قصة الإنترنت العربية: «مكتوب» أو لماذا يبيع العرب شركاتهم؟

يتناول الكاتب سفر عيّاد في هذا المقال قصة صعود موقع مكتوب حتى استحوذت عليه ياهو مقابل عشرات الملايين من الدولارات حتى السقوط والاختفاء من الويب العربي.

في بداية الألفية وفي ساحات الإنترنت العربية، خلت المنصات العربية من أي شيء مثير للتصفح والتواصل، وكانت أكبر المواقع مجرد منتديات تعمل ببرمجية «في بوليتين» (VBulletin)، التي مثلت ساحة للنقاش والتواصل. فكان لكل دولة عربية ثلاث أو أربع منتديات كبرى تتصارع على عدد المستخدمين القليل جدًا في ذلك الوقت. حتى أتى رائد الأعمال سميح طوقان الذي قدم وجهة نظر مختلفة حول هذه المنتديات. والذي أراد من خلالها أن يحقق استثمارًا لنفسه أولًا وللمنطقة ككل.

أسس سميح طوقان موقع «مكتوب» في العام 2000، كأول موقع عربي يقدم خدمة البريد الإلكتروني المجاني باللغتين العربية والإنقليزية. وفي العام 2009، أي بعد تسع سنوات من العمل تطور الموقع ليضم أكبر مجتمع عربي على الإنترنت يستخدمه أكثر من ستة عشر مليون مستخدم. ليجني طوقان ثمار استثماراته بعد أن استحوذت شركة ياهو على مكتوب بمبلغ 85 مليون دولار أميركي.

إنطلاقة «مكتوب» 

بدأ مكتوب من بوابة بسيطة لخدمات البريد الإلكتروني التي تنقل بعض الأخبار إلى شركة عملاقة تجني الملايين. كما نجح في الحصول على تمويل من بنك «إي  إف جي» المصري (IFG). كان تمويل شركة ناشئة تعمل في مجال الإنترنت في ذلك الوقت ضربًا من الجنون، إلا أن طوقان استطاع الحصول على التمويل.

ولكن الانطلاقة الحقيقية للموقع لم تبدأ إلا في العام 2005 بعد استحواذ أبراج كابيتال، أكبر شركة استثمار مباشر في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على 40% من مكتوب. عندها انفتحت شهية الموقع نحو الاستحواذات.

لم يطل استثمار أبراج كابيتال في مكتوب طويًلا، إذ باعت حصتها بعد سنتين فقط إلى «تايقر قلوبال مانجمنت» (Tiger Global Management). ولكن استحواذات مكتوب لم تتوقف.

إذ يُحسب لإدارة مكتوب أنها كانت تنظر إلى الوطن العربي كمنطقة عمل واحدة؛ ولم تقم بحصرِ نفسها ضمن نطاق دولة بعينها. لذلك شملت الاستحواذات عدة بلدان عربية على رأسها السعودية والأردن والإمارات واليمن ومصر.

استحواذات مكتوب

استحوذت مكتوب على أكبر تسع منتديات عربية في عدد الزوار، أو التي تقدم محتوى أو خدمات متخصصة في مجال معين ، وتخدم فكرة مكتوب من بيع الإعلانات في المواقع المتخصصة.

وكان من ضمن هذه المواقع موقع الرياضة للأبد ومنتديات شبوة نت وموقع بنت الحلال ومنتديات الجوال ومنتديات ماجدة وموقع الفراشة وعالم الحياة الزوجية ومنتدى الإمارات للأوراق المالية ومنتديات العرب المسافرون.

لم تكشف مكتوب قيمة هذه الاستحواذات. فبعد كل هذه الاستثمارات التي تمت بتخطيط منتظم ومتباعد، وبعد إضافة المنتديات كمواقع ضمن الدومين الرئيس لموقع مكتوب، ارتفعت نسبة زوار الموقع ليصير من أكبر المواقع العربية زيارةً.

أما الإيرادات فنمت بعد كل الاستحواذات لتتوزع مصادر دخل مكتوب بين الإعلانات وبطاقات خدمة «الكاش يو» (CashU) التي تلتقي مع نظيرها «باي بال» (Paypal) في الهدف، ثم التجارة الإلكترونية عبر موقع سوق.كوم، وأخيرًا اشتراكات موقع بنت الحلال التي تقدم مميزات للبحث عن شريك.

حفل إطلاق أول بطاقة إلكترونية مسبقة الدفع CashU بالإمارات / Mastercard

وشكّل مكتوب النواة التي انطلق منها مكتوب في تكوين ما أصبح يُعرف بـمجتمعات مكتوب. لكن استثمارات مكتوب لم تتوقف عند هذا الحد. فماذا كانت الخطوة التالية بعد كل هذه الاستحواذات؟

تمرير الصفقة إلى شركة ياهو 

قد يتذكر من عاش تلك الفترة أن بناء مكتوب قد تم ضمن إستراتيجية مُعدة مسبقًا تبتغي بيعه في النهاية لشركة ياهو الأجنبية. وبناء على ذلك، صُمّمت الصفحة الرئيسية لموقع مكتوب مطابقة تمامًا للتصميم المتبع في موقع ياهو؛ إذ كان ذاك نمط بوابات الإنترنت المُتبع في ذلك الوقت.

وعرّفت ياهو نفسها آنذاك كبوابة عالمية للإنترنت تضم الكثير من الخدمات. من جهة أخرى، قدمت مكتوب نفسها كبوابة عربية شاملة لمجموعة من الخدمات التي يحتاجها المتصفح.

ولكن، ما الذي جعل شركة ياهو تهتم بالاستحواذ على شركة في المنطقة العربية يطغى على محتواها منتديات تحتوي مخالفات قانونية متعلقة بمحتوى مقرصن؟

لم تكن ياهو تستخدم برمجيات مثل الـ«في بوليتن» التي كانت رائجة جدًا في المنطقة العربية. إلا أن مكتوب كانت تحمل بعض الأرقام المغرية مثل عدد المستخدمين، كما ضمت بوابة تشمل كل شيء بما في ذلك يوتيوب باللغة العربية.

فمن خلال خدمة كليبات مكتوب استطاع المستخدمون رفع مقاطع فيديو عديدة تحاكي ما كان ينشر على يوتيوب في أوائل 2005. كما حظي الموقع الرئيس بعدد زيارات بلغت أكثر من خمسة ملايين زائر غير متكرر في الشهر.

وقبل الصفقة بعدة أشهر، تسربت أخبار عن استحواذ شركة ياهو على مكتوب لتنطلق إشاعات كثيرة حول مبلغ الصفقة وصل بعضها إلى مبلغ 100 مليون دولار أميركي.

موقع ياهو مكتوب / IPTC

وجدت ياهو -أثناء المفاوضات- نفسها أمام نسخة عربية من موقعها الرسمي، ولا ينقصها سوى وضع شعارها على الموقع. لتعلن بعد ذلك عن استحواذها على موقع مكتوب بمبلغ يصل إلى 85 مليون دولار.

وأوضحت ياهو أن الإندماج مع موقع مكتوب سيكون مكسبًا لجميع الناشرين والمعلنين والمستهلكين في المنطقة. ليتحول مكتوب لاحقًا إلى ياهو الشرق الأوسط.

الاستثمار في مجال الإنترنت

لم تكن الصورة عن الاستثمار في مجال الإنترنت وردية في تلك الفترة، إذ كانت تداعيات فقاعة الدوت-كوم في أميركا لا تزال حاضرة بالقصص عن إفلاس الشركات، وخيّم حذر شديد من الاستثمار في مشاريع ناشئة تعتمد على الإنترنت. أما في منطقتنا العربية، لم تكن بيئة ريادة الأعمال قد تكونت بعد. إذ كان الإنترنت للترفيه والألعاب فقط.

من الجانب الآخر، نُظر لبعض المشاريع كرائدة في المجال مثل عجيب.كوم من شركة صخر الذي كان يقدم خدمة الترجمة المجانية، بالإضافة إلى بوابة إخبارية. وأين.كوم الذي كان يمثل محرك البحث العربي والموسوعة العربية للكمبيوتر والإنترنت (C4arabs). لكنها هي الأخرى افتقدت لأي خطة للتوسع أو الاستثمار فأُغلِقت لاحقًا. باستثناء موقع آرابيا.كوم والتي يمكن القول بأنها أكبر عملية استثمار جريء في تلك الفترة.

فقد قام الملياردير الوليد بن طلال بتمويل المشروع بمبلغ اثنين وعشرين مليون دولار أميركي، إلا أنه لم يلق النجاح. حيث ضُخت أموال كثيرة في الإعلانات التلفزية دون تقديم منتجات أو خدمة للمستخدمين ليُغلق الموقع بعد ذلك.

في غضون ذلك، أجرت ياهو بعض التحديثات على موقع مكتوب ولكنها لم تنجح في رفع شعبية واستخدام الموقع. من الجهة الأخرى، شمِلت محفظة طوقان عدة مواقع أخرى لم تتضمنها الصفقة، إذ يبدو أنه كان يُعد العدة لصفقة أخرى مربحة في السنوات القادمة.

احتفظ طوقان لنفسه بمواقع مثل سوق.كوم المتخصص في التجارة الإلكترونية، وموقع كاش يو للدفع أونلاين عن طريق بطاقات ائتمانية خاصة بالإنترنت، وموقع بنت الحلال المتخصص بالزواج عبر الإنترنت، ومحرك البحث العربي «عربي»، وموقع تحدي الألعاب «إم إم أو قيمز». وذكرت المصادر الإخبارية في ذلك الوقت أن «احتفاظ طوقان للمواقع الثلاثة يعود إلى رغبته في استثمارها وإعادة بيعها».

كان هدفه التالي واضحًا تمامًا، إعادة الاستثمار ثم البيع، ليعلن عن شركته الجديدة «جبار» برأس مال قدره عشرون مليون دولار.

سوق.كوم

مكتب سوق.كوم في دبي / Reuters

بدأ سوق.كوم كموقع للتسوق على الصفحة الرسمية لموقع مكتوب تحت اسم «مكتوب شوبنق» (Maktoob Shopping). ولكن التجارة الإلكترونية لم تكن رائجة في تلك الفترة، ولم يلق هذا القسم أي قبول. فتحوّل الموقع إلى مزاد مكتوب الذي عُدّ النسخة العربية من موقع المزادات الأميركي «إيباي» (eBay).

وفي العام 2005، أُسّس موقع سوق.كوم كشركة مستقلة عن مكتوب مع رونالدو مشحور ريادي الأعمال السوري؛ لتبدأ قصة أخرى من النمو. ثم في العام 2012 أعلن سوق.كوم المدعوم من شركة جبار عن استحواذه على موقع سكر دوت كوم في إضافة قوية لمحفظة جبار، ليتضح بعد ذلك أن سوق.كوم يُجرى تجهيزه من أجل بيعه إلى شركة أمازون!

أغلقت سوق.كوم أولى جولاتها الاستثمارية في العام 2012 بقيادة «نابستر لمتيد» (Naspers Limited) و «تايقر قلوبال مانجمنت» التي تُعدّ مستثمرًا مبكرًا في مكتوب. تلا ذلك إطلاق شركة الدفع الإلكتروني «بيفورت» (payfort) في عام 2013 والتي جاءت لتطوير خدمة كاش يو.

وفي العام 2016 أغلق سوق.كوم جولته الإستثمارية الثانية بقيادة عدد من المستثمرين العالميين بإجمالي مئتين وخمسة وسبعين مليون دولار أميركي. وللمقاربة أكثر مع نموذج أمازون التجاري، قام طوقان ومشحور بالاستثمار في تطبيق «إنستا شوب» (InstaShop) المتخصص في بيع منتجات البقالة. ثم أعلن بعد عدة أشهر تقديم خدمات توصيل منتجات البقالة. كان كل ذلك سريعًا وفق عمل محكم.

التحول الرقمي في الشرق الأوسط

عادت الأخبار من جديد عن رغبة مؤسسي سوق.كوم في الخروج من الشركة وبيعها إلى أمازون، وفي تلك الأثناء وبالتحديد في نوفمبر 2016 أعلن الصندوق السعودي للاستثمارات العامة عن الاستثمار بنسبة 50% في منصة نون للتجارة الإلكترونية بالشراكة مع رجل الأعمال الإماراتي محمد العبّار، رئيس مجلس إدارة شركة إعمار العقارية.

لتقدم نون للجمهور العربي كأكبر منصة متخصصة في التجارة الإلكترونية على الإطلاق. ومن أجل تعزيز مركزها في السوق، استثمرت نون في سوق الاستحواذات حتى استحوذت على متجر «سيفي» (Sivvi) للملابس.

محمد العبّار أحد كبار المستثمرين في نون / Arabian Business

في غضون ذلك، قامت شركة «إعمار مولز» (Emaar Malls) التابعة لمجموعة إعمار العقارية بعمليات استحواذ كبيرة شملت موقع «جادوبادو» (JadoPado) الإماراتي للتسوق الإلكتروني، وموقع نمشي، شركة التسوق الإلكتروني الرائدة في قطاع الأزياء بالمنطقة، ثم استحواذها على حصة كبيرة في شركة أرامكس للنقل.

دفعت كل هذه الاستثمارات بشخصية العبّار كأهم رجال الأعمال الذين قادوا عملية التحول الرقمي في منطقة الشرق الأوسط، وكمُرشح للاستحواذ على سوق.كوم قدم العبار عرضًا بقيمة ثمان مائة مليون دولار أميركي لشراء سوق.كوم، إلا أن مسار الصفقة اتجه نحو أمازون مقابل خمسمائة مليون دولار أميركي.

موت العلامة التجارية العربية 

قد يبدو تحقيق صيت «الرجل الذي باع شركته إلى ياهو ثم أمازون» أكثر أهمية لدى فريق طوقان من زيادة مبلغ الاستحواذ التي قدمها العبّار. ولكن بعد عامين من الصفقة، أغلقت أمازون موقع سوق.كوم وأطلقت أمازون الإماراتي، ليأتي بعدها الإعلان عن إغلاق سوق.كوم بشكل نهائي في العام 2020 بعدما أُعلن عن أمازون السعودي.

كما أسست أمازون مشروع «بروجكت زيرو» (Project Zero) لإيقاف السلع المقلدة في السعودية والإمارات وخمس دول أخرى. في محاولة منها لتفادي مشكلة المنتجات المقلدة التي عانت منها شركة ياهو باستقبالها منتديات ذات محتوى مقرصن. 

وفي العام 2014 أُغلِقت منتديات مكتوب بشكل نهائى، تلا ذلك خروجها بشكل كامل من المنطقة العربية في العام 2015 عندما أعلنت عن إغلاق مكتبها الرئيس في دبي، ومكاتبها الأخرى في الأردن ومصر، ليلحق ذلك إغلاق سوق.كوم بشكل نهائي في مايو 2020، لتنتهي بعدها قصص شركات عربية كثيرة كان يمكن أن تكون رائدة في مجالها.

لم تعد هناك علامات تجارية تحمل أسماء مكتوب أو سوق.كوم؛ ليبقى السؤال: 

هل هذا النموذج من النمو هو الشكل الصحيح لبناء علامات تجارية عربية؟

لقد خسرنا علامات تجارية عربية مهمة، ولكننا في المقابل ربحنا أموال صفقات مثل مكتوب وسوق.كوم في المشاريع الناشئة الأخرى مثل قيام شركة جبار بتمويل عدة شركات في المنطقة العربية كطقس العرب وغيرها. 

ويمكننا أيضًا قراءة نفس القصة فيما حدث مع شركة كريم بعد استحواذ شركة أوبر عليها، وإن كانت ستظل كشركة مستقلة وخدمة تعمل تحت مظلة أوبر. إلا أن تحوّل أعمال الشركات العربية لمستحوذ أجنبي يبدو أمرًا مقلقًا. فمع أول أزمة تعرضت لها أوبر في المنطقة ضحت ب 31% من العاملين في شركة كريم، وأغلقت خدمة كريم باص.

وبالرغم من أنهم أغلقوا خدمة «أوبر إيتس» (UberEats)، تدفعنا هذه الحلول السريعة للتشكيك في مدى التزام أوبر وجديتها في الاستثمار في المنطقة واستعدادها للمخاطرة في ظل كل التحديات التي قد تواجهها. 

يبقى بعد ذلك أن نسأل أنفسنا سؤالًا واحدًا، هل يستطيع العرب أن يقوموا ببناء علامة تجارية عربية تبقى وتستمر؟

الإنترنتالاستثمارالتجارة الإلكترونيةريادة الأعمالالرأسماليةالمستقبل
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية