النصر فكرة لا تستحق المحاولة!
إسرائيل في حروبها مع العرب مثل «ريال مدريد» في دوري الأبطال، يلعب بأي تشكيلة وأي مدرب وسيفوز بالكأس في نهاية المطاف.
هذه الأيام التي تعمل فيها آلة القتل الأمريكية في إبادة البشر بأيدٍ صهيونية فرصة لتأمل بعض الأحداث التي لم نعشها ولكننا قرأنا عنها أو سمعنا من يتحدث عنها. وأن نحاول فهم الأحداث التي غرقت بين السطور في كتب التاريخ دون أن تمتد إليها يد لتخرجها ويراها الناس حية تسعى.
نعلم مثلًا أن العرب خسروا كل حروبهم أمام الصهاينة حتى تلك التي يزعمون أنهم انتصروا فيها. ومنذ أن وُجد جيلي والأجيال التي تلته ونحن على قناعة بأن إسرائيل لديها جيش لا يُقهر. ولا يمكن هزيمته حتى في «البلاي ستيشن». هذا الأمر أصبح من المسلّمات التي نؤمن بها يقينًا، إسرائيل في حروبها مع العرب مثل «ريال مدريد» في دوري الأبطال، يلعب بأي تشكيلة وأي مدرب وسيفوز بالكأس في نهاية المطاف. أو مثل ميسي في جائزة الكرة الذهبية، سيحصل عليها بما أنه لا يزال يمارس كرة القدم، حتى لو حقق غيره كل الألقاب الفردية والجماعية المتاحة.
ثم «توالت الأحداث عاصفة»، مع الاعتذر للمسلسل المصري الشهير وللبرادعي ورشدي، وبدأنا نشاهد ونعرف ونتيقن أنه جيش قوامه آلاف من الجبناء الذين يمكن أن يفروا من المعركة ومن فلسطين ومن قارة آسيا كلها لو شعروا أن هناك من يواجههم بصدق. صحيح أن الحروب في هذه العصر لم تعد الشجاعة أحد أهم ركائزها؛ فجيش الصهاينة يقتل الأطفال بالطائرات من السماء وترتعد فرائصه من فكرة مواجهة الرجال على الأرض. ويمد قدمًا ويؤخر أخرى مع أن لديه ترسانة عسكرية تكفي لاحتلال نصف الكوكب. ولكنه ينتظر أن يأتي من وراء المحيطات من يمد له العون في قتل أطفال ربما لا يعرفون أصلًا ماذا تعني فكرة الحياة والموت. وقد شاهدت مقطعًا لطفلة فلسطينية انتُشلت من تحت الأنقاض تسأل منقذيها: هل هم يتجهون بها إلى المقبرة؟ وهم يحاولون إقناعها بأنها لا تزال على قيد الحياة. هذه الطفلة يجبن جيش بأكمله عن مواجهتها دون «الاستعانة بصديق».
وهنا يقفز السؤال الوجودي: كيف انتصر هؤلاء في حروبهم السابقة؟ وأظن ظنًا يشبه اليقين أنهم لم ينتصروا لتفوقهم العسكري لكنْ لأن من قابلهم لم يكونوا يعتقدون أن الانتصار فكرة تستحق المحاولة. الجيوش التي قابلتهم كانت تؤمن أن الهزيمة أفضل من النصر وأن بقاء إسرائيل يخدمها أكثر من عودة الصهاينة من حيث أتوا.
تخيل أن إسرائيل ليست موجودة، لو أن هذا الخيال كان واقعًا فإن كثيرًا من الطغاة العرب الذين عاثوا في العالم العربي إفسادًا وتجويعًا وتجهيلًا لن تكون لهم قيمة وكنا سنفتقد في تاريخنا كثيرًا من الخطب العصماء عن فلسطين والعدو الغاشم التي ألهبت أكف الملايين على مر العقود. حتى تاريخنا الأدبي سيفقد قصائد عصماء مجّدت القائد العظيم الذي لم يكن ينام قبل أن يتأمل خريطة فلسطين، والذي كلما ألمت به ملمة أو وقع في مشكلة أخرج «مايكرفونه» وخطب في الجموع يشتم إسرائيل ويبشر أسماك البحر بوجبات مجانية، وكلما مس شعبه الضر وحاصرهم الجوع واليأس والخوف من حاضرهم ومستقبلهم شتم أمريكا وإسرائيل والإمبريالية، فيهتفون له ويرفعونه على الأعناق ويؤجلون مخاوفهم إلى ما بعد زوال إسرائيل.
لو لم تكن إسرائيل موجودة لما وُجد «فيلق القدس»، على سبيل المثال، ولعاش السوريون واليمينيون والعراقيون في سلام، لو اختفت إسرائيل فسيختفي مبرر وجود حزب الله وفكرة «محور المقاومة» الذي لم يقاوم ويحارب إلا العرب والمسلمين وعمودًا صهيونيًا مسكينًا كان حظه السيئ سبب وجوده قريبًا من ميليشيات «سيئ المقاومة»، والذي لا يشك حتى أكثر محبيه والمتيمين بعمالته أنه لو خُيِّر بين بقاء الحزب أو زوال إسرائيل وتحول لبنان إلى دولة حقيقية لاختار بقاء الحزب دون تردد، وأمثاله كثر.
كل هذه المكتسبات لا يمكن أن يتخلى عنها أصحابها، بل إني أعتقد بأنهم أحرص على وجود إسرائيل من الصهاينة أنفسهم.
هذه الأحداث التي نراها اليوم تفسر لنا ما كنا نجهله عن الآلية التي كانت تدار بها الحروب التي لم نعش أحداثها، وكيف هُزم العرب أمام جيش من الجبناء الذين «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ».
السلاح الأخطر الذي يستخدمه الصهاينة اليوم والذي لا بد أن نعترف ببراعتهم فيه وتمكنهم من أدواته ليس الطائرات والأسلحة الفتاكة، فهذه أسلحة أقصى ما يمكن أن تفعله هو القتل، والحقيقة أن القتل ليس أداة فعالة لتهديد من تتساوى عندهم الحياة بالموت، ناهيك عمن يرون الموت غاية.
أخبث وأخطر أسلحتهم الذي نشاهد عينًا بيانًا هو «التحريش»، وهو السلاح الأكثر فتكًا ولذلك اختاره الشيطان شخصيًا، فالشيطان لا يسيطر على الناس بتهديد السلاح.
والحقيقة أنه سلاح فعال إلى درجة كبيرة، لبراعتهم في استخدامه ولسذاجة الضحايا الذين يُستخدم ضدهم. وفي الأحداث الأخيرة تعتبر «المزايدات» هي أبرز ما يفعله العرب في تفاعلهم مع المجازر الصهيونية، وكلٌّ بما لديهم فرحون، فتبدو الصورة النهائية وكأن الناس غير مكترثين بما يحدث في غزة بقدر اهتمامهم بأنهم أكثر تعاطفًا من غيرهم. والصهاينة ليسوا مضطرين إلى بذل جهد كبير لتحقيق هذه الغاية، ولا إلى أن تكون لديهم آلاف الحسابات على مواقع التواصل تتقمص الأسماء والجنسيات العربية. هم فقط يشعلون الشرارة الأولى والعرب بأنفسهم سيتكفلون بالباقي وسيوسعون بعضهم شتمًا وتحقيرًا وتخوينًا. بل إن البعض سيجوّد ويزيد على شتم العرب تعاطفًا مع الصهاينة، ليس حبًا لهم ولكن إمعانًا في إغاظة العربي الآخر. ولا يوجد محتل في التاريخ لا يحلم بأعداء من هذه النوعية سهلي التوجيه والانقياد. المحتل يسعده دائمًا أن يكون لأهل الأرض «ذاكرة سمكة»، ولا أود التوسع هنا في الحديث عن «الأسماك» حتى لا يُفهم حديثي بشكل خاطئ.
وعلى أي حال:
«المرجلة توفيق»، وإن لم يكتبها لك الله فلن تحصل عليها، وأيًا كان موقفك فلن تشكل خسارة للطرف الذي لا تنتمي إليه.
الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!