لماذا لن تنجح البتكوين؟
الحكومات حول العالم تعمل على صنع عملاتها المشفرة الخاصة بها، أما العملات المشفرة كالبتكوين فأُخمِّن أن غالبها سيختفي تمامًا.
قبل نحو سبع سنوات اتصل بي والدي وطلب مني معالجة أمر ما طرأ على حاسبه وجعل كل شيء فيه متوقفًا. توجهت إليه مسرعًا، ففاجأتني في منتصف الشاشة رسالة تفيد بأن كل الملفات في هذا الحاسب قد شُفِّرت، وما من حل لفك الشفرة إلا بتحويل بتكوين (كانت تعادل 600 دولار تقريبًا). وقتها كانت البتكوين فتاة شابة لم تحظَ بكل الزخم الذي تحظى به اليوم.
شرحت لأبي أن هناك من اخترق حاسبه، وأن هؤلاء يطلبون فدية، ومُرجَّح أنهم لصوص شرفاء؛ أي إنهم سيأخذون مال الفدية ويعيدون الملفات ومن ثَم سينتهي كل شيء. إلا أن أهم سؤال كان ينبغي أن نجيب عنه هو «هل الملفات الموجودة في الحاسب تساوي بقيمتها هذا المبلغ، أم هي أقل؟»، فقال لي: الحقيقة أنها لا تستحق هذا المبلغ، فهي ملفات عادية ليس إلّا. فقلت له: إذن نختار الدمار الشامل ونمسح كل شيء من ملفات مشفرة وملفات المخترقين، ومن ثَم نعيد الحاسب جديدًا كما كان.
كلما تذكرت هذه القصة سألت نفسي: ماذا لو قرر أبي وقتها أن يختار الانصياع لهؤلاء المخترقين؟ ربما لَاحتفظت بشيء من تلك البتكوينات ونيستها للزمن. إلا أن السؤال الأهم الذي يخطر ببالي: ماذا لو كان في الوقت متسع واشتريت أجزاء من البتكوين اليوم لأنها ستحقق لي ثروة في المستقبل؟
ولأن هذا السؤال قد يطرأ على ذهنك عزيزي القارئ، فسأسرد لك لماذا لن تنجح البتكوين في المستقبل.
سأفترض هنا بأنك شخص يريد حقًّا رأيًا آخرَ بجانب الأصوات العالية التي تنادي بالاستثمار في تلك العملات بحسن نية، لأن العادة جرت عند البشر أن يؤمنوا بالشيء ثم يسوِّغوا له! وأنا أعلم بأنه ما من شيء يربك قرارات الإنسان مثل أن يرى من حوله يغتني في حين أنه في مكانه.
البتكوين تقارع الحكومات
بالرغم من اختلاف المذاهب السياسية على وجه الأرض، لا توجد قوة تقترب من قوة الحكومات، فهي من تُشرِّع وتراقب وتُطبِّق، وكل هذا يتم من خلال أدوات تمتلكها، فلو تحدثنا عن الجانب الاقتصادي للحكومات فإن البنوك المركزية تمثل أهم أدواتها، وعلى الرغم من أنها لا تتبع الحكومة بالضرورة، فهي جزء من كيان الدولة، وحتما تتناسق معها. ولأن الاقتصاد يُحلِّق بجناحَي السياستين النقدية والمالية، فالسياسة النقدية من اختصاص البنوك المركزية، والأخيرة لديها أدوات عدة، لكن الطفل المدلل لها العملةُ الوطنيةُ. تخيل ما يمثله الآيفون لشركة أبل، الشيء نفسه تمثله العملة الوطنية للبنك المركزي.
لنفترض أن مدير متجر أبل عرض هاتف أندرويد في متجر أبل بجانب الآيفون، كيف تتخيل ردة فعل تيم كوك الرئيس التنفيذي لأبل؟ بالضبط الشيء نفسه مع الحكومات، لكن بحجم أضخم. قوة مسؤولة عن ملايين البشر تدير مصالحهم عن طريق عملتها الوطنية، وترضى بسهولة أن تسمح لمنتج آخر أن يسرح ويمرح، هكذا دون إمكانية السيطرة عليه.
وخير ما نستشهد به في هذا المجال، أمريكا التي تعد أكبر دولة اقتصادية في العالم، باقتصاد حجمه 23 ترليون دولار، أما منتجها الرئيس «الدولار» فيستخدم في الخارج أكثر من الداخل بنسبة 65%، ويُسعَّر به أكثر من 60% من سلع العالم. فقط تخيل قسوة العقوبات لو كنت دولة وحرمتك أمريكا الوصول إلى دولاراتها، ثم هكذا بسهولة تتخلى أمريكا عن سلاحها القوي لمصلحة أشخاص مجهولين!
وهذا بالمناسبة السبب نفسه الذي يمنع قانونيًّا المتاجر داخل الدولة أن تستقبل أي مدفوعات بعملة مخالفة للعملة الوطنية، لأن هذا سيربك السياسة النقدية للدولة!
البنك المركزي صديقك وليس عدوك
يحب الناس أن يسمعوا قصصًا حماسية عن مؤامرات تحيكها البنوك المركزية، لكن الحقيقة أن البنوك المركزية صديقةُ الشعب والساعي الدائم والمستمر نحو رفع رفاهية المواطن سواء بمكافحة التضخم أو تقليل البطالة، كما أن:
البنوك المركزية على مر التاريخ كانت خط الدفاع الرئيس لصد أي انهيار اقتصادي قادم، وهذا لا ينفي وجود أخطاء، لكن محاسنها أكبر من مساوئها. الأمر لا يحتاج إلى عواطف بقدر ما يحتاج إلى قليل من المنطق وقراءة التاريخ. Click To Tweet
لو افترضتُ أني قلت كل ما سبق من باب التنبؤ البحت، فيؤسفني أن أخيب أملك. لماذا؟ لأن هناك نموذجًا حقيقيًّا وواقعيًّا حصل يمكن أن نستشهد فيه بردات فعل الحكومات على من يحاول أن يسحب البساط من تحت قدم عملاتها المحلية.
تجربة فيسبوك في خوض غمار العملات الرقمية
أعلن مارك زوكربيرق «مؤسس فيسبوك» منذ سنوات نيتَه لإطلاق تحالف لعملة رقمية خاصة تُدعى «ليبرا» (Libra)، لتسريع التداولات داخل منظومة فيسبوك، وأن تكون ملاذًا لمن لا يملك حسابًا مصرفيًّا. ومع ذلك كان أول مَن حاربه المشرِّعون الأمريكيون، لأن ذلك -حسب قولهم- سيسحب البساط من الدولار، وسيعبث بالسياسة النقدية. وقد حذرت صراحةً هيلاري كلينتون من ذلك الخطر الذي ينطبق على جميع العملات المشفرة.
تخيل أن يتمكن ما يقرب من ٣ مليارات إنسان (عدد مستخدمي فيسبوك) في ليلة وضحاها، من التداول والعمل في سوق كامل بعملتهم الخاصة مستغنين عن الدولار الأمريكي. مع تأكيد مارك المستمر بأن «ليبرا» ستكون أصلًا مدعمة بأصول بل وحتى دولار، لكن المشرعين حاربوا ذلك. قارن هذا مع العملات المشفرة غير المدعومة بشيء ومجهولة المصدر.
كما أن الاتحاد الأوربي رفض ذلك المشروع، وضيّق الأمر عليه حتى انسحبت كبرى الشركات (مثل فيزا وماستركارد) من دعمه، ثم انهار كل شيء.
شروط العملات الناجحة
لكي نطلق لقب عملة على أي منتج نقدي، لا بد من توفر ثلاثة شروط؛ أولها أن تصبح العملة مستودعًا للقيمة. أي عندما تفكر مثلًا في بيع سيارتك لشراء سيارة أخرى بعد شهرين فأنت تضمن خلال هذه الأشهر أن القيمة التي بيعت بها السيارة ثابتة وغير متذبذبة، وإلا فلن يفكر أي شخص ببيع شيء إلا واشترى شيئًا آخر فورًا تجنبًا لأي مفاجأة في تغير سعر الصرف، ناهيك بتجنب الناس الاحتفاظ بأموالها لدى البنوك التي تغذي الاقتصاد، لأن وجود الأموال هناك يحمل الكثير من المجهول معها.
العملات المشفرة تعد مسرحًا راقصًا للتذبذب من أقل قيمة إلى أعلى قيمة في غضون مُدد قريبة، وهذا الشيء مرعب لأي تاجر طبيعي أو حتى مستهلك، وهنا تفشل البتكوين في الشرط الأول والأهم.
الشرط الثاني للعملات أن تصبح وسيطًا للتبادل، مثل النقود التي في جيبك، فالكل يقبلها منك مجبرًا بقوة القانون، ويسهل تحويلها ونقلها فيزيائيًّا أو إلكترونيًّا. لكن ما يحدث مع البتكوين خلاف ذلك، فهب أن مطعم بيتزا مثلًا هنا أو هناك يعلن أنه مستعد لأن يستقبل البتكوين -طمعًا بالدعاية- إلا إنه هل يمكن أن تتخيل أن تعيش يومًا واحدًا بالتعامل بالبتكوين؟ هل ستجد خلال هذا اليوم محالَّ كافية تقبل وترد البقية من البتكوين؟ لا يوجد إلا قلة إما بسبب مانع قانوني وإما بسبب خوفهم من التذبذب العالي. وبذلك تفشل البتكوين بهذا الشرط.
أما الشرط الأخير، أن العملة يجب أن تكون أداة للقياس والعد، وهو الشرط الوحيد الذي يمكن أن تنجح فيه البتكوين، لكنها ليست وحدها في ذلك، بل إن آلاف العملات المشفرة معها، وعليه فهي ليست فريدة في ذلك.
ندرة المنتج ليست سببًا كافيًا لرفع قيمته
يعتقد الكثير من الناس بأن مجرد كون البتكوين نادرًا ويقف عند العدد 21 مليون بأن هذا وحده كافٍ بأن يجعل المنتج ذا قيمة لسبب يسير، وهو أن النوادر «كثيرة في العالم»، حتى المُعرّف الخاص بك في تويتر مثلًا يعد نادرًا، إذ لا يمكن لأحد أن يمتلك نفسه، حتى إيلون مسك. لكن هل هذا سبب كافٍ لأن يرفع من قيمته؟ بالطبع لا. أهم ما يرفع من قيمة الشيء هو أن يكون على المنتج طلب. ثم إن كون المنتج نادرًا من دون وجود طلب لن يرفع من قيمته.
الحقيقة التي يعرفها الجميع، أن الحكومات بطيئة في إقرار القوانين لأسباب يطول شرحها. وقد انتقد بشدة المستثمر الشهير «كيفن أوليري» الذي خسر مؤخرًا 15 مليون دولار من منصة «إف تي إكس»، بطء الحكومة الأمريكية في سن القوانين بشأن تلك العملات المشفرة، وحتى أيسر القوانين، وهو قانون الإفصاح والشفافية بشأن امتلاك تلك العملات، فعلى الرغم من أهميته وبساطته فإنه لم يظهر للنور حتى كتابة هذا المقال.
إذا كنتُ أعرف -شخصيًّا- وجود استثمار شرعي يمكن أن يصعد غدًا فأنا أول المستثمرين فيه، لكن لأن علم الغيب لا يعلمه أحد، فإن كل ما نستطيع تخمينه للمستقبل هو بناء عمل التحليلات المنطقية. وهذا ينطبق حتى على أشهر قصص النصب عبر التاريخ.
كيف ارتبط البتكوين بجرائم غسل الأموال؟
كان «برنارد مادوف» يحقق للمستثمرين في صندوقه عائدًا ثابتًا مستمرًّا على الرغم من جميع الأزمات الاقتصادية، فلو كنت قد استثمرت في صندوقه وخرجت قبل الكشف عنه، لكنت قد حققت مبلغًا محترمًا من العوائد الوهمية.
تعامل مع العملات المشفرة بالمنطق لا بالعاطفة
إذا أودع شخص مبلغًا كبيرًا من ماله في استثمار فسينحاز له شاء أم أبى، سيتتبع لاشعوريًا أي خبر يؤكد انحيازه ولن يقبل رأيًا مخالفًا، وهذا ينطبق على البتكوين أو الأسهم أو العقار.
ما أتمناه ألّا يغامر الشخص الميسور الحال بأمواله التي تعب فيها، وأن يعلم أن الاستثمار لعبة عواطف أكثر من أي شيء آخر، وأن رؤية شخص يجني الأموال بالطريقة الخطأ يجب ألّا تغرينا نحو الطريق نفسه، وأن نُغلِّب المنطق على العاطفة.
أما عن المستقبل، فالحكومات حول العالم تعمل على صنع عملاتها المشفرة الخاصة بها، أما العملات المشفرة كالبتكوين فأُخمِّن أن غالبها سيختفي تمامًا، وسيبقى بعض الأشهر منها حتى لو منعتها الحكومات، لكن قيمتها ستنهار وتصبح أداة بيد من يبيع سلعًا غير قانونية وتبقى موجودة بالاسم فقط، مثلها مثل محرك بحث ياهو، نعم هو موجود لكن متى آخر مرة استخدمته؟