للبيع، نسيان مستعمل!
بدأتُ متحمسًا والنية هي الحديث عن ذكريات رمضان ومقارنة رمضاناتي القديمة بالجديدة، ولكني نسيت وبدأت أتحدث عن الأصدقاء وذاكرتي المعطوبة.
لا أتذكر بشكل واضح أول رمضان صُمتُه، لكن المؤكد أنه ذلك حصل منذ زمن بعيد، وأنا عاجز عن تذكر تفاصيل رمضان الماضي. وكل ما أتذكره عنه هو الرسائل التي تصلني من أشخاص لا أعرفهم ولا أتذكر المناسبة التي جعلتني أحتفظ بأرقامهم، وحين أفتح تلك الرسائل أجد أن الرسالة التي قبلها كانت في مثل اليوم ذاته من العام الماضي، وغالباً النص نفسه. ولا أعلم على وجه اليقين هل يتذكرني أولئك الطيبون الذين يهنئونني في المناسبات العامة، أم أني مجرد اسم احتفظَت به هواتفهم؟ هل ينتظرون مني ردًا لأن أمري يهمهم أم أنهم ينتظرون ردًا يساعدهم على تذكّر من أنا وما الذي يفعله اسمي في قوائم اتصالهم؟
والذاكرة السيئة أو المعطوبة ليست شيئًا سيئًا في المجمل، ولها حسناتها التي سيكون من الجحود إنكارها، وأجزم أنها سبب بعض صفاتي الحسنة التي تُعد على إصبع واحدة. فأنا متسامح مع الجميع، ليس لأني طيب، بل لأني في الحقيقة أنسى تلك الأشياء التي يفترض أن أحقد على الآخرين بسببها. ولا أطالب الذين يقترضون مني سداد ديونهم لأني كريم ومعطاء، بل لأني نسيت أني أقرضتهم، أو ربما نسيت أني أعرفهم من الأساس، ولو فاتحتُ أحدهم طالبًا منه السداد ثم قال لي: إنه هو من أقرضني، فعلى الأرجح أني سأصدّقه؛ لأن هذا هو الوضع الطبيعي والمنطقي. ولا أنكر أني أسعد أحيانًا بهذه الحالة؛ لأنها تجعلني أبدو رجلًا نبيلًا ومتسامحًا وكريمًا. مع أن الأمر في حقيقته المجردة ليس أكثر من ضرب من ضروب البلاهة؛ لأن التسامح الحقيقي هو أن تتذكر كل شيء لكنك تقرر طائعًا مختارًا أن تتسامى وتعفو وتسامح.
وحين ألتقي بأصدقائي القدماء ويحدثونني عن قصص ومواقف كنت محورها الرئيسي، فإنني أبتسم ابتسامات بلهاء وأهزّ رأسي بالموافقة على ما يقولون، مع أني لا أتذكر شيئًا منها. ولعلي أتيح بعد تدوين هذا الأمر عني لأولئك الأصدقاء أن يتحدثوا بأريحية أكثر حين نلتقي مجددًا، يمكنهم تأليف قصص جديدة، أو تغيير أحداث القصص القديمة، فلن أعترض على أي شيء من هذا.
وقد سمعت بأناس يعيشون على المهدئات والمسكنات، وتصبح حياتهم جحيمًا دونها، أتعاطف معهم كثيرًا، وأدعو الله لهم بالشفاء، وأتفهم شيئًا من معانتهم -أعانهم الله- لأني رجل يعيش على المنبّهات، وأعني منبّهات التطبيقات وليست العقاقير، ولو اختفت الأجهزة الذكية فجأة فربما أنسى الطريق إلى بيتنا.
وإذا آمنتُ بما يُقال في الحِكَم المستهلكة بأن السعادة صحة جيدة وذاكرة سيئة، فإني سأبدو نصف سعيد، ولولا بضع مشكلات صحية يسيرة لكنت الوكيل الحصري للسعادة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
لكني لست مؤمنًا بهذه المقولة إيمانًا قاطعًا، فالسعادة قد تكون في تفاصيل نتذكرها أيضًا، ووجوه تجعلنا نبتسم حين نلتقيها في الواقع أو تمر كطيف عابر في ذاكرتنا. ولهذا فإني نصف حزين، لأني أخاف أن يكون الأشخاص، الذين أحبهم اليوم ولا أجد معنى للحياة دونهم، مجرد ذكريات يرويها أصدقاء المستقبل، وأهز رأسي دون أن أعرف عن أي شيء يتحدثون. هذه الفكرة مرعبة ومفسدة لومضات السعادة التي تمر بين حين وآخر. والمحبط أني أنسى كل شيء، إلا أنني لا أنسى أنني أنسى كثيرًا. ولو نسيت نسياني لتخلصت من مخاوفي وعشت لحظاتي السعيدة كما ينبغي لها أن تُعاش.
أتذكر -وهذا من غرائب الأمور- أن السبب الذي جعلني بهذه البلاهة غير الظاهرة هو أنني كنت أتجاهل الكثير من الأمور والمواقف والأشخاص متعمدًا. وإذا كان يقال إن الحِلم بالتحلّم والعلم بالتعلّم، فإن البلاهة بالاستبلاه، والاستبلاه هنا يعني إدمان التجاهل. وهذه الإضافة الأخيرة من عندي إسهامًا في تطوير الأمثال العربية بما يناسب العصر الرقمي.
وكما ترون، بدأتُ متحمسًا والنية هي الحديث عن ذكريات رمضان ومقارنة رمضاناتي القديمة بالجديدة، وإثبات أن الماضي أجمل حسب المعتاد، ولكني نسيت وبدأت أتحدث عن الأصدقاء وذاكرتي المعطوبة. وعلى أي حال، لعلي سأسأل أصدقائي، إن تذكرت، عن ذكرياتي القديمة عن شهر رمضان وأخبركم بها إن كانت صالحة للنشر؛ لأن الذي أخبروني به عن بقية الشهور محرج قليلًا، حسبما أتذكر.
الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!