القطيف في العلاقة بين الهوية وفضاء القرية
في هذه المقالة يحكي الكاتب حسين الإسماعيل عن التنافس الأزلي بين الجش وأم الحمام على جميع الأصعدة كجزء من تاريخ القطيف ويتناول الأحداث المثيرة لواحدة من...
تشرف الشمس على الغروب، وتقترب ساعة ارتفاع صوت المؤذن. يعني هذا الأمرُ شيئًا واحدًا لنا آنذاك: نلعب الآن الوقت بدل الضائع. يتقدم فريقنا على الخصم بهدف. ويصبح الملعب لنا بعد صراعٍ طويل. والأهم من كل ذلك: يحقق أبناء الجش في القطيف انتصارًا آخر يضاف لرصيد القرية في نتيجة الصراع الأزلي بيننا وبين أم الحمام.
داخل البلد / خارج البلد
لهذه المباراة المهمة مضامينها المتجاوزة لنتيجتها المباشرة، والمتمثلة في احتفاظ فريق حينا بحق اللعب في الملعب الترابي. ترتبط هذه المضامين بحقيقةِ أن المباراة ليست إلا تجليًا لصراعٍ متعدد المستويات بين أهالي الجش وأهالي أم الحمام، لصراعٍ يصاغُ دائمًا في مصطلحات الذات والآخر. ولا يمكن فهم أهمية المباراة دون التعريج على ما تعنيه الهويات التي تُخوّل لهذا الصراع والانقسام أن يوجدا أساسًا.
ليست القرية بالنسبة لأهاليها مجرد جزءٍ من محافظةٍ أكبر، بل تُمثّل بشكلٍ ما كل ما هو حقيقي وذو قيمة. يتجلى هذا المخيال مثلًا في مفردة «البلد» التي يستخدمها الناس للحديث عن قريتهم والتي يقاس بها كل شيء: في البلد وبرا البلد ونص البلد.
ورغم اتصال العمران اليوم مع ما يجاورها من قرى، ما يزال مفهوم البلد المتخيل قائمًا في الأذهان ومؤكدًا على محوريته. أتذكر عنها موقفًا ما يزال حاضرًا بذهني: قبل أكثر من عشر سنين، تلقيتُ اتصالًا من أحد الأصدقاء أثناء تسكعي مع الشلة في أحد الشوارع المجاورة لمنزلي.
سألني هذا الصديق: «أنت بالبلد؟» كان سؤالًا مركبًا؛ السؤال عن مكاني يتبعه سؤالٌ عما إذا كنا سنلتقي ونتسكع. ولأني أعرف أن هناك نوعًا من الحزازيات بينه وبين الشلة التي أتسكع معها آنذاك (ما أزال أجهل حيثيات هاته الحزازيات)، أجبته من باب التهرب من لقائه: «لا، أنا برا البلد»
كان السؤال والإجابة واضحين لكلينا. سؤاله عما إذا كنتُ بالبلد يعني السؤال عما إذا كنت حينها في قرية الجش التي أنتمي إليها. بعبارةٍ أخرى، مفردة البلد مرادفةٌ للجش. ولأن الشارع الذي كنت أتسكع فيه حينها جزءٌ من قرية أم الحمام، فقد كنت نظريًا «برا البلد»، خارج الجش.
التاريخ بانعزال عن الآخر
ليس سكان الجش وحدهم من يقابلون بين البلد والقرية أو المنطقة التي ينتمون إليها، بل هي ظاهرةٌ منتشرة على نطاقٍ أوسع. فعلى سبيل المثال، لو وُجه السؤال نفسه لثلاثة أشخاص من الجش والخويلدية والجارودية (وكلها قرى في القطيف يمكن التنقل بينها خلال ربع ساعةٍ بالسيارة)، لأجاب كلٌّ منهم بحسب انتمائه: البلد للجشي هي الجش، وللخويلدي الخويلدية، وللجارودي الجارودية.
هذا يعني بطبيعة الحال أن مفهوم «برا البلد» نسبي هو الآخر. الجشي حين يسكن بالجارودية يعتبر نفسه ساكنًا خارج البلد، وكذا الأمر بالنسبة للآخرَين حين يسكنان خارج مسقط رأسيهما.
ولكن مسألة السكن خارج القرية أعقد مما يبدو. فقد يُجابه الفرد نوعٌ من التمييز كونه غريبًا عن المنطقة التي يقرر استيطانها، وقد يظل حبيس الأصل الذي يُلصق به سواء عند أهالي منطقته أو أهالي غيرها. وهذا قد ينطبق على عوائل بأكملها، إذ تظل في المخيال الشعبي «غريبةً» عن منطقة استيطانها.
وقد يحدث أيضًا أن تتشارك عائلتان تنتميان لمنطقتين مختلفتين اللقب نفسه دون أن تربط بينهما قرابةٌ مباشرة. يتعقد الموضوع أكثر حين يبدو اللقب مرتبطًا بمنطقةٍ محددة مثل «الجشي» دون أن ترتبط العائلة بقرية الجش ودون أن ترتبط بعائلة الجشي لمن هم من أهالي القرية فعلًا.
بل قد يحدث العكس من ذلك، حين يغير أحد أفراد عائلةٍ ما لقبه فتصبح هناك عائلتان مختلفتان في اللقب متشاركتان في الأصل، وتتطور كل منهما تاريخيًا بانعزالٍ نسبي عن الأخرى.
لستُ هنا بصدد تتبع أنساب القطيف. إذ استطردت بهذه الأمثلة لغرضٍ وحيد وهو استيضاح تعقيد تداخل العوامل التي تسهم في صياغة هويات الأفراد وتشكيل مخيالهم عما هو جزءٌ من هويتهم وما هو خارجه.
حيث ينشأ الأفراد في القرية ضمن خطوط وتراتبيات متخيلة فيما يتعلق بانتماءاتهم وحدودهم وصورهم عند «الآخر». ومن هناك، يصبح لهذه المتخيلات دورٌ جوهري في فهم ما لا يمكن فهمه دون وضع ذلك بعين الاعتبار.
تباين الهويات في القطيف
أعود لمفردة البلد سريعًا، إذ أن لهذا المفهوم بالغ المحلية، وله أصوله التاريخية. إذ امتلكت بعض المناطق ضمن منطقة القطيف تاريخيًا استقلالًا نسبيًا، جعلها تتشكل ثقافيًا بشكلٍ مختلفٍ عن غيرها من المناطق. وبالرغم من كل التداخلات الجغرافية والعمرانية اليوم، ما تزال لكل منطقةٍ لهجتها وعوائلها وتقاليدها الخاصة بها.
على هذا الأساس، تتشكل عند أهالي كل منطقةٍ تصورات مختلفة عن هوياتهم الذاتية وعن علاقات المناطق ببعضها البعض. والأهم من كل ذلك تتفاعل هاته الهويات بشكلٍ مختلفٍ مع القوى المختلفة التي تُساهم بدورها في تشكيل الهوية.
إذ تنطلق هذه المقالة من واقع هذا التباين الثقافي/الهوياتي محاولةً تحليل العلاقة بين تشكل الهوية والفضاء القروي المتخيل عبر مثالٍ بالغ الخصوصية: مباريات كرة القدم التي كانت تجري بين فريق حينا وإحدى فرق أم الحمام قبل خمسة عشر عامًا.
في الرابع والعشرين من يونيو عام 1819 وإبان الاحتلال العثماني، زار الجاسوس البريطاني سادلير القطيف. وذكر سادلير في مذكراته العديد من أسماء قرى أو مناطق القطيف متبوعةً بعدد سكانها.
ولا يهم ما إذا كان سادلير دقيقًا في تعداد سكان المناطق، ولا إذا كان قد ذكر جميع المناطق بالفعل أم لا. ما يهم هو إشارته بشكلٍ عام وسريع إلى التمايز القائم بين المناطق آنذاك، أي إشارته لواقعٍ وجود انتماءات مختلفة ضمن حيز جغرافي ضيق نسبيًا قياسًا على وسائل المواصلات اليوم.
يذكر سادلير أن الجش وأم الحمام من القرى المسورة قبل مئتي عام، وأن العدد التقريبي لسكان أم الحمام ثلاث أضعاف سكان الجش. فهل بدأ الصراع من هنا؟
الحبشة وأم الخمام
نشأت وأقراني من أبناء الجش على علمٍ تام بعواقب نعتِ أحد أبناء أم الحمام بـ «المخمامي» نسبةً للخمام (بمعنى القمامة). ففي أحسن الأحوال، سيقابل ابن أم الحمام شتيمتنا بنعتنا بـ«الحبشيين» أو «حرامية الحجر الأسود»، وكلا النعتين إشارة لحادثة سرقة الحجر الأسود على يد القرامطة ونقله من البيت الحرام بمكة المكرمة إلى الجش.
وعلى ضوء كل ذلك، كان من الطبيعي أن تتمحور العديد من الأحداث والمواقف حول هذا العداء التاريخي، سواء تجلت الخلافات على مستوى النشء أو البالغين. فعلى سبيل المثال، حينما كنتُ بالمرحلة المتوسطة، كانت هناك شلتان، واحدة من الجش وواحدة من أم الحمام.
ولسببٍ ما، كان يوم الخميس من كل أسبوعٍ اليوم الرسمي للشجار بينهما، لا لسببٍ واضح سوى هذا العداء بين القريتين. لتحضر أصداء ونتائج الشجار مطلع الأسبوع الذي يليه في أروقة مدرستنا، ويتغنى المشاركون بما حققوه من إنجازات.
وحتى أصول مباراة الحسم التاريخية سابقةٌ لحيثيات تلك الفترة. في المرحلة الابتدائية، كان الحدث الأهم لمنتخب مدرسة الجش هو مباراته بين الفينة والأخرى ضد أيٍّ من مدارس أم الحمام. بل أن قوة منتخب المدرسةٍ في سنةٍ دراسية ما تُقاس بقدرته على الفوز في الكلاسيكوهات المصغرة هذه.
أذكر من ضمن هذه المباريات واحدة ساءني الحظ بأن أكون أحد لاعبي المنتخب حينها، والتي انتهت بهزيمتنا هزيمة نكراء ضد مدرسة ابن بطوطة بنتيجة 7-4. أذكر تمامًا الملعب الإسمنتي الذي كنا نلعب على أرضيته، والذي كانت إحدى قوانينه (التي لم يكن منتخبنا ملمًا بها آنذاك) احتساب ضربة جزاء ضد الفريق الذي يُطير بالكرة خارج أسوار المدرسة.
لا أذكر عدد ضربات الجزاء التي احتسبت ضدنا يومها، ولكنها كانت درسًا قاسيًا للمباراة التي تلتها.
الملاعب أراضٍ بيضاء
رغم أن لكل قريةٍ ناديها الرياضي الخاص، كانت ملاعب الحواري الترابية المقصد الأول لكل من يرغب بلعب كرة القدم. ولم تكن ملاعب حقيقية بطبيعة الحال، بل هي في أغلب الأحيان أراضٍ بيضاء يُحولها الشباب بأنفسهم إلى ملاعب من خلال استئجار معدات ثقيلة وتشييد القوائم والعارضات، بل وحتى شراء أكثر من «تريب رمل» لتسوية الأرض بشكلٍ ملائم للعب.
ولذا، كان لكل ملعبٍ مجموعةٌ من اللاعبين الذين يشكلون فريقه الرئيس، وهو الفريق الذي يخوض المباريات ضد الفرق الأخرى سواء على ملعبه الخاص أو ملاعبهم. وتتسمى الفرق بأسماء ملاعبها: ملعب الحفاة وملعب البرازيل وملعب الوايرات وملعب الحفرة وملعب الجواد وملعب المرحوم، إلى آخره.
كان الملعب الذي أقيمت عليه مباراة الحسم «ملعبنا» الذي لا اسم له بعد بحكم صغر أعمارنا، وكان لخصمنا ملعبه الخاص الذي لا اسم له كذلك. فبرغم خوضنا لمباريات ضد بعضنا بين الحين والآخر، كان كل منا منشغلًا بملعبه ولاعبيه ومبارياته.
ولكن ظروف خصمنا ساءت حين باشر صاحب الأرض الذي أقيم عليها ملعبهم ببنائها، فصاروا على إثر ذلك بلا مأوى. ولأن ملاعبنا متقاربة، فقد كان خيارهم الأول هو اللعب معنا أو ضدنا.
مضى الأمر على ما يرام في بادئ الأمر، فطالما كنا نلعب جميعًا لم يكن هناك أي مشكلة. لكن سرعان ما بدأ ذلك يتغير حين كثر لاعبونا وكثر لاعبوهم، وبات من حكم المحال إجراء تقسيمة بهذا الكم من اللاعبين دون الإخلال باللعب.
دخلنا في مناوشات حينها لحل الأمر. لا أذكر تفاصيل ما حدث، ولكنني أذكر النتيجة: اتفقنا بأن يكون يوم الأحد يوم المباراة الرسمية بيننا وبينهم، ويحق للفائز اللعب على الملعب أسبوعًا كاملًا دون أن يشاركه الفريق الآخر.
إرهاصات اليوم الموعود
مضت الأسابيع الأولى على هذا الاتفاق، تارة نفوز وتارة يفوزون. فإذا فزنا، نقضي أسبوعنا في الاستعداد للمباراة القادمة. وإذا فازوا، نحاول استقطاب لاعبين جدد لسد الثغرات والانتصار. ولكن شاء الله أن يتمكنوا من الانتصار علينا مرة تلو الأخرى لأسابيع عديدة، وهذا ما أفقد لاعبينا الأمل لدرجة أنهم صاروا لا يبالون بالمباراة الأسبوعية.
ظل الحال على ما هو عليه بضعة أشهر، وكلما مر الوقت يصبحون أقوى لعبًا وأكثر عددًا، ويتضاءل أملنا في استرجاع الملعب في نفس الوقت الذي بدأت الأراضي البيضاء حينها تتناقص.
لكن الحظ حالفنا ذات يوم حين اقتنع جميع لاعبينا الأساسيين بالحضور، وجئنا يوم أحدٍ مطالبين بحقنا في النزال. وافقوا باستهزاء. لكن شمس ذاك اليوم لم تغرب إلا وبأيدينا أول انتصارٍ من أشهر. وصار من حقنا الآن اللعب على الملعب أسبوعًا كاملًا دون مشاركتهم.
صرنا حينها نتأمل باسترجاع أمجادنا ورفع رأس قريتنا في وجه العدى. إلا أن الخسارة كانت أشد وقعًا على أنفسهم مما ظننا، إذ ما إن بدأنا التقسيمة في اليوم التالي إلا وقد حضروا بالعصي والحجارة لأخذ الملعب بالقوة، مدججين بآخرين من ذوي البأس. وقفنا ووقفوا، كل منا يرفض التنازل والخروج. وبعد مفاوضاتٍ عديدة، اتفقنا على أن نلعب مباراة حاسمة أخيرة تقرر من منا أحق بالملعب.
مباراة الحسم
وبذا بدأت مباراة الحسم، المباراة الأخيرة. بدأت كعادة كل المباريات: شوطٌ وحيد بلا حكم وبلا خطوط واضحة للملعب عدا بعض الإطارات نصف المدفونة. قائمان من خشبٍ مثبت في طابوقة إسمنتية. لا يرتدي الفريقان أطقمًا ولا أحذية ولا أيًا من ذلك، بل نلعب جميعًا حفاة الأقدام معتمدين على مقدرتنا على التمييز بين لاعبينا ولاعبيهم دون ألوانٍ تمايزنا.
كنا جميعًا نعلم أن ما هو على المحك أكبر من مجرد أسبوعٍ إضافي من اللعب.
تتداخل تفاصيل الأهداف والاحتكاكات والاحتجاجات، وتظل ذكرى رئيسية: كنا متقدمين بهدف. تشرف الشمس على الغروب، وتقترب ساعة ارتفاع صوت المؤذن. تتناثر حبات الرمل كلما ركل أحدنا الكرة أو مررها أو حاول أن يُطير بها إلى أحد المنازل أو المزارع المجاورة. جميعنا نعلم ما سيحدث إن سقطت الكرة خلف الأسوار: تنتهي المباراة.
خلال دقائق أظلمت الدنيا، وارتفع صوت أذان المغرب معلنًا انتهاء المباراة. صار الملعب لنا، وسجلنا نقطة إضافية في رصيد الصراع الأزلي بيننا وبينهم.