أبناء السندباد: جشع النواخذة في موسم اللؤلؤ

يصف رحالة أسترالي الغواصين بأنهم زمرة من المتفائلين، على عكس ما تحكيه الروايات الشفهية التي تحكي معاناتهم من أجل اللؤلؤ وتهميشهم تاريخيا.

«هذه المقالة مهداة لأرواح البحارة الذين قضوا حياتهم في أعماق وظلمات بحر منطقة الخليج العربية في موسم اللؤلؤ»

يتلألأ البحر بصفحته الفيروزية على شاطئ الخليج العربي مليئًا بقوارب الصيد الخشبية واليخوت الفارهة والقوارب الصغيرة لهواة البحر. تحفّه الأبراج العالية المبنية من الإسمنت والحديد الصلب بواجهاتها الزجاجية اللماعة. والناس في هذا الوقت بالذات، أي في شهر أكتوبر الحالي، يستمتعون بشمسه الهادئة ولفحات النسيم القادمة من الخليج.

يبدو البحر في هذه الصورة مجرد أداة ترفيه وميزة إضافية حصلت عليها الكويت لتشيّد على واجهته مئات المطاعم والمقاهي والمزارات السياحية. وتبدو مدينة الكويت بصورتها الحديثة، مجرد ركام من الإسمنت والصلب والزجاج؛ وُجد فجأة بسبب نعمة النفط التي نزلت على دول الخليج العربية. لكن خلف هذه الصورة عقودٌ -بل قرونٌ- من معاناة السكان تحت رزخ الفقر الشديد والتمييز الطبقي الذي عاناه مجتمع مدينة الكويت قديمًا.

أكبر مغاصات اللؤلؤ في العالم 

كانت الكويت في السابق ميناءً تجاريًا كبيرًا، وواحدة من أكبر مغاصات اللؤلؤ الطبيعي في العالم. حيث بلغ عدد سفن الصيد ثمان مائة وعشر سفينة، ومتوسط عدد البحارة في كل سفينة سبعين بحارًا. وبلغت عوائد الغوص السنوية في أحد المواسم ستة ملايين روبية هندية.

بدت المدينة في موسم الغوص «خالية من الرجال» وفق المصادر الأجنبية، إذ غاب الرجال في البحر بحثًا عن اللؤلؤ. ولم يبق في المدينة غير النساء والصبية وبعض العاجزين من ذوي الإعاقة.

ويوصف زمن الغوص في الكويت اليوم بزمن جميل «بذل فيه الآباء والأجداد التضحيات العظام في سبيل تحصيل لقمة العيش» دون أن يكلف الكثير من الباحثين -إما لجهل، أو لغاية في أنفسهم- محاولة تفكيك النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي نتج عن الغوص بحثًا عن اللؤلؤ، والذي استُعبد فيه البحارة بشكل كبير وعاشوا طوال عقود تحت وطأة الديون التي ورّثها الكثير منهم لأبنائهم.

معاناة البحارة في موسم اللؤلؤ

من الجانب الآخر، تنقل الوثائق البريطانية شهادات الرحالة الأجانب الذين سجلوا انطباعاتهم المخيفة عن معاناة البحارة، واصفين الغوص بحثًا عن اللؤلؤ بالجحيم الذي لا يطاق على الجانب البدني والاقتصادي. إذ اضطر الفقراء على طول ساحل الخليج العربي للمشاركة في موسم الغوص الشاق بدنيًا، على أمل الحصول على مبالغ إضافية تكفيهم عناء الفقر، في ظل انعدام الزراعة والصناعة وعجز الكثير منهم على التجارة.

فكان معدل غوص الغواص الكويتي في مياه بحر الخليج العربي في كل موسم غوص ثلاثة آلاف غطسة. أما عدد الساعات التي يقضيها الغواص تحت الماء بدون نفس فنحو الأربعين ساعة أسبوعيًا.

كما كان الغواصون يحجمون عن الأكل الذي يكفي حاجتهم الجسدية خوفًا من زيادة وزنهم وإخفاقهم في الحركة تحت الماء. وهو ما أدى إلى انتشار مرض «الأسقربوط»، أو ما يسمى اليوم بنقص الفيتامين سي، مرضٌ

مصاحب لسوء التغذية.

وسجل الرحالة الأجانب، الذين زاروا سفن الغوص بدافع الفضول أو لتسجيل انطباعاتهم وإرسالها إلى الدوائر الاستعمارية البريطانية في الخليج، صورًا مروعة لحوادث الغوص التي كان الغواصون يتعرضون لها.

كجثة غواص أو اثنين تكدسا على جانب السفينة، أو بحار يحتضر. إذ أن تأخر السيب (وهو الرجل المكلف بجر حبل الغواص ورفعه إلى سطح السفينة) يؤدي إلى موت الغواص غرقًا. إضافة إلى أن سمكة الجرجور، وهي نوع من أنواع القرش المنتشر في مياه دول الخليج العربية، حصدت أرواح الكثير من الغواصين الذي تركوا أبناءهم يتامى يرزخون تحت وطأة الديون الثقيلة.

صورة العبودية الحديثة

وعلى الصعيد الاقتصادي، شكّل نظام الغوص صورة من صور العبودية الحديثة. فلم يكن الغواصون عبيدًا يباعون ويشترون في سوق نخاسة خاص بهم، لكن الظروف الاقتصادية التي فرضها التجار والنواخذة (ربان السفينة وقائد رحلة الغوص) عليهم أدت بهم إلى أن يصبحوا أشباه عبيد.

جرت العادة أن يقرض التجار النواخذة الذين يقرضون بالمقابل البحار والغواص مبالغ مالية تكفي عائلتهم خلال غيابهم للغوص. على أن يقوم بسداد الدين والحصول على الأرباح عقب تقاسم أموال اللؤلؤ المصطاد عقب نهاية موسم الغوص.

لكن المصادر التاريخية تشير إلى أن الغواص نادرًا ما يحصل على مبلغ كافٍ لسداد دينه. فيضطر للاستدانة مرة أخرى من النوخذة ويدخل في دوامة الديون. وفي حال وفاة الغواص والبحار دون سداد ما عليه للنوخذة، فإن هذا الأخير يعرض البيت الذي يسكنه أبناء الغواص في المزاد العلني ويتحصل على ديونه من أموال البيت المباع.

وكأن الديون التي أثقلت جيب الغواص والبحار إلى قعر المحيط ليلقى حتفه، تعود لتثقل كاهل الأبناء.

أبناء السندباد

لم يكن ليتسنى لنا أن نعرف الكثير عن صعوبات الغوص، وما تعرض له الغواصون في الكويت من ظلم وصعوبات كبيرة، لولا وثيقة تاريخية هامة كتبها بحار أسترالي غريب الأطوار يدعى آلان فليرز، والذي كان مهووسًا بقيادة السفن الشراعية، رغم أن استخدامها انتهى في العالم الغربي منتصف القرن التاسع عشر.

وأدى حب آلان فليرز للسفن الشراعية به إلى زيارته منطقة الخليج العربي وسواحل إفريقيا الشرقية والمحيط الهندي، وهي آخر المناطق التي بقيت تستخدم الإبحار الشراعي في ثلاثينيات القرن الماضي.

لكن أهم ما جاء في كتاب «أبناء السندباد» الفصل الذي عقده عما تبقى من مواسم الغوص في دول الخليج العربية، والذي تعرض لهزة كبيرة عقب اكتشاف اللؤلؤ الصناعي في بريطانيا، وتضاءلت أهمية اللؤلؤ الطبيعي كوسيلة للزينة. حيث يقول في الفصل المعنون بـ«الغوص بحثًا عن اللؤلؤ في الخليج»:

«الهيكل الاقتصادي لصيد وتجارة اللؤلؤ مبني على الدَين، فقد كان الغواص مدينًا للنوخذة، وكان النوخذة مدينًا للتاجر الذي يموله وهكذا…»

ويصف فليرز الفوائد التي توضع على قروض الغواصين بأنها «سرقة واحتيال دون حياء». كما يصف الغواصين بأنهم «زمرة من المتفائلين، المغامرين، غير المبالين، وكان معظمهم يموتون وهم صغار السن»

ورغم هذا، تعرضت شهادات فليرز، الذي كان ينتمي لعائلة من الطبقة العاملة لها ميول اشتراكية، لانتقادات كثيرة داخل الكويت، متهمة إياه بالجهل بنظام الغوص، وغامزة تعاطفه مع الغواصين بانطلاقه من تعاطف الطبقة العاملة مع بعضها حول العالم.

لكن الروايات الشفهية لتاريخ الغوص في الكويت، والتي يتناقلها أحفاد الغواصين والبحارة فيما بينهم اليوم، تؤكد حجم التفاوت الطبقي والقهر الذي عاشه البحارة داخل البحر من حيث الصعوبات الجسدية، وخارجه من ناحية الديون التي تثقلهم وتثقل كاهل عائلاتهم.

«بس يا بحر»

من الصدف التاريخية أن يعدّ فلم «بس يا بحر»، أول فلم روائي كويتي طويل، الأفضل في تاريخ الكويت، حسب شهادات النقاد السينمائيين. إذ تبوأ الفلم المرتبة التاسعة عشر ضمن قائمة أفضل الأفلام العربية لتصنيف مهرجان دبي للسينما

أنتج الفلم عام 1972، وصور مدى الظلم والقهر الذي عانى منه الغواصون في المجتمع الكويتي، إضافة إلى قساوة البحر الذي يبدو من الأعلى هادئًا وجميلًا وبعيدًا عن التوحش.

ويحكي قصة معاناة عائلة غواص لؤلؤ كويتي فقيرة مع البحر. إذ يصاب الوالد بإعاقة في يده نتيجة غوصه بحثًا عن اللؤلؤ في السابق، ويحاول منع ابنه من الغوص. لكن الابن يصر على الغوص طمعًا في إخراج عائلته من الفقر والظفر باللؤلؤة الثمينة التي ستمكنه من الزواج بحبيبته. فهل يظفر الابن باللؤلؤة؟ أم يكررّ قدر والده؟ 

عاصفة من النقد

أثارت الصورة السلبية للنواخذه في الفلم عاصفة من الانتقادات داخل الكويت. فاتهم أحفاد الأسر التجارية وأبناء النواخذة الفلم بتشويه صورتهم وتشويه صورة المجتمع الكويتي.

وشن المؤرخون الكويتيون حملة عليه، أدت في نهاية الأمر إلى تأليف أحد أبرز المؤرخين في تاريخ الكويت، سيف بن شملان الرومي (وينتمي لأكبر أسر النواخذة في الكويت) كتاب «تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي»، والذي جاء بحسب زعمه ردًا على «الإساءة لتاريخ الكويت البحري»

لكن الشواهد الشعرية التي سجلها الشعراء البدو الذين اضطروا لدخول البحر بسبب فقرهم، أو الفقراء القادمين من قرى نجد إلى الكويت بحثًا عن الرزق، جعلت من العسير على أحد إنكار ما تعرض له البحارة طوال سنوات طويلة من الأذى الجسدي والنفسي.

يقول جمعان الحضينة العازمي، وهو بدوي اضطر لدخول البحر بسبب الفقر، صدمته من الحالة التي يعيشها البحارة فقال:

هني من فارق السنبوك / شاف الغنم والبعاريني

تسعين ليلة وأنا مملوك / كني من السوق شاريني

والنوخذة حلني بملوك / عشرج من الصبح يسقيني

والسنبوك هو نوع من أنواع السفن الشراعية.

فيما يصف شاعر مجهول تناقلت الأجيال أبياته، معاناته مع أوامر النوخذة القاسية:

تشاورا بالغوص عمسين الأشوار / يا سامعين الصوت لا تركبونه

إن قلت راسي قال شبوا له نار / وإن قلت بطني قال دنوا حلوله

وإن قلت ماني بطيب قال عيار / دواهي والعذر ما يقبلونه

طمس تاريخ البحارة

أدى اكتشاف النفط في الكويت ودول الخليج العربية إلى طمس هذا التاريخ الحافل بالقهر الذي عاشه البحارة تحت وطأة النواخذة والتجار عقودًا طويلة.

لكن المحاولة التي تجري اليوم إلى إحلال تاريخ غير حقيقي وتحويل تاريخ البحارة والغواصين الذين عانوا طوال عقود إلى تاريخ «شفوي» و«بديل»، يتجاهل التضحيات التي بذلها البحارة في مياه دول الخليج العربية عمومًا، ومجتمع مدينة الكويت القديمة خصوصًا. ويساهم في ترسيخ صورة نمطية عن المجتمعات الخليجية بأنها عاشت قرونًا طويلة بلا معاناة أو جهد يذكر، وأنها جاءت إلى الوجود من العدم.

بالطبع لم يكن النواخذة أشرارًا على كافة المستويات. فقد بنى الكثير منهم المساجد، وكفلوا الأيتام وأقاموا المدارس بمعيّة التجار. بل قامت أول مدرسة في تاريخ الكويت، وهي المدرسة المباركية، بسواعد التجار أنفسهم.

لكن هؤلاء التجار كانوا كما البحارة، ضحايا لنظام اقتصادي صارم، صُمّم بفعل الحاجة وقلة الموارد الطبيعية، لقهر جميع الأطراف من التجار والنواخذة والبحارين ومن هم أدنى رتبة.

ورغم أن الجميع يتفق على طيّ هذه الصفحة من التاريخ، يلزم أن نتذكر -ونحن نمشي تحت أشعة شمس شهر أكتوبر الهادئة على شاطئ الخليج العربي- تضحيات هؤلاء البحارة وتعرض الكثير منهم للحتف في سبيل نظام جشع.

اقتصاد الخليج العربيالتاريخالعبوديةالمجتمعالرأسمالية
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية