التشهير قبل حكم القضاء فوضى وجريمة
ترك باب التشهير مفتوحًا على مصراعيه للناس أشبه بتوزيع الأسلحة بينهم!
أحمد العطاس
نُشر مؤخرًا عبر منصة إكس مقطع فيديو لطفل يتهم معلميه بالاعتداء الجنسي عليه في المدرسة. وكما يقال «طار الناس في العجة»، وتداولوا صور المعلمين على نطاق واسع، مما ولّد موجةً من الهجوم عليهم قبل أن تصدر الجهات الأمنية خبرًا ينفي صحة ما يُتداول.
بعد ذلك، بدأ الكثيرون يشجبون التشهير ويستنكرون نشر صور المعلمين. ولكن السؤال، هل كان سيحصل ذلك لو أكدّت الجهات الأمنية صحة الادعاء؟ هل المشكلة فيما حدث هي فقط عدم صحة الواقعة؟
هذا يعبّر عن الإشكال الذي تود هذه المقالة تسليط الضوء عليه، وهو أن التشهير من قبل الناس فعل خاطئ، بغض النظر عن هل المشهر به هو المجرم أم لا. وسبب خطأ هذا السلوك يُحيلنا لموضوع في القانون اسمه «ضمانات المتهم».
لنتساءل، لمَ توجد شُرَط ونيابة وقضاء ومحاكم بدرجاتها المختلفة (الأولى – الاستئناف – العليا)؟ لماذا حين يُشتكى على شخص تستدعيه الشرطة، ثم تحيله للنيابة لتُحقق معه، ثم يحال للمحكمة، ثم يصدر حكم، ثم يمكنه الطعن على الحكم في محكمة أعلى، لماذا كل هذا؟ هل هذه الإجراءات وضعت لمعاقبة الشخص؟ كلا، الغرض الأساسي من هذه الإجراءات هي الحماية!
حيث تتحقق هذه الإجراءات من عدم معاقبة البريء. المسألة ليست في المعاقبة بقدر ما هي في التأكد من عدم معاقبة شخص غير مذنب. والتشهير عقوبة، ولكونه عقوبة فلا بد أن يمر بالإجراءات القانونية، فلا يُشهّر إلا من القضاء أو الجهات المختصة بموجب سند نظامي وبعد أن يكون الحُكم قطعيًّا نهائيًّا.
ووجود هذه القواعد والإجراءات، ووجوب مرور الدعاوى عليها، تشير لمفهوم «المنهجية». حيث الأمر ليس تحقيق النتيجة فحسب، وبغض النظر عن الطريقة، بل في كيفية تحقيق النتائج بأقل الخسائر.
ولمفهوم المنهجية شواهد في الإسلام. فمن ذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر». وحديث «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ». والمقصود فيه خطأ من فسّر القرآن بهواه تاركًا منهج التفسير القويم، ولو أصاب في تفسيره. فيثار التساؤل هنا: لماذا أثُيب المجتهد على الخطأ، ولماذا كان آثماً من أصاب في القرآن برأيه؟
السبب أن الالتزام بالمنهج السليم أهم من تحقيق النتيجة الصحيحة؛ فالمنهج السليم يضمن باتباعه تحقيق أكبر قدر من النتائج الصحيحة. بينما النظر فقط إلى تحقيق النتيجة، دون اعتبار للمنهج، سيورد المهالك، سيّما إن حُققت نتيجة صحيحة بمنهج خاطئ، فذلك سيوهم بصحة المنهج؛ مما يؤدي للقناعة به وبتطبيقه، ثم الانزلاق في بحر من الأخطاء والتخبط.
ويدلل على ذلك حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن المجتهد، فنجد أن له أجرًا في الخطأ؛ لأنه بذل الأسباب والتزم بالمنهج والطريقة الصحيحة، وبالتالي يكون خطؤه عرضيًّا ومؤقتًا، ومصيره تحقيق النتائج الصحيحة في آخر المطاف.
بينما الآخر، ذو المنهج الخاطئ، الذي فسر القرآن برأيه، فسيصيب مرة ويخطئ مرات عديدة، بل سيكون في إصابته ضرر؛ لأنه سيتوهم ويعتقد أنه قادر على إجادة الصواب في كل مرة، وهنا تكمن المشكلة، فجاءت هذه الشواهد على تأكيد أهمية المنهج الصحيح عوضًا عن تحقيق النتيجة بأي طريقة.
ولنربط ما ذكرناه بموضوع المقالة، فالتشهير عقوبة يراد بها إعلام الناس بأمر مشين عن المُشهر به، إلا أنه لا بد أن تحصل بشكل منضبط ونظامي؛ فالقضاء هو من يحكم في إيقاعها بعد أن يتحقق من كافة الأمور.
والمقصد من ذلك هو ضبط التشهير ليكون وسيلة عقابية، والتأكد من تطبيقه على المستحقين له. بينما إن تُرك باب التشهير مفتوحًا على مصراعيه للناس سيكون الأمر أشبه بتوزيع الأسلحة بين العموم!
صحيح أن حينها سيستخدم السلاح ضد المجرمين ومن يستحقون، لكن هل تضمن عدم استخدامه ضد الأبرياء؟ وهنا مكمن الإشكال، أننا حين نشرع ونطبع مع التشهير من الجميع بلا ضوابط فإننا نسلم سلاح خطير للجاهل والعاقل.
ومن الجدير بالتأمل أن التشهير، بوصفه عقوبة، لا يختلف عن السجن أو القصاص؛ فكما لا يحق لأفراد المجتمع سجن شخص أو تنفيذ حكم القصاص عليه، حتى لو ثبتت إدانته، فكذلك لا يجوز لهم التشهير به. هذا التصرف مجرّم في الشرع والقانون، ويُعرف بـ«الافتئات على السلطة»، إذ يُعد تعديًا على سلطة الدولة ويؤدي إلى إشاعة فوضى لا ضابط لها.
وليس لآثار التشهير غير المنضبط حد. فمنها أن خبر التشهير بالمتهم أسرع وأشمل في وصوله من خبر البراءة بعدها، سيّما إن تأخّر نشر البراءة عن نشر التشهير. وحينها، ستلصق بالمتهم البريء سمعةً يصعب فكّها، وستحوم حوله شكوك من قبيل «ما فيه دخان بلا نار»، و«ابعد عن الشر وغنّي له».
أما ما يدفع به بأن «واجبنا كمجتمع تصديق الضحايا، وعلى الدولة يقع عبء التحقق والتثبت»، فأولًا أفليس من شُهّر بِه ظلمًا ضحية أيضًا؟ فكما أن الاعتداء الجنسي جريمة، ويوجد مجرم وضحية، فإساءة سمعة الشخص عبر التشهير به -بغير وجه حق- أيضًا جريمة، وفيها مجرم وضحية، فلماذا تُفضّل مصلحة ضحية عن ضحية أخرى؟
ثانيًا، التعاطف مع الضحية وتصديقها إنما هو لدعم لجوئها للشكوى، وعدم تعييرها، ومطالبة الجهات المعنية بمتابعة حالتها، وليس بالتجاوز واتهام الآخرين.
وعن الحجج التي تقال نحو «من الذي يكذب في موضوع كهذا؟» نقول ليست المسألة في كذب الشاكي من عدمه، بل لو أكدت إحصائية أن 100% من الضحايا صادقون، لم يكن ذلك كافياً لقبول هذا التشهير غير المنضبط، لأنه في اللحظة التي نشرعن فيها -مجتمعًا ودولةً- قبول مثل هذه الممارسات، فسينتج عنها وجود ثغرة يمكن استغلالها. فإذا أصبح أمر التشهير بغير ضوابط أمرًا اعتياديًّا، فغدًا يمكن للجميع البدء في ذلك واستغلاله استغلالًا مؤذيًا.
بل مما ينبغي الإشارة إليه أن كثيرًا من هذه الإساءات قد تكون من أشخاص خارج الدولة، فهم لا يخشون أن تلحقهم سياط القانون، وسيستغلون موقعهم للإساءة لسمعة الناس، وبما أن الشائع هو تصديق هذه الأخبار، فسيطال الأذى المشهر به، حتى ولو خرج بالبراءة، فالعامة تقول «الرصاصة اللي ما تصيب تدوش».
وقبل أن نختم من الضروري أن نوضح عقوبة التشهير في الأنظمة السعودية غالباً ما تكون عقوبة إضافية جوازية، وهذا يعني أن القاضي يُقدّر إيقاعها على المجرم من عدمه.
فجريمة مثل التحرش لها درجات متعددة، ابتداءً من الكلمة أو الإشارة إلى أفعال ملموسة تمسّ جسد الآخر، فليس كل مرتكب للتحرش على درجة واحدة، والعقوبة في القضاء لا بد أن تكون متلائمة مع شخص الجاني، فالقاضي يرى ظروف الواقعة والسوابق وعمر الجاني وطريقة حصول الجريمة، وغير ذلك من التفاصيل ليحدد من خلالها العقوبة المناسبة.
فقد يجد ما يجعله يشدّد العقوبة ويمدّد مدة السجن ويشهّر بالجاني، وقد يجد ما دون ذلك، فيخفف ويكتفي بالسجن دون التشهير. لذلك، لا تكفي إدانة المتهم بجرمٍ ما حتى يجاز التشهير به، بل يجب أن يسبق ذلك حكمًا لقاضٍ يرى في تلك الحالة تحديدًا جواز التشهير.
وهذا أمر يفتقده العموم غير المختصين، إذ لا ينظرون للوقائع إجمالًا، بل يكتفون برواية أحادية، ويصدرون أحكاماً في لحظة غضب وانفعال، وهذا منهيٌّ عنه شرعًا، إذ نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يقضي القاضي وهو غضبان، فلأجل كل ذلك، الالتزام بالقانون هو ضمان للمجتمع من ألا يعاقب أبرياؤه.
وأشير كذلك لظاهرة بدأت تنتشر على السطح، وهي الهروع نحو التشهير وتأييده بكل حالاته، ورجاء إيقاعه على المتهمين في كل صغيرة وكبيرة، وكأنها طريقة يُعبّر فيها عن تفريغ وصب مشاعر الغضب.
وفي ذلك عواقب عديدة. أولها أن العقوبة لا بد أن تلائم قدر الخطأ. فلا يعني إثبات القضاء إدانة متهم أنه مستحق لكل أنواع العقوبات؛ فالجرائم درجات، والجريمة الواحدة لها درجات ومستويات.
ولذلك، فإن التشهير، وهو عقوبة قاسية، لا بد أن تقع على من كان خطؤه على قدر استحقاقها. ولهذا توجد في الدول منظومة من جهات وأشخاص مختصين للتأكد من إيقاع العقوبة المناسبة.
أيضًا، مما لا يخفى على باحثي علم العقاب أن العقوبة لا بد أن تترك مساحة للفرد بأن يعود للمجتمع ويندمج فيه. والعقوبة إن كانت إقصائية، وتلحق الفرد دهرًا، فمآلها بقاء المجرم على حاله، وحثّه على معاودة الجريمة؛ إذ لم يعد لديه ما يخسره. وعلى ذلك يقول المثل الصيني: «إذا حاصرت عدوك، اترك له مساحة للهروب؛ لئلا يستأسد».
وفضلًا عن أن هذا النوع من العقوبات يمتد لأسرة المعاقب، وفي ذلك معاقبة من لا يستحقون العقاب.
إلا أن كل ذلك لا يعني نقد عقوبة التشهير من أساسها، أو الدعوة لإلغائها، إلا أنه تأكيدٌ على ضرورة ضبطها، وبقائها بيد الدولة، وتجريم من يتعدّى على ذلك بالتشهير قبل إيقاع عقوبة التشهير من القضاء.
أخيرًا، من المؤسف أن تصعب الإشارة لمثل هذا الرأي، بالذات لو أكدت الجهة الأمنية صحّة الادعاء، إذ سيكون حينها مشجوبًا ومنكرًا أن يرفض أحدهم التشهير قبل إثبات إدانة المتهم، وسيصوّر وكأنه ظهيرٌ للمتحرشين والمدانين، وإنما أمره هو رغبته في ضبط أداة خطيرة، مثل التشهير، لئلا يساء استخدامها في حالات قد لا يدان المشهر بهم فيها.
فاصل ⏸️
فقرة حصريّة
اشترك الآن
فاصل ⏸️
رغم اتّجاه هذا العدد لمأسسة العلاقة بين الناس، وضرورة تنظيمها وفق القضاء، إلا أن ذلك لا يلغي مساحة الأعراف الاجتماعية في التأثير على تصرفات الناس وضبط علاقاتهم، بما لا يمكن للقوانين تحقيقه في بعض المرات بنفس الفاعلية والسلاسة.
يستعرض وثائقي «كيف كانت القوانين الاجتماعية تحكم الناس» من ثمانية هذه المساحة في المجتمع السعودي، قبل عقودٍ من اليوم.
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.
مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.