سطوة الاحتياج إلى القبول في الشبكات الاجتماعية

لست أحاول هنا الوصول إلى حياة خالية من سلطة «رأيكم يهمني»، لأن هذا مستحيل. ولأننا كائنات اجتماعية مجبولة على طلب القبول الاجتماعي.

«رأيكم يهمني»، عبارة اعتدنا رؤيتها في نهاية أي منشور يحتوي على عملٍ قدمه أحدهم؛ مقالة أو رسمة أو صورة فوتوغرافية أو قصيدة، لتعبّر بخجل عن أحد احتياجاتنا الأصلية والعميقة: القبول الاجتماعي والشعور بالاحترام والمكانة.

فلو أنك بحثت في تويتر مثلًا بعبارة «امدحوني» أو «امدحوا» لوجدت الآلاف يبحثون عن القبول الاجتماعي بدرجة أقل حرجًا، وبصراحة فجة، هكذا بلا تورية: هذا تصويري للقهوة اليوم، امدحوني. أو هذه صورتي اليوم بكامل زينتي، امدحوا شكلي.

وبصفتي واحدًا من جيل كامل يعيش في الشبكات الاجتماعية، (أقول «يعيش فيها» لأننا نعيش هناك حقيقةً لا مجازًا؛ نتعرّف إلى أصدقاء ونتعلم ونقرأ ونكتب وننمو، نفكر ونؤثر ونتأثر، ونعرض جزءًا لا بأس به من حياتنا اليومية وذواتنا هناك،) أتساءل دائمًا عن أثر هذا التحوّل في سعينا نحو القبول والمكانة، وأثر مشاركتنا لجوانب من حياتنا وذواتنا على حياتنا وذواتنا؟ 

الاحتياج إلى القبول يسبق عصر التواصل الاجتماعي

سواء كنت ممن يطلب القبول الاجتماعي بخجل «رأيكم يهمني»، أو مباشرةً «امدحوني»، أو كنت لا تطلبه أصلًا، فإننا جميعًا محتاجون إلى هذا القبول. ولو واجهنا أنفسنا بصراحة تامة، لاعترفنا أن معظم أعمالنا وجهودنا وإنجازاتنا، منصبَّة لتحقيق هذا الاحتياج بشكل أو بآخر، ومتأثرة به تأثرًا كبيرًا.

إذ تخيل لو طلبنا من المتنبي كتابة قصيدة مفعمة بالفخر، لكننا أخبرناه أن لا أحد سينظر إليها لا أعمى ولا مبصر، وأنَّ كلماته لن تسمع من به صممُ ولا من ليس به صممُ.. وأنه لن يقف في مجلس سيف الدولة بهيبته ورجاله ليلقيها أمامهم متباهيًا، وأنَّ لا أحد سيدونها ولن تُقرأ أبدًا… هل سيكتبها أصلًا؟ وإن كتبها هل ستكون بالقدر نفسه من الفخر؟ هل ستتفجر الكلمات في مخيلته بلا وقود المكانة والإعجاب؟

نحن في سعينا نحو القبول والمكانة لا نختلف كثيرًا عن أسلافنا، لكن شيئًا كبيرًا تغير في واقعنا الاجتماعي، وفي مساحة التباهي والتفاخر بما نعمل ونملك: شبكات التواصل الاجتماعي.

إن أكبر تحوّل تسببت به شبكات التواصل الاجتماعي، هدمُ الجدار الفاصل بين العام والخاص. فقبل هذه الشبكات كان حضورك العام محصورًا بالعمل والمجلس والسوق، وكانت هذه هي المساحات التي تظهر فيها شخصيتنا العامة، وبهذا تخضع لضغوط القبول الاجتماعي.

بينما مساحة الخاص، غرفة نومك، وغرفة المعيشة، وعلاقاتك الخاصة من أهل وأصدقاء، وأكلك وسفرك وخلواتك وعلاقتك مع نفسك، كانت مستحيلة الوصول، وغير خاضعة خضوعًا مباشرًا ولحظيًّا لضغوط القبول الاجتماعي.

أما الآن وقد هُدِم هذا الجدار، فقد ذابت الفروقات بين العام والخاص، فصار كل شيء قابلًا للتصوير والنشر والمشاركة على نطاق واسع.

الثمن الخفي للمشاركة

تخيل أنك قررت فجأة تصوير فطورك يوميًّا، ونشره في الشبكات الاجتماعية. هل تتوقع أن فطورك قبل هذا القرار وبعده سيكون نفسه؟ بالطبع لا. فإن فطورك عندما كان في نطاق الخاص، كانت له وظيفة محدودة: «أن تأكل ما يشبعك»، أما الآن وقد صار في نطاق العام، وأصبح جزءًا من تعريفك لذاتك أمام الناس، ومصدرًا من مصادر تلقي القبول الاجتماعي والإعجابات، فإن وظيفة هذه الوجبة أصبحت مختلفة تمامًا.

فالوجبة ينبغي أن تكون جميلة في شكلها لتعبر عن جمالك وأناقتك، وصحيةً في مضمونها إن كنت تعبر عن نفسك أنك شخص صحي، أو لا صحية إن كنت تعبر عن نفسك أنك لا تهتم. ويجب أن يكون المكان جميلًا والطاولة نظيفة وإضاءة الشمس حاضرة. 

أما صحون أسلافك القدامى التي عاشت أكثر منك، فلن تؤدي وظيفتها القديمة في حمل الطعام. بل صار واجبًا عليك أن تستخدم صحونًا جديدة ذات ألوان زاهية لتعبر عن ذوقك الرفيع في المقتنيات. الأمر ذاته مع الملعقة والشوكة، وكوب القهوة الصباحي الذي لا يمكنك التخلي عنه يومًا، لتحفيز مزاجك الخلاق وذهنك الصافي.

ما حدث لفطورك هنا، أنه أصبح خاضعًا لسُلطة «رأيكم يهمني» بعدما أخرجته من نطاق الخاص إلى العام. وقد لا تكون المشكلة كبيرة هنا، لكن، ماذا لو استبدلنا بمثال الفطور جوانب أخرى من حياتنا، وأين تكمن المشكلة؟

تكمن المشكلة الحقيقية في جوانب حياتنا الأخرى الأكثر خصوصية وحساسية، عندما نشاركها عبر الشبكات بعفوية، فنخضعها لسلطة «رأيكم يهمني» ومعايير القبول الاجتماعي العام. فنضع عليها قيودًا ومعاييرَ ثقيلة، تؤثر فيها سلبيًّا.

حياتك الخاصة كمحتوى

الجوانب الخاصة من الحياة، كالزواج والأطفال ورحلة التعلم والعمل والإنجاز، المشاعر الشخصية… كلها أمور لديها صعوباتها ومشاقها بطبيعة الحال، فكيف إذا أثقلناها بسطوة رأي الجمهور، وصارت خاضعة لـ«رأيكم يهمني»؟

عندما تبيع روحك للجمهور

كثيرًا من الناس اليوم أبَوا إلا أن يعطوا أمام الجمهور، فحتى العطاء لا قيمة له اليوم دون كاميرا، نبيع معها جزءً من الروح مع كل ظهور.

31 أكتوبر، 2022

فمن المظاهر الغريبة عندي، هؤلاء الأزواج الذين يشاركون مشاعرهم تجاه بعضهم على شبكات التواصل الاجتماعي. تكتب هي تغريدة ويرد زوجها بكلمات حب وغرام، ثم يغرد هو بصورة من هدية وصلت إليه من زوجته المحبة، ليمتلئ «المنشن» بمئات الردود المتمنية «ليت زوجي كذا» أو «الله يرزقني بزوج يقول لي كذا ويحبني كذا». وبعيدًا عن أنَّ هذه المظاهر -بالنسبة إليَّ- ليست سوى مادة إعلامية، ربما تعكس واقعًا أو لا، لكن ما يخيفني هو تأثير نشر هذه المواقف في العلاقة الزوجية نفسها. 

فعندما نخضع أحد أهم العلاقات الإنسانية لسلطة الجمهور، و«رأيكم يهمني»، فإن العلاقة ذاتها حتمًا ستتأثر. ففي المرة القادمة عندما يقرر الزوج إهداء زوجته هديةً، سيفكر بالهدية كمحتوى، وبشكل الهدية أمام الجمهور، وتفاعل الناس معها في «المنشن». وعندما تتسلَّم هي هديتها، ستفكر أولًا بتصوير الهدية، وعرضها أمام جمهورها بطريقة لافتة تجلب التفاعل الذي تتمناه. 

وفي بعض الحالات ستكون لحظة تسليم الهدية مصوَّرة أصلًا، لتتحول لحظة خاصة حميمية بين زوجين، إلى مشهد تمثيلي متكامل الأركان، صُنع من بدايته حتى نهايته، وتفاعُل الجمهور أحد أهم أولوياته.

وليست الهدايا هي كل الخطر، بل الخطر أن يروّج زوجان عاديان خاضعان للواقع اليومي، والمناكفات الطبيعية، والزعل الموسمي المعتاد بين أي زوجين، لنموذجٍ وهمي يصبح واقعًا متوقعًا منهما بين بعضهما بعضًا وأمام الناس، فتُخلق تحديات جديدة تثقل على العلاقة.

الانقسام بين واقعين: الخاص والمعروض

قبل أشهر، كنت جالسًا في صالة المنزل آمنًا مستقرًّا، لتأتي زوجتي بفكرة: «تعال نقضّي من السوبرماركت الفلاني». فقد رأت مشهورة تتابعها في «سناب شات» تروج لبعض التخفيضات فيه. ذهبنا مباشرة، فوجدنا المشهورة نفسها مستمرةً في التسوُّق وتصوير المنتجات المخفضة.

كانت عربتها مليئة بالأكل غير الصحي: إندومي وأكياس شيبس وحلويات وغيره… لكنها كانت لا تصور إلا الأكل الصحي: التونة والبقوليات المعلبة والمنتجات الخالية من القلوتين والحليب والبيض. 

كان مشهدًا سُرياليًّا صعب التجاوز، فكأن هذه المشهورة انقسمت بين واقعين: واقعها الحقيقي الذي تأكل فيه كما نأكل نحن، حلويات و«شبسات»، وواقعها الافتراضي الذي تعرّف به نفسها أنها مديرة الأكل الصحي، وأنها لا تضع لأطفالها إلا أجود أنواع الطعام الصحي الخالي من السكر والدهون والقلوتين.

كان من حظنا وحظ هذه المقالة، أننا انتهينا من التسوّق في الوقت ذاته، ووقفنا على الكاشير نفسه، لنرى تكرار انقسامها بين واقعين متمثلًا في ترتيب المشتريات. فوضعت أمام الكاشير المشتريات الصحية أولًا، وصوّرتها، ثم وضعت الحلويات وأكياس الشيبس والإندومي، التي كانت تتعمد إخفاءها.

أتساءل، لو لم تشارك هذه المشهورة يومًا طعامها، هل كانت ستأكل أكلًا صحيًّا أصلًا؟ وما الضغوط التي أصبحت تتحملها بعد أن شاركت أكلها الصحي، لتصبح أسيرة هذا التوقع من الجمهور، لدرجة أنها لا تستطيع تصوير الإندومي في عربتها، وتتعمد إخفاءه كأنه مخدرات؟

ولست هنا ألوم المشهورة على تصرفها هذا، لأنني أَعُدُّ كل مَشاهد سناب شات -لا سيما عند المشاهير- مجرد موادَّ إعلامية، حالها حال برامج الواقع في التلفاز. فالمَشاهد التي تبدو وكأنها تعكس واقع حياة إنسان، لا تعكس واقعًا طبيعيًّا، بل هذا الواقع أصبح مصممًا كمشهد تلفزيوني، مناسب للتصوير، ويؤدي أهدافه المنشودة.

المشاهير ليسوا وحدهم من يسوّق حياته

لا يقتصر الوضع على المشاهير، فحتى في حسابات السناب شات الخاصة، عندما نشارك فيها أكلنا يوميًّا، سواء كان بالمنزل أو خارجه، فإن شكل المائدة ونوع الأكل سيصبح بالضرورة خاضعًا لسلطة «رأيكم يهمني» لدى جمهورنا الأصغر؛ أهلنا وأصدقائنا. وعليه تتأثر قراراتنا تبعًا لهذه السُلطة. 

كما أن الأكل خارج المنزل تحوّل إلى نوع من أنواع التباهي بين الأقران، وأصبح سوق المطاعم سوق عرضٍ وجماليات أكثر من كونه سوقًا للطعام فقط. فكما أن الساعة التي نلبسها تحدد مستوانا الاجتماعي، فالمطاعم التي نذهب إليها، وعدد المرات أسبوعيًا، بل حتى الطلبات التي نطلبها، كلها فرص للتباهي وإظهار المكانة الاجتماعية والقدرة على الشراء. 

فمن قال قديمًا «كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس» لا يدري أنَّ حتى «الأكل» انتقل مع اللبس لخانة: ما يعجب الناس.

شارك غنائم انتصاراتك في الشبكات الاجتماعية

بصفتنا بشرًا فإننا نختلف كثيرًا ونتشابه كثيرًا، ومما نتشابه به جميعًا: معاركنا اليومية السخيفة ضد عاداتنا وطباعنا. فنحن ننتصر مرة ونخسر مرات، في محاولاتنا تنظيم الأكل والنوم والرياضة والصحة والإنجاز والعمل والقراءة وأداء الواجبات العائلية والزوجية تنظيمًا جيدًا. وإذا توازنّا في منطقة، غرقت منطقة أخرى في الفوضى.

ومن ملذات الانتصار في هذه الحرب، مشاركة الغنائم على الشبكات الاجتماعية. فصورتك في النادي والعرق يتصبب منك، تزيد رصيدك الاجتماعي وتشعرك بالسعادة. ومشاركتك الاستيقاظ مبكرًا، تُنصِّبك «بطل الشموس الفجرية» في أعين الناس.

بل إن بعض الناس يستخدم سلطة «رأيكم يهمني» ضد نفسه المتكاسلة متعمدًا، ليجبرها على التزام العادات الصحية وتنظيم الحياة.

لكن:

من تجارب كثيرة في مشاركة محاولات تنظيم الحياة عبر تويتر، وجدتُ أنها مع الوقت تفقد مغزاها الأساسي: «تنظيم الحياة»، لتتحول إلى محتوى أصنعه، ولا فائدة منه إلا التفاعل الذي يجلبه. Click To Tweet

هذه النوعية من المحاولات لا تعيش أطول من عمر المحتوى وبريقه أمام الناس، وسرعان ما يخفت بريق المحتوى، وتتوقف عن تلك المحاولات المصطنعة. 

وجدت أن محاولاتي الخفية الطبيعية تدوم أكثر وتجلب نتائج أفضل. فخارج سلطة «العام» توجد مساحات متسامحة مع النفس، ومتفهمة للقصور، ومتقبلة للتقلبات والمواسم، ومستحضرة للهدف الأساس والأسمى: أنني أريد أن أنظّم حياتي فعلًا، لا لأبهر الناس، بل لأكون سعيدًا وراضيًا عن نفسي.

لأنَّ رأيكم يهمّني

لست أحاول هنا الوصول إلى حياة خالية من سلطة «رأيكم يهمني»، لأن هذا مستحيل. ولأننا كائنات اجتماعية مجبولة على طلب القبول الاجتماعي والسعي وراء المكانة. كما أن لكلٍّ طريقته في التعبير عن نفسه. فمن اختار أن يروج نفسه بصفته «مدير الأكل الصحي» سيشارك أكله وطبخه بالطبع، لكنه بهذا القرار يجب أن يعلم أنه قرر التضحية بجزء من خصوصيته، لمصلحة شخصيته العامة هذه. وقد تكون هذه التضحيات مفيدة للبعض إن أحسن إدارتها.

لكن ما يهم، هو أن نكون واعين بالمناطق العامة من حياتنا التي تخضع لسلطة «العام»، وأن يكون ما وضعناه في نطاق «العام» موضوعًا هناك بعناية، وننتبه إلى تبعات ذلك على الجانب الذي قررنا مشاركته من حياتنا.

كما ينبغي لنا الانتباه إلى وجود مناطق خاصة في حياتنا، خالية من وطأة رأي الناس والجماهير -صغيرةً وكبيرةً-، لنحافظ على جزء من حريتنا واستقلاليتنا.

إنَّ استيعاب هذه الحقيقة جيدًا يجعلنا أكثر تصالحًا مع أنفسنا، وأكثر اتزانًا في تعاملنا مع احتياجنا إلى القبول الاجتماعي. فمن يفرّط في محبة الناس ويستغنِ عنهم، يعِش وحيدًا منبوذًا. ومن يبالغ في السعي وراء محبة الناس يخسر احترامه لنفسه وجانبًا كبيرًا من استقلاليته.

أرجو أن يكون المقال قد أعجبكم، لأن.. رأيكم يهمني.

الإنسانالحياةوسائل التواصل الاجتماعيالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية