لماذا تصمم شوارع الرياض كمضمار سباق السيارات؟
بالنظر لصورة الشارع التي تُظهر مدينة الملك عبدالله الاقتصادية في الخلف -لاحظ انخفاض جودة الرؤية نتيجة التلوث الهوائي- يشابه الشارع حلبات سباق الدراج...
لطالما عانت شوارع الرياض من تجاهل السيارات للسرعة النظامية داخل الأحياء والحواري، لأنها مصممة بمسارات واسعة وامتدادات طويلة تطمئن سائق السيارة وتشحذ رغبة الوصول لسرعات عالية.
دائمًا ما ألحظ قيادة السيارة بسرعات جنونية في شارع الأمير عبدالعزيز بن ثنيان في حي النخيل شمال الرياض، رغم أن السرعة النظامية محددة في خمسين كيلومترًا في الساعة.
وبالنظر لصورة الشارع التي تُظهر مدينة الملك عبدالله الاقتصادية في الخلف -لاحظ انخفاض جودة الرؤية نتيجة التلوث الهوائي- يشابه الشارع حلبات سباق «الدراق ريس» دافعًا السائقين الوصول لسرعات جنونية. وكردة فعلٍ، تضطر الأمانة للتدخل وإنشاء مطبات سرعة في الشوارع الممتدة، وهو آخر مآل لتفاديها.
الشارع في الحيّ السعودي
تعكس الصورة أدناه شيئًا من عيوب تصميم الشارع في الحي السعودي، أرصفة المشاة غير متساوية ويختلف علوّها من مبنى لآخر، وقد تختفي بتاتًا في بعض الشوارع. تعاني الشوارع أيضًا من شح التشجير، وتفتقد للعلامات المرورية المهمة مثل لوحة قف أو لوح تبين معلومات عن حالة الوقوف.
كما تفتقد لتخطيط مكونات الشارع من توضيحٍ لموقع المواقف الجانبية ومواضع الوقوف عند التقاطعات وممرات المشاة ومسارات السيارات.
بالإضافة إلى أن هندسة الشوارع تحفز السائقين على السرعة، إذ تتسم منحنيات الالتفاف بقطر كبير يسهل على السيارات الالتفاف بسرعات عالية بسهولة، عكس المنعطفات الضيقة التي تحثّ على خفض السرعة.
وتُشيّد أغلب التقاطعات بشكل يضع السيارة كأولوية في التصميم. ففي التقاطع الواضح أدناه، ينبغي على المشاة قطع مسار الالتفاف الأيمن وثلاث مسارات أخرى من الشارع الرئيس المعلم بالأخضر.
وبما أن مسار الالتفاف الأيمن ذو قطر كبير، وتركيز السائق على السيارات القادمة من التقاطع المعلم بالأصفر، سيرغب السائق بالالتفاف قبل قدوم السيارات على عُجالة، مشكّلًا خطرًا كبيرًا على المشاة؛ فالسائق صب تركيزه على الالتفاف بسرعة، وارتفعت بالتالي احتمالية وقوع حوادث مع المشاة بسبب التصميم.
ويكمن الحلّ كما أشار جيف سبيك في تغريدة له في وجوب تفضيل المشاة على السيارات في الأحياء. ففي كثير من الأحيان، يفوق عدد المسارات المخصصة للشارع حاجة طلب الحي عليها، مما يحسس سائق السيارة بالراحة والقدرة على الوصول لسرعات عالية توازيها احتمالية فقدان تركيز عالية.
ومن أسباب زيادة السرعة الميلُ لتخطيط كثيرٍ من الأحياء بشكل شبكي؛ وهي استراتيجية قد تزيد من الكفاءة الاقتصادية بتقليل تكاليف الإنشاء، لكنها تغري السائقين بالسرعة. إذ تتسم الشوارع بامتدادها طويلًا دون تقاطعات، خصوصًا في الشوارع الرئيسية، وترغم المشاة على القلق والتوجس من وقوع الخطر.
ويبدو توسيع مسارات الشارع حلًا فعّالًا لتقليل احتمالية وقوع الحوادث. لكن العديد من الدراسات أشارت إلى أن الحوادث تقلّ في الشوارع المتسمة بضيق المسارات، خصوصًا تلك المتعلقة بالمشاة. إذ يركز السائقون على الالتزام بالمسار طوال الجزئية المعنية من الشارع.
الشارع والرصيف والشجرة
ولكن الحل الحقيقي يكمن في تفادي المشكلة من الأصل في مرحلة تخطيط شوارع الحي، والعمل على عدة حلول بسيطة لتخفيض السرعات وتهدئة المرور. أولها، زراعة الأشجار، والتي انطلقت سلفًا في مشروع « الرياض خضراء»، لأنها تمثل عاملًا نفسيًا يشعر السائق بالحاجة لخفض السرعة بسبب اكتظاظ مجال الرؤية بالأشجار القريبة.
وبالإضافة لمشروع «الرياض خضراء»، اعتمدت أمانة مدينة الرياض دليل تنظيم وتشجير مواقف المجمعات التجارية. فالتشجير عنصرٌ أساسيٌ من مكونات الشارع، ويتناغم مع تصميم المباني بشكل يضمن استغلال الظل في تخفيض درجة الحرارة بمدننا.
ويأتي تضييق مسارات الشارع وتقليلها من اثنين إلى واحد كحلّ عمليّ، بعد دراسة تأثير التغيير على الحالة المرورية لشوارع الشبكة. كما يمكن لتخصيص مسار خاص للباصات أن يساهم في حلّ المشكلة بشكل أكبر؛ حلٌّ يمكن تحقيقه بعد تفعيل باصات مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام، وكذا دراسة جدوى إضافة مسار منفصل للدراجات.
ومن الإجراءات منخفضة التكلفة الأخرى، تخصيصُ ممرات مشاة مرتفعة عن سطح الشارع، تَضيق فيها المسارات، أو استخدام المواقف الطولية وغيرها.
وعلاوة على توفير الظل وتخصيص مكان مستحق للمشاة، يعمل ثنائي الرصيف والشجرة على توفير حاجز بين المشاة والسيارات مساهمًا في إحساس المشاة بالأمان والطمأنينة.
ومن المهم أيضًا تحديث تشريعات المواقف والأرصفة كي تضمن سلامة المشاة مع تبنِّي إجراءات تُؤكد تطبيقها. وكمخطِّط نقل حضري، من الصعب جدًا إقناع الفرد بالمشي إلى محطة الباص أو القطار إذا كانت الرحلة شاقة أو غير مظللة غيرَ آمنة، أو حتى مملة.
أنسنة الشارع
وفي سياق آخر، طرحت مدينة الخبر مبادرة جميلة تطلب فيها مشاركة المختصين في تصميم شارع زيد بن الخطاب في حي العليا. وكانت أحد المشاركات المميزة من المهندس المعماري عبدالله الفهد الذي وضع المشاة في قلب التصميم.
ويعد تبني بلدية الخبر لهذا المشروع أو لمشاريع مشابهة لمحة إيجابية في طريق تطوير شوارع المدينة. كما يجب أن تضع البلدية في نصب عينيها تخطيط المنطقة ككلٍّ، بحيث يبلغ المشاة وجهاتهم بسلامة، ثم تطوير المناطق المجاورة حتى تتيسّر آلية الوصول من جميع مناطق الخبر بوسائل بديلة عن السيارة.
ولكن ما أخشاه في أنسنة شارع أو منطقة صغيرة دون أنسنة الشبكة ككل، هو تحفيز المشاة والدراجين للوصول لها عبر شوارع غير آمنة مصممة للسيارات أساسًا، فينتج عن ذلك إصابات أو وفيات لم تكن لتحدث لو أن أنسنة الجزئية الصغيرة من الشبكة لم تُنفذ.
فليس من المنطقي تخطيط عنصر واحد من شبكة كبيرة بشكل مستدام، إذا كانت باقي العناصر غير ذلك.
النشاط التجاري وجودة الأحياء
لو افترضنا جدلًا أن مدينة مثل الرياض قامت بترصيف وتشجير كافيين لجميع طرقها وشوارعها بلا حصر، يجعل التوزيع الحالي للنشاط التجاري في الحواري والأحياء من المشي إلى المقهى أو المطعم أو سوق الحي للحصول على الكماليات أمرًا مستبعدًا، لأن مسافة الوصول للنشاط التجاري غالبًا لا تطاق على الأقدام.
تكمن الإشكالية في أن بُعد المسكن عن الكثير من نقاط الاهتمام في أغلب أحياء الرياض يجعل متوسط مسافة الرحلات كبيرًا، مما يحفز الأفراد على استخدام السيارة في المشاوير الأساسية والمتكررة كالذهاب للمسجد ومن المسجد لبقالة الحارة ومن بقالة الحارة إلى البيت.
تحثّنا هذه الإشكالية على وجوب إعادة النظر في صياغة استخدامات الأراضي، لتتكون من خليط استخدامات متعددة في نواة الحارة.
ولا أعتقد أن هناك أسلوبًا أفضل من دمج عدة عناصر مهمة في الحي كالمسكن والمسجد والحديقة والمدرسة والنشاطات التجارية المختلفة، بحيث يتركز نوعٌ من النشاط الاجتماعي والتجاري في مناطق تسمح وتشجع أفراد الحي على المشي إليها أو استخدام الدراجة والخروج في مشاوير في رحلة واحدة.
وبذلك تتحقق عدة جوانب مهمة، أولها خلق مركز آمن لجميع أطياف المجتمع، يعزز التكافل الاجتماعي، والتخفيف من الانبعاثات الضارة الناتجة عن كثرة استخدام المركبات.
هناك معيار لتحديد مستوى الأمان في الأحياء معروف باختبار ساندوتش البوظة من جمبو. فإذا كان الأهالي مرتاحي البال تجاه السماح لأطفالهم بالذهاب إلى البقالة للحصول على سندوتش جمبو من أي نقطة في الحي، دون التعرض لخطر حوادث السير، فإن المدينة نجحت في بناء حي آمن.
وتمثل مواقف السيارات أحد العوامل المهمة التي تحدد جودة الأحياء. فنرى في الصورة السابقة مشهد وقوف ساكني الحي، وخصوصًا سكان الشقق، في مسارات شوارع الأحياء، وهي حالةٌ متفشية في كثير من أحياء شمال الرياض.
العقار والتوقف العشوائي
كما يُلاحظ نمط انتهاك قوانين التوقف في الشوارع التجارية. حيث تتراكم السيارات عند المواقف بشكل غير نظامي. ويمكن عدّ المشكل أحد المخرجات السلبية الناتجة عن سوق العقار السعودي والمشاريع التي استفادت من غياب قوانين تأمر بتوفير مواقف كافية من المدينة.
وبسبب غياب شروط تحد من عدد المواقف، يوفر أصحاب العقار مبلغ بناء على حساب تشييد موقف سيارات، رغبة منهم في تخفيض أسعار عقود الإيجار والمحافظة على أفضلية تنافسية في السوق. لكن سوق العقار بالعملية هذه يلفظ مشاكله على شبكة الطرق، حسب ما أشار البروفيسور فيصل المبارك.
إن رغبة العقاريين في المحافظة على تنافسيتهم في السوق منطقية، لكن الغريب هو تسيب السوق.
https://twitter.com/bawardik/status/315877771966545920?s=21
أليس من المفترض في مدينة مثل الرياض، أن تتدخل الجهات المعنية فيها بسن قوانين تمنع أسواقًا معينة من لفظ مخرجاتها السلبية على المجتمع والشارع، فتوفر حدًا أدنى من المواقف الكافية التي تتوافق مع الطلب على النشاط العقاري لكل من العمائر السكنية والمكتبية والمطاعم والمجمعات التجارية والمواقع الترفيهية؟ الإجابة قطعًا هي لا.
يلزم على الجهات المعنية التدخل وإقصاء أي تداعيات سلبية لسوق العقار -التوقف العشوائي في هذه الحالة- لكن ليس بزيادة عدد المواقف.
يكمن الإشكال في سن قوانين تضمن توفير حد أدنى لعدد المواقف للأنشطة المختلفة والطريقة الصحيحة للتعامل مع مشاكل المواقف. فلسنّ مثل هذه القوانين تداعيات سلبية عديدة، من بينها توفير مساحة لسيارة واحدة في أكثر من موقع في المدينة، بمعنى أن لكل سيارة في مدينة الرياض مثلًا، عدد مخصص من المواقف نتكهن في أن ينحصر بين اثنين إلى أربعة مواقف.
بطبيعة الحال، لن تشغل هذه السيارة سوى موقفٍ واحدٍ في الوقت ذاته. مما يعني أن هناك مواقف أخرى شاغرة تمتص حرارة الشمس، بُنيت بمالٍ كان يمكن تخصيصه لهدفٍ أسمى.
تراكم السيارات وارتفاع الطلب على المواقف
لو افترضنا أن عدد السيارات في الرياض مليونا سيارة، ومتوسط مساحة موقف السيارة أربعة عشر مترًا مربعًا للموقف، فإن مساحة المدينة المخصصة لمواقف السيارات ستتراوح ما بين ستٍ وخمسين كيلومترًا مربعًا إلى مائة واثني عشر كيلومترًا مربعًا!
ستتمدد الرياض أفقيًا بشكل جنوني محمّلة بالمزيد من الأعباء الاقتصادية، مع ازدياد متوسط مسافة الرحلات في المدينة، وستساهم في امتصاص الحرارة بشكل أكبر.
كما أن قيام المطور العقاري بتوفير مواقف، يعني إضافة تلك القيمة إلى الإيجار السنوي للعقار، مما ينعكس على أسعار الخدمات المُوفرة عبر النشاط التجاري المستأجِر. فقد يضطر محل التموينات الغذائية مثلًا لرفع أسعار بعض البضائع لتعويض ارتفاع الإيجار.
والإشكالية هنا أن الذين يمشون أو يستخدمون الدراجة لقضاء أغراضهم هم غالبًا من العمال، والذين يقومون بدفع مبالغ مماثلة لتلك التي يدفعها مرتادو التموينات بالسيارة من الطبقة المتوسطة.
بالإضافة لذلك، الآن والمواقف متوفرة تعفيهم من البحث، قد يمتنع الأفراد عن المشي لوجهاتهم. وعلى النقيض، لو صَعُب الحصول على الموقف أو كان لزامًا دفع قيمة استخدامه، لامتنع الكثير عن استخدام السيارة وحبّذوا المشي.
ويمكن استنباط السبب الحقيقي لمشكلة تراكم السيارات في المواقف المجاورة للأنشطة التجارية: فالطلب على الموقع يفوق القدرة الاستيعابية.
ونحن أمام خيارين، إما الرضوخ للطلب المتزايد وزيادة عدد المواقف، أو اقتلاع المشكلة من جذورها وإدارة الطلب على الطرق والمواقف بطريقة تضمن تقليل نسبة الرحلات لقضاء الأغراض اليومية بالسيارة، وتوفير وسائل نقل بديلة.
يقدم البروفيسور الأميركي دونالد شوب ورقة تشرح بالتفصيل المشاكل الناتجة عن قوانين مواقف السيارات الحالية في أميركا، وهي حجر أساس لفهم توزيع وإدارة هذه المرافق التي تعدّ من أهم عناصر البيئة العمرانية.
إشراك سكان الأحياء في التصميم
كما من المهم إشراك ساكني الحي في العملية التخطيطية لأن طبيعة متطلبات الأحياء تختلف باختلاف النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمنطقة؛ خصوصًا أن توزيع الثروات في الأحياء مختلف جدًا عبر المدن السعودية.
إذ يحتم التباين الديموغرافي على الأمانة التعامل مع كل حي ككينونة خاصة. فتبين الجهات التخطيطية الخطط المستقبلية للحي، وتطلب من أعضاء الحي مشاركة انطباعاتهم عن الخطة، وما ينقصها من عناصر لا يمكن معرفتها إلا بالعيش فيها.
فلا يعقل أن يخطط الحي شخصٌ غير مدركٍ لطقوس أهالي الحي وطبيعة العيش فيه. ثم بعد بذل جهدٍ مضنٍ في التخطيط والتنفيذ، يشعر أهل الحي بالظلم نتيجة التغييرات الجديدة، أو قد لا تُستغل بعض المرافق بسبب إخفاقها في تلبية متطلبات أهل الحي.
أخيرًا، تفصل بعض الأحياء طرقٌ سريعةٌ تمنع الانتقال من حي لآخر، ويشق على الراجلين قطعها، خصوصًا أن بعض المرافق قد تتواجد في حي دون الحي المجاور.
تسلط هذه النقطتان الضوء على أهمية مشاركة جميع أطياف المجتمع آرائهم بمختلف أجناسهم وطبقاتهم. فبالإمكان تفادي الكثير من مشاكل النقل الحضري التي تعاني منها الطبقات منخفضة الدخل، لو أدرك المخططون معاناة من لا يمتلك سيارة.
لكن تخطيط الحي ينطلق من مفهوم ضيق للنقل الحضري المعتمد على السيارة؛ والناتج هيمنة الطرق السريعة على النقل في المدن الرئيسية، وشل حركة المحتاجين للتنقل من غير سيارة.