الموتى لا يُهددون بالقتل!

الحق مع الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه ووطنه، ومع أي مظلوم آخر ولو كان وطنه المغتصب وطنًا لشعب لا نعرف لغته ولا دينه ولا يربطنا به رابط.

توجد مسلمات وحقائق بدهية غير قابلة للنقاش، وليست محلًا لتبادل الآراء، الشمس مثلًا تشرق نهارًا وتغيب في المساء. حقيقة أخرى تقول إن الماء يغطي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، ولن ندخل في صراع حول هل الأرض على هيئة كرة فعلًا أم مسطحة، فمع أن كرويتها حقيقة بدهية إلا أنها من الحقائق التي يمكن نقاشها. ونحن هنا نريد أن نتكلم فقط عن المسلمات التي لا يمكن نقاشها، عن الحقائق التي كنا نظن أنها واضحة إلى الحد الذي يجعل شرحها إهانة للعقل.

وهناك حقيقة بدهية أخرى أكثر وضوحًا مما سبق، تقول إن الكيان الصهيوني مغتصب ومحتل للأرض، وهي حقيقة يبدو النقاش حولها مضحكًا ويجعل المتحاورين حول صحتها من عدمها يظهرون كأنهم يمثلون في مسرحية هزلية. 

هي واحدة من الحقائق التي لا يصح في الأفهام شيء إذا احتاجت إلى دليل. ولو أن المتنبي تأخر قليلًا لاستبدل بكلمة النهار «الاحتلال» في بيته الشهير الذي قاله وهو يواجه معضلة توضيح الواضحات. 

تخيل عزيزي القليل الاستيعاب أن مجموعة من الأعراق التي لا يربطها رابط قررت أن تجتمع في مكان ما وتنشئ فيه دولة لأن لهم حقًا تاريخيًا حسب الديانة التي يعتنقونها. وهذه فرضية لو خضعَت لقليل من التعقل لبدت مضحكة؛ فهي تفترض أن اليهود هم سكان الأرض الأصليون، وهذا الأمر إن افترضنا جدلًا أنه صحيح فهو يعني أن اليهودي الذي كان يعيش في هذه الأرض منذ آلاف السنين ثم أصبح مسلمًا يفقد حقه في العيش في أرض أسلافه، ويجب عليه أن يبحث عن وطن بديل لأن يهودًا أتوا من بولندا وروسيا وبقية أصقاع الأرض يقولون إن مكانه هو أرض أجدادهم.

الإيمان بمثل هذه الفكرة وبوجود دولة دينية سبب نشأتها ووجودها نصوص دينية فكرة يحاربها العالم المتحضر الموغل في العلمانية، ويعد وجود مثل هذه الدول عارًا على البشرية في عهدها الرأسمالي العلماني الجديد. لكن هذا العالم نفسه بشحمه ولحمه وعلمانيته وتحرره ينسى كل شيء يخص نظرته إلى الدول الدينية حين يتعلق الأمر باليهود و«أرض الميعاد»، وتصبح الدولة الدينية في هذه الحالة ضرورة. هذا الكفر الاستثنائي بالعلمانية يظهر بوضوح حين يأتي وزير خارجية أمريكا أيقونة العلمانية والرأسمالية الحديثة التي لا تؤمن إلا بالدولار إلهًا لا شريك له ثم يقول في خضوع العاشقين وهو يتحدث مع رئيس وزراء الكيان المحتل: «لم آت إلى هنا بصفتي وزيرًا للخارجية فحسب، بل بصفتي يهوديًا.»

الحقيقة البدهية الأخرى يبدو الاضطرار إلى شرحها لأي أحد أمرًا سخيفًا ومحرجًا، فكيف إن كان هذا «الأحد» عربيًا مسلمًا يستطيع أن يقرأ ويكتب ويشاهد ويسمع. وهي أن:

الكيان الصهيوني ليس بحاجة إلى أعذار أو مسوغات ليقتل الإنسان ويفسد الأرض ويهجر سكانها ويشردهم. هو يفعل ذلك منذ أيام عصابات «الهاجانا» حتى لحظة قراءة هذه التدوينة. Click To Tweet

ولم يمرّ عام من غير قتل واستطيان وتهجير منذ وطئت أقدامه أرض فلسطين بعد أن لفظته أوربا وعجزت عن تحمل أذاه. وسيستمر في فعل هذا في آتي الأيام والسنوات حتى ينتهي من الوجود؛ لذلك فإن «تحميل العين جريمة المخرز» ليس أكثر من حيلة نفسية تريد بها أن تريح ضميرك من ألم العجز. حين تتحدث عن الجاني والضحية بالطريقة ذاتها وتقيس تصرفاتهما بالمسطرة ذاتها فأنت تحاول إيهام نفسك بأنك تفعل الصواب، وتريد أن تتعايش مع موت ضميرك لا أكثر ولا أقل.

وتقول حقيقة أخرى في سلسلة الحقائق البديهية إنه حين يحتل عدو غاشم مغتصب وطنًا ما فإن الأحزاب والجماعات التي تحارب وجوده لن تكون «حزب الزنابق الخضراء» ولا «جماعة حماية البطاريق من الانقراض»، أو «ميليشيا القلوب الحمراء وقوات الفلانتاين». 

وحين يحاصَر إنسان في مكان أضيق من أنفاس المحتضر ويمنع من الخروج منه أو دخول آخرين إليه ويُحرَم من أهم مقومات الحياة كالماء والكهرباء والغذاء ولا يحصل عليها إلا عن طريق «سلاسل الإذلال» التي يتحكم بها عدوه المغتصب الذي يسكن بيته الذي هُجّر منه، ثم يزاد على هذا أن تُجرَّب الأسلحة والطائرات فوق رأسه المكشوف بين الحين والآخر، وأن يصبح العزاء واحدًا من طقوسه اليومية منذ أكثر من سبعة عقود، فلا تتوقع أن هذا الإنسان الذي لم يعد لديه ما يخسره سيفكر بالطريقة نفسها التي يفكر بها إنسان لديه مكاسب كثيرة يخشى خسارتها. حين تصبح الحياة وعدمها سواء فإنه لا ينتظر منك أن تخبره كيف يبدو الخبز لذيذًا ولا كيف أن الحياة مكسب يجب ألا يفرِّط فيه. حين تحدثه عن ضبط النفس وقياس المكاسب والخسائر فإنك ستبدو كمن يحدث الأعمى عن الفرق بين الألوان، قد يكون حديثك جميلًا ومنطقيًا، ولكنه لا يعني أي شيء للمستمع؛ لأنك تحدثه عما لا يفهمه ولا يتخيله. حين تنتزع من إنسان كل مقومات الحياة يصبح تهديده بالخسارة عبثيًا، فـ«لا أحد يهدد الموتى بالقتل»!

Giphy 119
الدمار في مدينة غزة / Giphy

حين نقرأ عن الاحتلال في كتب التاريخ نطوي في أقل من صفحة حياة ملايين البشر ونمر عليها كأنها رمشة عين، نقرأ مثلًا أن فرنسا احتلت الجزائر أكثر من مئة وثلاثين عامًا، وأن الجزائريين قاوموا الاحتلال حتى تم طرده بعد أن ضحوا بملايين الشهداء، وتنتهي القصة. بقية تفاصيل قرن ونصف لا تعني أي شيء للقارئ، كلها أحداث طواها النسيان. في تلك الفترة ولد أناس وعاشوا حياة مديدة وكان لهم أبناء وأحفاد ثم غادروا وهم لا يعرفون حياةً غير تلك التي عاشوها تحت الاحتلال.

أتخيل لو كنت أكتب هذه التدوينة عام 1930، أي بعد مئة عام من الاحتلال، فعلى الأرجح سأقول إنه لا بد من التعايش مع هذا الوضع وإن من الغباء استثارة الفرنسيين الذين سيكون ردهم عنيفًا، وإن على المقاومين الجزائريين التحلي بضبط النفس والحرص على صورتهم أمام المجتمع الدولي. لكن من حسن حظي وحظ الجزائريين أني لم أكن موجودًا في ذلك الوقت. والجزائر هنا مثال فقط؛ لأن الغزاة والمحتلين «يحتلون» حتى كتب التاريخ.

ثم أما بعد: 

حين أعلّم أبنائي الآن أن المحتل محتل وأن المظلوم مظلوم وأن الوقوف معه ونصرته لا يتطلبان منه شهادة حسن سيرة وسلوك، وأنه لا يشترط أن يمضي حياته يتغزل بي ويكيل لي قصائد المدح ثمنًا لموقفي؛ فذلك لأن كمال الخُلُق أن تنصف المظلوم وإن لم تحبه، أن تقول الحق وإن كان في مصلحة من لا يحبك، وهذا امتثال لأمر قرآني صريح: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون»، فكيف إن كان المظلوم يشترك معك في العقيدة واللسان. 

أعلّمهم أن الحق مع الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه ووطنه، ومع أي مظلوم آخر ولو كان وطنه المغتصب وطنًا لشعب لا نعرف لغته ولا دينه ولا يربطنا به رابط، وأن التعاطف مع المحتل في أي مكان في العالم خسة ونذالة وقلة مروءة، ليس لأن الفلسطينيين بحاجة إلى تعاطفي أنا وأبنائي، فهم من سينتصر في النهاية، إن لم يكن اليوم فغدًا، ولكني أفعل ذلك لأني أريد أن يحبّوا وطنهم وأن يدافعوا عنه وأن يضحوا بحياتهم لأجله؛ لأن من يبرر احتلال أوطان الآخرين خسيس بما يكفي لأن يبرر يومًا احتلال وطنه.

أعلمهم ذلك من أجل أنفسهم؛ لأنه لا مكاسب، مهما تعاظمت، تعوّض خسارة الإنسان لنفسه.

الإنسانالاحتلال الإسرائيليفلسطينالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!