدحام المروري يوميًّا، مما يهدر الكثير من أوقاتهم ويضعهم تحت ضغط نفسي مستمر.
ليكمن الحل بالنسبة لهم أخيرًا -ولبعض مهندسي المرور كذلك- في زيادة الطاقة الاستيعابية لشبكة الطرق، بُغية التخلص من الازدحام المروري. فهل يكون ذلك هو الحل؟
إشكالية الطاقة الاستيعابية
تكمن الفكرة من زيادة الطاقة الاستيعابية للطرق في أي جزء من شبكة الطرق في زيادة عدد مسارات الطريق، أو تحويل تقاطع إلى كبري، أو من كبري إلى معبر «كلوفر ليف» (Cloverleaf) الذي ينتج المزيد من الازدحام في ظاهرة تُعرف بالطلب المستحث.
ولفهم إشكالية هذا الحل المؤقت، يمكن النظر للمسألة من منظور اقتصادي. إذ يصل سوق سلعة معينة إلى حالة من الاتزان بكميات عرض وطلب ثابتة عند سعرٍ معين. فبمجرد انخفاض السعر في بعض الأسواق عبر استحداث تكنولوجيا جديدة من شأنها تقليل كلفة الإنتاج، يلاحظ أن الطلب على السلعة يرتفع بالتزامن مع انخفاض السعر.
يمكن تطبيق المفهوم هذا نفسه على شبكة الطرق في المدن السعودية. حيث يقابل العرض المتمثل في الطاقة الاستيعابية لشبكة الطرق طلبٌ ثابتٌ ضمن إطار زمني معين، كرحلات العمل من السابعة إلى التاسعة صباحًا المتكررة والثابتة إلى حد ما.
وعندما ترفع الأمانة الطاقة الاستيعابية مستندة على توقعات مستقبلية لازدياد الطلب بناءً على الطلب الحالي، فإنها تقلل من سعر الرحلة -في هذه الحالة الوقت هو السعر- مما يؤدي لاستحثاث الطلب الكامن على الرحلات المُتجنّبة نتيجة الازدحام قبل زيادة الطاقة الاستيعابية.
فتعود الزحمة إلى سابق عهدها في غضون خمس إلى عشرين سنة. مما يجبر الأمانات على زيادة الطاقة الاستيعابية مرة أخرى في دائرة مفرغة، تُحمِّل الأمانات المزيد من الأعباء المالية، وتفاقم بذلك تردي جودة الهواء والضوضاء في الأحياء المجاورة للطرق.
أزمة الطلب المستحث والاحتكار الطبيعي
أثبتت الدراسات أن زيادة الطاقة الاستيعابية لتقليل الازدحام خطوة غير مجدية، حيث ينتج عنها المزيد من الازدحام على المدى الطويل. فالطلب المستحث مصدره الأفراد الذين كانوا يفضلون تجنب الازدحام قبل زيادة الطاقة الاستيعابية للشارع، وكانوا يقومون بذلك من خلال تغيير أحد العوامل الثلاث التالية: وقت بداية الرحلة أو الطرق التي يسلكونها أو وسيلة النقل.
فبمجرد ما أن تُزاد الطاقة الاستيعابية للطرق، يختفي عنصر الممانعة للأفراد ويتوقفون عن تغيير إحدى العوامل الثلاثة، لأن كلفة الرحلة قلّت. فتعود حالة الازدحام بعد حين من الزمن. وتعرف هذه الظاهرة بالالتقاء الثلاثي إلى جانب ذلك، تحفز زيادة الطاقة الاستيعابية للطرق وما يترتب عليها من تقليل لوقت الرحلات في المدى القريب، العوائل على الانتقال لضواحي المدينة بعيدًا عن صخب الطرق والازدحام المروري. ولكن ارتفاع الهجرة للضواحي يرفع الطلب على الطرق؛ فتعود الزحمة لسابق عهدها.
على صعيد آخر، ومع ازدياد رفاهية السيارة الشخصية، أصبح للفرد حرية التحكم بالترفيه أثناء القيادة، مما يعني أن حساسية الفرد للوقت المنقضي في الازدحام قلّت. فلا يمانع الشخص المكوث في الزحمة شرط الاستماع لبودكاست مثلًا.
فيفضل المرء الخروج حين انتهاء الدوام والوصول للبيت في أبكر فرصة من ذروة الزحمة، وتحمّل مشوار ستين دقيقة رفقة إحدى وسائل الترفيه بدل الخروج بعد الدوام بساعة في مشوار طوله ثلاثون دقيقة، وفي النهاية الوصول للبيت بعد تسعين دقيقة من انتهاء الدوام.
وتكمن الإشكالية في أن زيادة الطاقة الاستيعابية كانت ديدن المدن لمدة طويلة. إذ أدت العديد من الإضافات البسيطة في الطاقة الاستيعابية لشبكة الطرق عبر عقود إلى هيمنة شبكة الطرق على سوق النقل الحضري في السعودية، ممتعةً إياها بما يُعرف بالاحتكار الطبيعي.
الاحتكار في مدينة الخبر
خلال سنوات عدة، بترت شبكة الطرق في الخبر مثلًا مناطق ذات كثافة سكانية عالية، ومنعت السكان من قدرة الانتقال بين هذه المناطق بسهولة إلا بالسيارة الشخصية. وهي حالة تمثل هدرًا للموارد والوقت، خصوصًا في مدينة ذات كثافة سكانية عالية نسبيًا.
كذلك، قامت أمانة المنطقة الشرقية بزيادة الطاقة الاستيعابية لطريق الملك فهد، من خلال إزالة التقاطعات التقليدية بين الشارع السادس عشر والعاشر، وبناء جسر بثلاث مسارات في كل اتجاه، والذي فصل مدينة العمال عن الخبر الشمالية؛ وهما منطقتان ذات أهمية كبيرة وكثافة سكانية عالية.
عسرت الأمانة بهذا التعديل على المشاة قطع طريق الملك فهد. كما فاقمت التلوث البيئي والسمعي في موقع مهم لمدينة الخبر، قد يؤدي لنفور السكان من المناطق المجاورة لطريق الملك فهد مستقبلًا؛ أو تردي الحالة المعيشية لساكني تلك المناطق غير القادرين على تحمل ارتفاع تكاليف السكن في الأحياء التي تنعم بجودة أفضل.
ويتحمل هؤلاء ضريبة التلوث الهوائي والسمعي الذي يسببه قاطنو الأحياء الأخرى حينما يستخدمون هذه الشوارع للمرور. وهي نتيجة غير عادلة لساكني المناطق المجاورة لطريق الملك فهد.
ومن التعديلات الأخرى التي قامت بها مدينة الخبر، إزالة تقاطع شارع البيبسي وشارع الأمير تركي المجاور لفندق المريديان والإشارة الضوئية بسبب تكدس السيارات عند الإشارة، نتيجة الطلب المتزايد في أوقات الذروة، واستبداله بتقاطع زاد من انسيابية المرور.
ولكن المدينة لم توفّر ممرات واضحة للمشاة عند التقاطع، خصوصًا أنه يُعد نقطة مهمة يمكن استغلالها لنقل المشاة بأمان من الخبر الشمالية إحدى أكثر الأحياء السكنية كثافة في الخبر وزوار المنطقة من المشاة على شارع البيبسي لكورنيش الخبر، منطقة الترفيه الأهم في المدينة.
شبكة النقل العام وتحدي المنفعة
تخيل أنك في الرياض عام 2025، وقد طبقت أمانة الرياض رسومًا على دخول المنطقة المركزية لمدينة الرياض قيمتها x ريال، لتقليل الازدحام المروري. وتخيل أنك تمتلك سيارة اقتصادية. وأن مترو الرياض شرع في العمل، وأن قيمة الرحلة مرتبطة بمسافة الرحلة، فكلما زادت مسافة الرحلة ارتفعت قيمتها.
في صباح يوم سبتٍ مشمس لشتاء جميل ودرجة حرارة مناسبة -فرضًا 20 درجة مئوية- قررت أخذ رحلة إلى سوق الزَّل في المنطقة المركزية. افرض أن الخيارات المتوفرة للقيام بالرحلة اثنتان فقط: المركبة الشخصية والمترو. فتحت تطبيقك المفضل للملاحة، واتضح أن قيمة استخدام المترو في رحلة ستأخذ منك ثلاثين دقيقة وخمس دقائق من المشي هي عشرُ ريالات. أما قيمة السيارة الشخصية، فستأخذ منك أربعين دقيقة وثلاثين ريالًا، قيمة دخول المنطقة المركزية، فأيهما ستختار؟
يعتمد قرار اختيار وسيلة نقل لرحلة على القيمة الهامشية للرحلات رغم القيمة المرتبطة باستهلاك الوقود وتملّك سيارة شخصية، وسنفرض جدلًا أن الأشخاص يتخذون قراراتهم بناء على القيمة الهامشية للرحلات فقط.
وفي سيناريو مفترضٍ آخر، ماذا لو كانت كلفة رحلة مترو هي نفسها السابقة، عشر ريالات مقابل ثلاثين دقيقة سيرٍ وخمس دقائق من المشي، مقابل قيمة رحلة السيارة الشخصية في نفس الرحلة لمدة عشرين دقيقة بقيمة خمس عشرة ريال، قيمة دخول المنطقة المركزية.
تخيل معي لو أن تكلفة رحلة السيارة تقلصت أكثر لتصير المدة عشر دقائق دون رسوم دخول للمنطقة المركزية، مع العلم أن وقت وقيمة رحلة المترو ما تزال نفسها. فماذا ستختار؟
يمكن الجزم أن نسبة الأشخاص الذين اختاروا رحلة المشي والمترو نقصت من المثال الأول للثاني، ومن الثاني للثالث؛ لأن الوقت المطلوب للوصول قل ومعه قيمة دخول المنطقة المركزية. مما يعني أن الوقت والتكلفة غالبًا ما يكونان العاملين الأهم.
مترو الرياض أمام بهيموث شبكة الطرق
وإذا أرادت المدن السعودية جعل شبكة النقل العام جاذبة دون فرض رسوم على شبكة الطرق، ينبغي لها منافسة شبكة الطرق في تقليل وقت الرحلات.
وبما أن شبكة الطرق تتمتع باحتكار طبيعي، وما يترتب على ذلك من توفير أفضل خدمة بأقل تكلفة -الوقت المستهلك في الرحلة- فمن الصعب جدًا أن ينافس مترو الرياض شبكة الطرق في الرياض دون ارتفاع متوسط مدة رحلات السيارة الشخصية، أو أن تلجأ المدينة لفرض رسوم دخول على مناطق معينة يزداد فيها الازدحام المروري.
من الضروري الإشارة إلى أن المثال الماضي تنقصه الكثير من المتغيرات. كما أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية للفرد تؤثر بشكل كبير على قرار نوع وسيلة النقل. فجودة البنية التحتية للمشي من تشجير وترصيف وشعور بالأمان، بالإضافة لمستوى دخل الفرد وتقديره للوقت ودرجة التعليم والوعي البيئي، كلها عوامل تصب في اختيار وسيلة النقل.
وفي حال رغبتهم في جذب السكان لشبكات النقل العامة، ينبغي أن يُدرك مخططو المدن ضرورة زيادة نسبة السكان الذين يرون بأن استخدام شبكة النقل العامة يناسب منفعتهم الشخصية مقارنة باستخدام شبكة الطرق.
ويتم ذلك عبر تغيير منظور الأشخاص النفسي تجاه استخدام شبكة النقل، وتحسين البنية التحتية والمرافق ابتداءً من الشارع للحارة للحي، وكبح جماح النمو المفرط لشبكة الطرق، أو حتى التفكير في تقليل طاقتها الاستيعابية من خلال تبنِّي حمية شوارعية عبر الرياض أو حتى التخلص من بعض الطرق السريعة.
قياس أداء المترو
هل ينجح مترو الرياض؟ قد تستحيل الإجابة عن هذا السؤال الآن. ويبقى من المهم تحديد معيار قياس منصف لأداء المترو. وأفضل طريقة لتقييم أداء شبكات النقل العامة من خلال قياس قيمة نابعة من مبدأ اقتصادي يعرف بـ«الفائدة الإجمالية للمجتمع» (Net Social Benefit).
فمتى ما أصبحت قيمة الفائدة العائدة على المجتمع إيجابية من مترو الرياض، متمثلة في تقليل الازدحام المروري وما يصاحبه من فوائد بيئية واقتصادية، أو من ناحية تيسير الوصول لفرص تعليمية أو وظيفية أو ترفيهية، بالإضافة إلى حصول الجهة المشغلة لمترو الرياض على دخلٍ معقولٍ حتى لو لم يغطي تكاليف التشغيل؛ فذلك يعني نجاح شبكة النقل في النطاق الحضري الذي تشغله.
وتتطلب عملية تقييم الفائدة الإجمالية للمجتمع من شبكات النقل معرفة تكلفة توفير البنية التحتية وتكلفة التشغيل، بالإضافة لجمع معلومات وبيانات عن طبيعة خدمة شبكة النقل -كتكلفة استخدام المترو وعدد مستخدمي المترو وغيرها- ثم تحليلها من قبل مختصين اقتصاديين، لتحديد الفائدة الإيجابية الإجمالية المحتملة على المجتمع.
سيخسر مترو الرياض الكثير من المستخدمين إذا استمرت هيمنة شبكة الطرق على سوق النقل الحضري. إذ تستطيع الشبكة توفير متوسط وقت رحلات منخفض لا يمكن للمترو أن ينافسه، خصوصًا أن معدل تملك السيارات في الرياض عالٍ جدًا. ولكي يكسب مترو الرياض المزيد من المستخدمين، يجب عليه توفير خدمة يفضّلها الأفراد على استخدام شبكة الطرق.
فجوانب جودة الخدمة التي تستطيع الشركة المشغلة لمترو الرياض التحكم بها محصورة على المتغيرات التالية: زيادة تردد الباصات والقطارات، حيث توفر عددًا أعلى من الرحلات في الساعة لمحطة معينة، وتقليل وقت الرحلة والمحافظة على نظافة وأمن المحطات والباصات والقطارات.
الكثافة السكانية
من الجانب الآخر، تؤثر عوامل خارجية أخرى على رحلة المترو خارج نطاق تأثير الشركة المشغلة، ومن بينها جودة رحلة المشي للمحطة التي تتأثر بعوامل كالتشجير وجودة الأرصفة. لكن لمترو الرياض قدرة التحكم الجزئي في بعض العوامل الخارجية، مثل تخطيط مواقع محطة الباص، واختيار مواقع مثلى في الأحياء، تقلل متوسط وقت الوصول للمحطة.
وتبقى مسألة الكثافة السكانية المنخفضة في الأحياء خصوصًا الواقعة شمال طريق خريص أمرًا عالقًا. فكي تتمكن الجهة التخطيطة من المحافظة على متوسط وقت رحلات منخفض، لا بد لها من تكثيف محطات الباصات في أحياء تتسم بكثافة سكانية منخفضة، محملة مخططي المترو كلفة بناء محطات إضافية وتشغيل خطوط باصات لا تلاقي عائدًا ماليًا يوازي العائد المادي في حي بكثافة سكانية عالية.
ولو كانت الكثافة السكانية في الأحياء مرتفعة، لكان بالإمكان خدمة عدد أكبر من السكان من نفس المحطة وبنفس خط خدمة الباصات مستغلة بذلك مبدأ وفورات الحجم.
لكن موضوع رفع الكثافة ليس بالسهل. إذ يتطلب تدخلًا حكوميًّا ذي تبعات قانونية وتغييرات جذرية للتشريعات السكنية الحالية، إجراءاتٌ يحتاج تنفيذها لتكلفة باهظة ويضع الجهات التخطيطية في موقف لا تُحسد عليه.
التغيرات الحضرية ومستقبل الرياض
هل من المجدي اقتصاديًا الاستثمار في تطوير البنية التحتية للرياض ورفع جودة المشي أو زيادة الكثافة السكانية لرفع مستوى خدمة شبكة النقل العام في الرياض دون تقليل هيمنة شبكة الطرق؟ وهل سيقل الازدحام المروري في حال افتتح مترو الرياض؟
بالشكل الحضري لمدينة الرياض الحالي، تبقى احتمالية انخفاض الازدحام مستبعدة، إذا لم يقل الطلب على شبكة الطرق من خلال تسعير بعض الطرق أو تقليل الطاقة الاستيعابية للشوارع. وانطلاقا من مبدأ الالتقاءالثلاثي، أعتقد أن الطلب الحالي سيطفح بعد فترة تتراوح من خمس إلى عشرين سنة.
والسبب في ذلك ازدياد النمو السكاني في الرياض الذي يرفع من الطلب على الطرق من الفئة التي لا تمانع البقاء في الازدحام أوقات الذروة، شرط الوصول إلى البيت في أقرب فرصة. سيزداد الطلب على الطرق حتى يصل مستويات مماثلة قبل افتتاح مترو الرياض فيعود الازدحام المروري كما كان.
الفترة الزمنية بين افتتاح مترو الرياض وحتى عودة الطلب هي مربط الفرس. ما التغييرات الحضرية التي ستشهدها مدينة الرياض؟ هل ستُفرض تشريعات ترفع جودة وكثافة الإسكان؟ هل ستساهم هذه التغييرات في توزيع الطلب على وسائل نقل متعددة؟ وهل سيتأقلم الناس مع الوسائل الأخرى؟
نتيجة الازدهار الاقتصادي الذي تشهده الرياض، ربما من الصعب إحداث أي تغيير في الوقت الحالي مع الازدياد المهول في عدد السكان. ولكن أكثر ما أخشاه أن ينمو الطلب على العقار في الرياض بشكل يفقد الرياض المرونة اللازمة لتغيير الوجهة لمستقبل مؤنسن، ويجعل من محاولات الرياض في استدراك الموضوع وتحويل الرياض لمدينة يعتمد سكانها على شبكة نقل مستدامة شبه مستحيلة.