كيف سيتعامل ترامب مع العالم

في نظر ترامب، النظام العالمي الحالي يعاني من فوضى تفرض على أمريكا تولي دفة القيادة.


هشام الغنّام

نسمع دائمًا أن دونالد ترامب «معاملاتي» (Transactional)، وأنه سيكون رئيسًا حازمًا، ولديه خطة متكاملة لإعادة تشكيل العالم والشرق الأوسط بما يتناسب مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه قادر على تنفيذ كل هذا بكل سهولة. ومن الجهة الأخرى، يُكرّر دائمًا أن ترامب غير قابل للتنبؤ ولا سياسة واضحة لديه أو نظرة محدّدة تجاه العالم، وإنما تحركه الأمزجة الشخصية (Temperaments)، فما واقع الحال؟

يعود ترامب إلى البيت الأبيض بما يبدو خطة طموحة لإعادة صياغة دور الولايات المتحدة على المسرح الدولي، مُتحديًا التقاليد الدبلوماسية التي عرفتها السياسة الخارجية الأمريكية منذ عقود.

ومما تجدر الإشارة إليه الاختلاف الجذري بين طاقم ترامب في فترته الأولى وطاقمه في فترته الثانية؛ ففي الفترة الأولى كان فريقه أكثر خبرة ودبلوماسية ومعرفةً بالتقاليد الحاكمة لسياسة أمريكا الخارجية، إلا أنه واجه معهم جميعًا المشاكل والخلافات، وانتهى الحال بينهم إلى مهاجمة كل طرفٍ للآخر، وآخرها وصف الرئيس هذا الأسبوع لمستشاره السابق للأمن الوطني جون بولتن بأنه «غبي وأحمق»، مع سحب حماية الخدمة السرية له رغم التهديدات الإيرانية لحياته.

وبجانب بولتون، وهو من كان السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة إبان فترة الرئيس جورج بوش، تكرّرت هذه الحالة مع وزير خارجية فترته الأولى: ريكس تيلرسون، الذي كان -قبل توليه الوزارة- الرئيس التنفيذي لإحدى أكبر شركات النفط بالعالم «ExxonMobil»، ولمدة عشر سنين، قبل أن يقيله ترامب بعد سنتين من تعيينه.

وقد كان صريحًا حول ذلك في مقابلته مع جو روقان إبان حملته الانتخابية الأخيرة، حيث اعترف أن محدودية علاقاته وخبراته السياسية عندما فاز في الرئاسة في 2017 أدت إلى «اختيارات خاطئة كثيرة».

أما في فترته الثانية، وبعد ثماني سنين من فوزه الأول، عيّن طاقمًا صغيرًا، وأكثر جرأة، وأبعد عن التقليد، ومستمدين قيمتهم الأساسية من تعيين ترامب لهم، أكثر من كونهم أصحاب علاقات أو خبرات سابقة ممتدّة. وقد تنبأتُ بذلك في مقالتي «كيف ستغيّر عودة ترامب الشرق الأوسط» بنشرة الصفحة الأخيرة، وذكرت: «سيكون العامل الشخصي حاسمًا في اختيارات ترامب، بغض النظر عن الكفاءة والقدرة.»

تتضح هذه المفارقة عند المقارنة بين مرشحه الجديد لوزارة الدفاع، بِيت هيقسيث، البارز بنشاطه الإعلامي عبر تقديمه برنامجًا يمينيًّا على قناة «Fox News»، بعد أن كان عسكريًّا في سجن قوانتانامو، ومشاركًا في حربيّ أفغانستان والعراق، وبين وزير دفاعه في الفترة الأولى جيم ماتيس: الجنرال ذو الأربع نجوم، وقائد أعلى لحلف الناتو، بعد أن كان قائد أفواج وفرق في حربيّ أفغانستان والعراق.

التعامل مع هذه المعطيات الهامة بحذاقة سيكون مهمًّا لمن أراد الاستفادة القصوى خلال الأربع سنوات القادمة.

في نظر ترامب، النظام العالمي الحالي يعاني من فوضى تفرض على أمريكا تولي دفة القيادة، ليس عبر الخطابات الدبلوماسية التقليدية، بل باستخدام أدوات الضغط الاقتصادي، والقوة العسكرية، والدبلوماسية الصارمة، التي لا تترك مجالًا للتفاوض دون شروط أمريكية.

طموح ترامب لا يقتصر على الشرق الأوسط فقط، بل يمتد إلى آسيا وأوربا وأمريكا اللاتينية، حيث يسعى إلى فرض رؤية تُعيد ترتيب موازين القوى عالميًّا، مع التركيز على تعزيز مصالح الولايات المتحدة وجعلها أولوية مطلقة.

الشرق الأوسط: تحالفات جديدة وعداء مستمر

في قلب سياسات ترامب تجاه الشرق الأوسط، يقع التحالف المتعدّد بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن يريد الانضمام إليه من دول المنطقة لكن بشروط ترامب. هو ينظر إلى هذا التحالف باعتباره ركيزة أساسية لاستراتيجية الهيمنة الإقليمية.

دعمه لإسرائيل يتجاوز كل حدود الدعم التقليدي؛ حيث أتاح لها المجال لتوسيع سيطرتها على الأراضي الفلسطينية دون أي اعتبار للمعايير الدولية. رفض ترامب لحل الدولتين كان رسالة واضحة أن الولايات المتحدة تقف بالكامل إلى جانب تل أبيب.

ترامب يرى في إيران العدو الرئيس في المنطقة، حيث لا ينظر إليها بصفتها خصمًا إقليميًّا فقط، بل تهديدًا عالميًّا. سياسة «الضغط الأقصى» التي تبناها في ولايته الأولى لمواجهة إيران يبدو أنها ستعود بقوة في ولايته الثانية، مع فرض عقوبات خانقة تستهدف شل الاقتصاد الإيراني. بالنسبة لترامب، إيران ليست دولة يمكن أن تُعامل كطرف في تفاوض عادل، بل ككيان يحتاج إلى الانصياع التام أو مواجهة العزلة التامة.

ورغم هذا النهج العدائي، فإن ترامب يحتفظ بخيار الدبلوماسية المشروطة: مستعدًّا للتفاوض، فقط إذا كانت شروط واشنطن هي الأساس. ومما قد يشير إلى ذلك إقالته براين هوك من مجلس أمناء أحد مراكز الأبحاث الحكومية (The Woodrow Wilson International Center for Scholars)، مبررًا قراره بعدم توافق براين هوك مع رؤيته لإعادة عظمة أمريكا.

فبراين هوك كان مسؤول الشأن الإيراني في وزارة الخارجية خلال السنتين الأخيرتين من فترة ترامب الأولى، حيث هندس سياسة «الضغط الأقصى» حينها. وأشارت عدّة تقارير لانهماكه في عملية تحوّل وزارة الخارجية بعد فوز ترامب الأخير.

وبالإضافة إلى سحب حماية الخدمة السرية من بولتن، فقد سحبها أيضًا هذا الأسبوع من براين هوك، ووزير خارجيته السابق مايك بومبيو، رغم استمرار التهديدات الإيرانية لحياتهم، التي قد دعت إدارة بايدن لإبقاء عناصر حمياتهم. والمشترك الواضح بين هذه الأسماء الثلاثة هو قيادتها سياسة «الضغط الأقصى» إبان فترة ترامب الأولى.

وفي المقابل، عيّن هذا الأسبوع ستيف ويتكوف، مبعوثه للشرق الأوسط وأحد اللاعبين الرئيسين بالمفاوضات الأخيرة لوقف إطلاق النار في غزّة، مسؤولًا عن الملف الإيراني، إشارةً إلى رغبة الإدارة الجديدة باستكشاف فرص التفاوض مع إيران قبل اللجوء إلى «الضغط الأقصى».

أدوات السياسة الخارجية في عهد ترامب: القوة والهيمنة

التجارة والاقتصاد كانت -ولا تزال- سلاحًا رئيسًا في يد ترامب. هو لا يَعُدّ الرسوم الجمركية أداةً اقتصادية فقط، بل وسيلة ضغط لتحقيق أهداف سياسية. من خلال استهداف الواردات الاستراتيجية، مثل المعادن والصلب، تمكّن ترامب من تعزيز الإنتاج المحلي الأمريكي، وفي الوقت نفسه ممارسة ضغط على الدول المنافسة، لا سيما الصين. بالنسبة له، التجارة ليست مجرد علاقات اقتصادية، بل أداة لإعادة رسم التوازنات الدولية لصالح الولايات المتحدة.

القوة العسكرية كانت ركنًا آخر في استراتيجيته، حيث اعتمد ترامب على استعراض القوة أكثر من استخدامها الفعلي. دعمه العسكري لإسرائيل، على سبيل المثال، يُظهر هذا النهج بوضوح. كما حرص على تعزيز دفاعات دول الخليج العربي وجَعْلها جزءًا من استراتيجيته لردع إيران. ورغم هذا التركيز على استعراض القوة، فإن ترامب كان حريصًا على تجنب التدخل العسكري المباشر إلا في الحالات القصوى، حيث يرى أن الردع العسكري يجب أن يُستخدم بحذر لتحقيق أقصى تأثير.

أما الدبلوماسية، فقد اعتمدت في عهد ترامب على مبدأ «الرجل القوي». هذه الاستراتيجية تعتمد على فرض الشروط بدلًا من التفاوض التقليدي. صفقة القرن كانت مثالًا على ذلك، حيث قُدّمت شروط تهدف إلى خدمة المصالح الإسرائيلية دون اعتبار للمطالب الفلسطينية. هذا النهج يعكس فلسفة ترامب في التعامل مع القضايا الدولية، حيث يُفضّل فرض الحلول بدلًا من التوصل إلى تسويات.

سياسات ترامب تجاه الدول الأخرى: أوربا والصين وأمريكا اللاتينية

العلاقة مع أوربا كانت دائمًا معقّدة في عهد ترامب. رؤيته لحلف الناتو كانت تقوم على فكرة إعادة توزيع الأعباء، حيث طالب الدول الأوربية بزيادة إنفاقها الدفاعي، ما أثار توتّرًا واسعًا بين واشنطن وحلفائها التقليديين. في نظر ترامب، أوربا شريك مهم، لكنها لم تكن على استعداد لتحمّل نصيبها من الأعباء الاقتصادية والعسكرية، وهو ما جعله ينتقدها بنحوٍ متكرر.

أما الصين، فقد كانت العدو الاقتصادي الأول بالنسبة لترامب. الحرب التجارية بين البلدين كانت تعبيرًا واضحًا عن تصميمه على تقويض النفوذ الصيني، ليس فقط في آسيا، بل أيضًا في الشرق الأوسط وإفريقيا. استهدف ترامب التكنولوجيا الصينية على وجه الخصوص، وفرض قيودًا صارمة على الشركات الصينية، مؤكدًا أن التفوق التكنولوجي الأمريكي لا بد أن يبقى بعيدًا عن متناول بكين.

في أمريكا اللاتينية، ركّز ترامب على مواجهة الأنظمة التي يعدُّها معادية للمصالح الأمريكية، مثل فنزويلا. دعمه العلني للمعارضة ضد نيكولاس مادورو، إلى جانب عرضه مكافأة مالية كبيرة مقابل أي معلومات تؤدي إلى اعتقاله، يُظهر تصميمه على إحداث تغيير سياسي في المنطقة. وفي الوقت نفسه، حرص على تأمين الموارد الطبيعية من الطاقة والمعادن لتعزيز الهيمنة الاقتصادية الأمريكية هناك.

التحديات التي تواجه سياسات ترامب

سياسات ترامب الجريئة تحمل في طيّاتها مخاطر كبيرة. من أبرز هذه التحديات تصاعد التوتر مع الخصوم التقليديين مثل إيران والصين وروسيا.

استراتيجيته القائمة على المواجهة المفتوحة قد تؤدي إلى صراعات طويلة الأمد تُضعف النظام التجاري العالمي، وتزيد حدة الانقسامات الدولية.

التحدي الآخر يتمثل في التعامل مع الحلفاء التقليديين. سياساته الانفرادية، وانتقاداته المتكررة لأوربا وكندا جعلت الكثير من الحلفاء يشكّكون في مدى التزام واشنطن بشراكاتها التاريخية. هذا التحوّل قد يفتح الباب أمام قوى مثل الصين وروسيا لاستغلال هذا الفراغ وتعزيز نفوذها.

الخاتمة: إرث ترامب في السياسة الخارجية

تشكل سياسات دونالد ترامب الخارجية محاولة جريئة لإعادة تعريف مكانة الولايات المتحدة في العالم. هذه السياسات، رغم جرأتها وطموحها، تحمل معها مخاطر طويلة الأمد قد تؤثر على استقرار النظام الدولي. إذا نجح ترامب في تحقيق أهدافه دون تصعيد كبير، فإن إرثه السياسي قد يُنظر إليه كمرحلة جديدة من الهيمنة الأمريكية. ولكن إذا فشلت هذه السياسات، فإن ذلك قد يؤدي إلى تراجع الدور الأمريكي وظهور قوى جديدة تُعيد تشكيل النظام العالمي.

في النهاية، يظل إرث ترامب متوقفًا على مدى قدرته على تحقيق التوازن بين المصالح الوطنية الأمريكية واستقرار النظام الدولي. الأكيد، أن مهمة الرئيس الأمريكي العائد بقوة لن تكون نزهة سهلة محفوفة بالورود كما يتوهم بعض أنصاره.


صفا للاستثمار:

كيف تتخيّل بيت العمر؟ 💭

مسكن متكامل ومريح، موقعه قريب من كل شي، وفيه كل شي 🏡✨

موقفك الخاص، مصلى، مقهى،بقالة، صالة رياضية، وترفيهية!

هذي هي تجربة السكن في صفا 🔗

التجربة اللي تسبق الحاضر وتنبض بالحياة 🖼️🥁


فقرة حصريّة

آسفين على المقاطعة، هذه الفقرة خصصناها للمشتركين. لتقرأها وتستفيد بوصول
لا محدود للمحتوى، اشترك في ثمانية أو سجل دخولك لو كنت مشتركًا.

اشترك الآن

في مقالة «كيف أوصل الإنجيليون ترامب للرئاسة»، يحلل سليمان الوادعي التيارات المسيحية المحافظة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف يمتدّ أثرها إلى التأثير في العلاقة الأمريكية بالقضية الفلسطينية، والدور البارز والمتنامي الذي تلعبه في انتخاب الرئيس الأمريكي.


فاصل ⏸️


هوس تعليم الأطفال الإنقليزية مع عبدالله بن حمدان

هوس تعليم الأطفال الإنقليزية مع عبدالله بن حمدان

49د 30ث

يقول عبدالله بن حمدان وأمجاد بنت عودة «أشد ما يكون من هوس تعليم الأطفال الإنقليزية إدخالهم المدارس العالمية.»

في الحلقة الماضية من بودكاست الصفحة الأخيرة استضفت عبدالله، وناقشنا مقالته «هوس تعليم الأطفال الإنقليزية»، المنشورة في نشرة الصفحة الأخيرة.

يقرّ الكاتبان بالأهمية المتنامية للغة الإنقليزية، بل يحذّر عبدالله من إهمالها، إلا أنهما ينقدان تعليمها للأطفال في الصغر، للأسباب والمآلات التي شاركاها.


*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.

نشرة الصفحة الأخيرة
نشرة الصفحة الأخيرة
أسبوعية، السبت منثمانيةثمانية

مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.

+120 متابع في آخر 7 أيام