القانون يحمي المغفلين
لا يمكن للقانون أن يكون مجرد أداة لحماية الأقوى أو الأذكى، بل هو نظام متكامل يسعى لتحقيق العدالة وضمان عدم استغلال طرفٍ لآخر.




أحمد العطاس
تنتشر بين الناس مقولة «القانون لا يحمي المغفلين» وكأنها قاعدة قانونية ثابتة، تُستخدم غالبًا لتبرير ضياع الحقوق نتيجة الإهمال أو عدم الحذر. لكن هل هذه العبارة صحيحة تمامًا؟ أم أن القانون يتدخل لحماية الأفراد حتى في الحالات التي يبدو فيها أن الخطأ يقع عليهم؟
في الواقع، لا يمكن للقانون أن يكون مجرد أداة لحماية الأقوى أو الأذكى، بل هو نظام متكامل يسعى لتحقيق العدالة وضمان عدم استغلال طرفٍ لآخر، خصوصًا في العلاقات غير المتكافئة. من خلال هذا المقال، سنأخذ القارئ إلى رحلة نستعرض فيها كيف يتدخل القانون لحماية الأفراد، ليس فقط «المغفلين» كما يُقال، بل كل من قد يكون في موقف ضعفٍ نتيجة الجهل أو الحاجة أو حتى سوء التقدير.
القانون في جوهره لا يعفي الناس من مسؤولياتهم، لكنه أيضًا لا يقف مكتوف الأيدي أمام الظلم والاستغلال. فالأشخاص قد يقعون ضحايا بسبب الفارق في القوة التفاوضية أو الخبرة أو حتى المعرفة القانونية. ولهذا السبب نجد أن القوانين لدينا، المستلهمة والمستوحاة من أحكام الشريعة التي حرّمت الظلم والخداع بكل أشكاله المباشرة وغير المباشرة، وأيضًا قوانين الدول الأخرى التي تشاطر أحكام الشريعة في هذا التوجّه، تتدخّل جميعها لتخلق حالة من حالات التوازن في المجتمع قدر الإمكان.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك التدخل القضائي لإصلاح بنود العقد، ففي بعض العقود قد تكون هناك شروط مجحفة تجاه الآخر، فيأتي القضاء ليوازن الكفّة بين أطراف العقد. وهذا ما يميّز القانون الذي ينظّم الحياة الإنسانية، فلولا وجود مثل هذه التدخلات لما اختلف قانوننا عما نسميه بقانون الغابة، حيث القوي والذكي يسحق الضعيف دومًا.
أيضًا من الأمثلة الأخرى الأكثر أهمية هي ما نصّت عليه قوانين العمل التي تُبطل أي شرط يكون فيه إضرار ومساس بحقوق العامل الأساسية، فحتى لو اضطر العامل إلى قبول شيء يمس ويضر بحقوقه الأساسية، وإن كان بجهلٍ منه، فالقانون يتدخل لإبطال هذا البند حمايةً لوضع العامل في العلاقة غير المتكافئة.
وكما ذكرت، لا تقتصر الأمثلة التي أستعرضها على حماية من يُوصفون بـ«المغفلين»، بل تهدف إلى إبراز كيف تراعي القوانين الحالات التي يكون فيها الإنسان جاهلًا بالحقيقة، سواءً كان مضطرًّا، أو في الحالة التي يكون غير قادر على إدراك تبعات تصرفاته إدراكًا كاملًا. ومن ذلك، أن القانون يقضي بعدم معاقبة الشخص على جريمة إن لم يكن عالمًا بأنه يرتكب فعلًا مُجرَّمًا.
وهنا يجب التمييز بين حالتين: الأولى، أن يكون الشخص غير مدرك لحقيقة ما يفعله، كأن يملأ مستندًا رسميًّا بمعلومات يعتقد أنها صحيحة، بينما هي في الواقع غير ذلك، فهو في هذه الحالة لم يكن يعلم أنه يغيّر الحقيقة، أي لم يدرك أنه يرتكب تزويرًا.
أما الحالة الثانية، فهي عندما يغيّر الشخص الحقيقة عن قصد، لكنه يجهل أن هذا الفعل يُصنّف قانونيًّا على أنه جريمة تزوير. وهنا تُطبّق القاعدة القانونية المعروفة: «لا يُقبل الاحتجاج بالجهل بالقانون»، أي أن الجهل بالنصوص القانونية لا يُعفي من المسؤولية الجنائية.

في قضايا الأحوال الشخصية، هناك ما يُعرف بـ«تصرفات مرض الموت»، وهي التصرفات التي يقوم بها الشخص وهو في حالة مرضٍ يُعتقد أنه سيؤدي إلى وفاته، بهدف التأثير في توزيع تركته. على سبيل المثال، قد يُطلّق زوجته حتى يحرمها الميراث، أو يمنح جزءًا كبيرًا من ممتلكاته لأحد أبنائه ليمنع البقية من الحصول على نصيبهم. في مثل هذه الحالات، يتدخّل القضاء لإبطال هذه التصرفات، حتى لو تمّت، لأنها تُعد تحايلًا على حقوق الورثة ومحاولة تلاعبٍ بأحكام الميراث.
والقانون شأنه شأن الحياة، مليء بالتفاصيل الدقيقة التي لا يمكن اختزالها في أمثلة محدودة. فالأمثلة التي ذكرتها ليست سوى لمحات سريعة من مشهد قانوني واسع، حيث تتشابك القواعد مع الاستثناءات، وتُصقل الأحكام وفقًا للظروف المحيطة بكل واقعة. وكما هو الحال عند قراءة عرضٍ ترويجي مغرٍ في أحد المتاجر، فإن الحروف الصغيرة في الأسفل تذكّرك: «تُطبّق الشروط والأحكام». كذلك في القانون، هناك سياقات ومعايير لا بد من أخذها في الاعتبار قبل الوصول إلى الحكم النهائي. فما ذكرته مجرد لمحة عامة، لكن التفاصيل تظل الحَكَم الحقيقي في كل قضية.
قد يعترض البعض على هذا الطرح قائلًا: على العكس تمامًا، فكما يقول الفقهاء «المفرِّط أولى بالخسارة». وربما مرّ القارئ أو سمع عن أشخاص ضاعت حقوقهم بسبب جهلهم بالقانون، مما يثير التساؤل: إلى أي مدى ينبغي للقانون أن يتدخّل لحماية الأفراد؟ وهل يمكن أن يتحوّل التدخل القانوني إلى عبء بدلاً من كونه ضامنًا للعدالة؟
صحيح أن الجهل بالقانون قد يؤدي إلى أضرار، لكن ما نؤكد عليه هو أن القانون لا يقف متفرّجًا في جميع الحالات، بل يتدخل حين يكون التدخل ضروريًّا لتحقيق التوازن. وهنا يبرز السؤال الأهم: ما حدود هذا التدخل؟ ربما أفضل وسيلة للإجابة هي النظر إلى مفهوم «الغبن» لفهم الصورة الأكبر.
الغبن ببساطة، هو عدم توازن أحد العِوَضين في العقد، كأن يُباع منتج أو خدمة بمقابل مالي لا يتناسب مع قيمته الحقيقية. لكن القانون لا يتدخّل في كل تفاوت في الأسعار، بل يشترط أن يكون الغبن فاحشًا ليُصحّح. أما الفروقات الطفيفة فهي جزء من طبيعة التعاملات اليومية، حيث يدخل عامل الخبرة والتفاوض و«الشطارة».
وهذه الفكرة تنطبق على تدخل القانون عمومًا؛ فهو لا يُمارس الحماية المطلقة، بل يتدخل عندما يكون الظلم واضحًا وجسيمًا. أما التدخل في كل صغيرة وكبيرة لحماية الجميع من كل خطأ، فهذا يقود إلى حماية أبوية مفرطة قد تُعيق حرية الأفراد ومسؤوليتهم عن قراراتهم. وهذا بالضبط ما حذّرت منه في المقالة السابقة، حيث انتقدت ظاهرة الإفراط في التشريع ومحاولة علاج كل مشكلة بالقانون، وهو أمر قد يؤدي إلى نتائج عكسية بدلًا من تحقيق العدالة الحقيقية.
هناك فرق جوهري بين تدخل القانون للحماية وبين الإفراط في التشريع، وأولى هذه الفروقات أن الانتقاد لا يُوجّه للتشريع ذاته، بل للإفراط فيه. فالتشريع ضرورة أساسية في المجتمعات الحديثة، وهو أداة فعّالة لضبط العلاقات وحماية الحقوق. لكن المشكلة تنشأ عندما يتحول إلى عبءٍ يُثقل كاهل الأفراد والدولة على حدٍّ سواء.
الفارق الثاني، يكمن في توقيت التدخّل القانوني، فالكثير من آثار التشريع السلبي تنبع من التدخل المسبق قبل وقوع المشكلة، عبر فرض شروط ومتطلبات يُفترض أنها تحقق الحماية، لكنها قد تُثقل الاقتصاد، وترفع تكاليف الامتثال، بل وتفتح المجال لظهور مشكلات جديدة، مثل التلاعب والتحايل والرشاوى، نظرًا لصعوبة تطبيق القانون عمليًّا.
أما الحماية القانونية التي تناولناها في هذا المقال، فهي في الغالب حماية لاحقة، أي أنها تتدخّل بعد وقوع المشكلة، استجابةً لشكوى أحد الأطراف أمام القضاء. وبهذا الشكل، لا يكون القانون قد وضع عقبات غير ضرورية أمام المعاملات اليومية، بل يتدخل فقط عند الحاجة لضمان العدالة، مما يسمح للنشاط الاقتصادي والاجتماعي بالاستمرار بوتيرة طبيعية وسريعة دون تعقيدات غير مبررة.
ومن الضروري إدراك أن القانون لا يسعى إلى خلق عالم مثالي خالٍ من الخسائر أو الأخطاء، بل يهدف إلى ضمان حدٍّ أدنى من العدالة يمنع الاستغلال الصريح والغبن الفاحش. أما الخسائر الناتجة عن قرارات فردية، فهذه تظل جزءًا من التجربة الإنسانية التي لا يمكن للقانون أن يحمي الجميع منها.
في نهاية المطاف، لا يمكن اختزال القانون في عبارة شعبية مثل «القانون لا يحمي المغفلين»، فهو ليس أداة لمعاقبة الجهل، ولا مظلة تحمي الجميع من كل خطأ. بل هو منظومة متوازنة، تتدخّل عندما يكون هناك ظلم فاحش أو استغلال واضح، لكنها في الوقت ذاته لا تعفي الأفراد من مسؤولياتهم عن قراراتهم.
فالقانون يسعى لتحقيق العدالة، لكنه لا يستطيع أن يكون بديلًا عن الوعي والتفكير النقدي. فبينما يحمي القانون الأفراد في المواقف التي يكونون فيها عرضة للاستغلال أو التدليس، فإنه لا يمكن أن يكون عذرًا لمن لا يبذل الحد الأدنى من الحرص في معاملاته. وهذا هو جوهر التوازن القانوني: حماية لا تصل إلى حد الاتكاليّة، ومسؤولية لا تتحول إلى استغلال وظلم.

فقرة حصريّة
اشترك الآن


لا يحمي القانون المغفلين وحسب، بل يحمي المتّهمين.
في مقالة «التشهير قبل حكم القضاء فوضى وجريمة»، المنشورة في نشرة الصفحة الأخيرة، يقول أحمد العطاس: «ترك باب التشهير مفتوحًا على مصراعيه للناس أشبه بتوزيع الأسلحة بينهم!»
أتت المقالة في سياق التشهير بمعلميْن لاتهامهما بالتحرش الجنسي بأحد طلابهما، لتظهر لاحقًا براءتهما، التي لم تُصلح ما أُفسد -ظلمًا- من سمعتهما.

في الحلقة الماضية من بودكاست الصفحة الأخيرة، ناقشني فارس الفرزان في مقالتي «القرار خلف سوء تدريب الطلاب السعوديين»، المنشورة في نشرة الصفحة الأخيرة.
في تلك المقالة، أزعم أن قرارًا واحدًا بسيطًا خلف معاناة الطالب السعودي ليجد تدريبًا، وهو أيضًا السبب وراء شكليّة تدريبه الخالي من أي عمل حقيقي، وانخفاض راتبه إن وجده. وبينما يحل المعضلة إلغاء ذاك القرار وحسب، عُمقت الأزمة بقرارات إضافية على ذات نهجه!
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.


مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.