هوس تعليم الأطفال الإنقليزية
أشد ما يكون من هوس تعليم الأطفال الإنقليزية إدخالهم المدارس العالمية.
دعوة للمساعدة 👋
ستسافر قريبًا؟ أو خطّطت لوجهتك السياحية القادمة؟
هذا الاستبيان القصير موجّه لك.
يحتاج إكماله أقل من 45 ثانية من وقتك.
عبدالله بن حمدان وأمجاد بنت عودة
حلّت الإنقليزية اليوم كل محلٍّ، ودخلت كل بيت لأهمّيتها التي لا تُنكر. ولفرضها شرطًا على كثير من الوظائف؛ صار بعض الأهالي يعلّمون أطفالهم الإنقليزية منذ ينطقون، ويعرّضونهم لها سمعًا وبصرًا وقراءةً وكلامًا، فمنهم مقتصد بها، ومنهم ظالمو أنفسهم وأبنائهم.
ولا ننكر ضرورة تعلّم الإنقليزية، ولسنا ضدها، لكننا ننكر هوس تعليمها الأطفال في سن صغير وإحاطتهم بها إحاطةً تؤثر في لغتهم العربية، وثقافتهم وهويتهم الإسلامية والعربية والوطنية؛ إذ اللغة وعاء الثقافة ولسانها الذي ينطق بها.
وإخراج جيلٍ يخلط بين اللغتين بلغة هجينة اختيارًا وتقبلًا منه لا عفوًا، جيلٌ لا يُشبه مجتمعه ولا يفهمه، جيلٌ مقطوعة الصلة بينه وبين تراث قومه، ولربما تحوّل إلى جيلٍ لا يفهم كلام جده وجدته، بل أمه وأبيه، ويميل إلى الثقافة التي غُذّي بها؛ كما قال الدكتور بندر الغميز:
التحدث مع طفلك بالإنقليزية فقط؛ يعني عزله عن قصص جدّه وجدته، عن أمثاله الشعبية، عن لغةٍ تشبهُ ملامحه، يعني أن تدفعه إلى الآخر وتبقى أنت بحكايا عواطفك وسليقة مشاعرك بمعزل عنه، يعني أنك سرقت من جسده لسانَه، فلا هو ابنهم ولا هم أهله، يعني أن يسمع قيَمهم وتتُرجم إليه قيمك، فأين قيمته؟
ولمّا كثرت شكاوى أهالٍ صار أبناؤهم لا يتكلمون إلا بالإنقليزية معهم، أو قال بعضهم أنه لا يحب العربية، أو لا يفهمها ويستثقلها؛ تجد ألوان النصائح لهم، وجميعهم يتجاهلون أم المشكلة ورأسها، وهو ما قدّمته أيديهم من غمسهم صغارًا في هذه اللغة وثقافتها! فما كان هذا إلا عاقبة طبيعية.
الأسباب
أول ما حمل الناس على الهوس في تعليم أطفالهم الإنقليزية صدمتهم عندما طلبوا الرزق، فتجد الواحد منهم يقول في نفسه «درسنا خمس عشرة سنة ما بين مدرسة وجامعة، وأضعنا أعمارنا ونحن نتعلم العربية، والآن نُرفض عند التقديم على الوظائف لأنهم يطلبون الإنقليزية!»
فلمّا صُدموا بأن الإنقليزية فوق العربية شأنًا في التوظيف، قالوا لأنفسهم سنُعلّم الإنقليزية أبناءنا من صغرهم، كيلا يصيروا إلى ما صرنا إليه. وبهذه الصدمات النفسية، يتحول المرء إلى المغالاة والتفريط بدل العدل والتوسط.
والحق أنهم لا يُلامون في حنقهم على اشتراط الإنقليزية في دولة عربية ثقافتها عربيّة، يتكلم شعبها بالعربية من قديم الزمان، ومنها خرجت للناس كافّة حتى عُرفت أرضهم بأرض العرب.
وهم على ثلاثة أقسام:
قسم اشتد به الحنق وانقلب أسوأ المنقلب، أو تراكمت تبعيّاته للغرب، فتسمعه يقول إنّ العربيّة لغة قديمة لا حاجة لنا بها، وأنها ليست لغة علم ولا وظيفة.
والقسم الثاني يرى أنه معتدل متوسط، فيقول إننا سنساوي بين تعليم أبنائنا العربيّة والإنقليزيّة، لأن كلتا اللغتين مهمتان.
وآخر قسم لا يرى بالمساواة، ولكنه متأثر بهيمنة الإنقليزية، وأنها اللغة التي يعظّم مجتمعنا من يتكلمها، ويفتخر الأب بابنه إن قال كلمة بها، بل ويطلبه تكرارها فرحًا. فتجد هذا القسم يعظم العربيّة، لكنه يسعى في تعليم أولاده الإنقليزية صغارًا، ولو كلماتٍ عشوائية، مثل الأرقام والألوان وغيرها.
ولمّا نسأل هؤلاء الآباء: قد علمنا حاجتنا إلى الإنقليزية، ولكن لمَ تحرصون على تعليمها أطفالكم صغارًا، أفلا تنتظرون حتى يكبروا؟
نجدهم يجمعون على جوابين:
الأول قولهم «الطفل إن لم يتعلّم الإنقليزية صغيرًا فلن يتعلمها أبدًا».
والثاني قولهم «تعلّم اللغات يزيد ذكاء الطفل ويُنمّي عقله».
نقض «تعليم الإنقليزية في الصغر أجدى للطفل»
على أن علماء اللغة في جدال بينهم على عمر تعلّم اللغة، فإنهم قالوا، حسب آخر الأبحاث التي درست عددًا لم يسبقها إليه أحد –أكثر من 600 ألف ممن تعلّم الإنقليزية في أعمار مختلفة– إن القدرة على تعلم لغة ثانية ثابتة إلى عمر السابعة عشرة، أي بعد سن المراهقة بكثير. فلا فرق في قدرة الدماغ بين طفل عمره ست سنوات وشابٍ عمره سبع عشرة سنة في تعلم اللغة.
وفي بحثٍ آخر أحصى أكثر من أربعين بحثًا على مدى خمسين عامًا، انتهى إلى القول بأن ما يتداوله الناس في أن الطفل أحسن تعلمًا من الكبير هو قولٌ خاطئ لا تثبته الأدلة، بل وُجد تفوق صغير لمن تعلمها على كبر، وأحال هذا التفوق إلى القدرة العقلية للكبير.
لذلك، فالاحتجاج بأن الطفولة أفضل عمرٍ قد أبطله ما جدّ من أبحاث علميّة. والواقع يشهد بهذا، فقوم كثير من شتى بلاد الأرض تعلموا الإنقليزية على كبر وكانوا فيها من المُجيدين.
قد يقول قائل: صدقنا بكلامكم، فلمَ المنع من تعليمهم الإنقليزية في سن صغير؟
وللجواب على هذا وجوه كثيرة، أغلبها يدخل في تأثير الإنقليزية في العربيّة وفي هويّة الطفل.
أمّا الأثر في العربيّة، فهو شيء لا ينكره العلماء، خاصة لمن انغمس في اللغة الثانية وقلّ تعرّضه إلى لغته الأولى. وهو الذي يُسمى في دراسات اللغة بـ«تناقص اللغة الأولى» (First Language Attrition).
فمن الدراسات ما تقول إن هذا يؤدي إلى ضعف استيعاب الأصوات في لغته الأم، وتضييع المفردات التي حفظها في لغته، فيكون أبطأ وأضعف من أقرانه في العربيّة، وتصعب عليه القراءة والكتابة بها.
وذُكر أن عدد الكلمات عند الأطفال ثنائيي اللغة أقل بكثير مقارنةً بمن تعلم لغة واحدة، لأن عدد الكلمات سيكون متفرّقًا على أكثر من لغة عندهم. وهذا يكبر معهم، فيكونون أقل من أترابهم في عدد الكلمات.
بل قد يصير أعجميًّا خالصًا في لغته الأولى، أي أنه يشبه رجل أعجمي يتعلم العربيّة فيخطئ في أصواتها وقواعدها ومفرداتها، وفي هذا دراسات كثيرة لا مجال لحصرها.
وأول ما يَؤول إليه هذا: الخَلط بين اللغتين. وذلك لأن الطفل يستوعب قواعد اللغة تدريجيًّا؛ فكيف به إن دخلت عليه لغتان متباينتان تباينًا تامًّا؟ سيطول الوقت حتّى يتمكن من الفصل بينهما، هذا غير أنه سيستمر في الخلط -أثناء الكلام- بينهما، لأن هذا ما كبر عليه وهذا ما يكلمه به الناس من حوله!
وحديث كثير من الناس لأطفالهم بالإنقليزية ليس ببعيد عن حديثهم بعربيّة مكسّرة مع العمال الأعاجم، فتجد الأم تقول لولدها «روح جيب شوزك» أو «أيش تحب قرين ولّا بلو؟»، ويكسّرون قواعد اللغتين فيقولون «مين يو لوف أكثر ماما ولّا بابا؟».
ونرى نتيجة تكسيرنا الكلام مع العمالة كيف تكسّرت عربيّتهم، وهؤلاء الأطفال سيكبرون بلغة هجينة مكسرّة مثلهم. فلا هو أتقن هذه ولا تلك!
وإنقليزية الآباء في أحسن أحوالها متوسطة، إن لم تكن ضعيفة، فاللغة التي سيتعلمها الطفل منهم ستكون تبعًا لهم ضعيفة. كأن يتعلم أحد العربيّة من أعجمي لم يتشرّب العربيّة، بل درسها في معاهد اللغة.
أو أن يستقدموا خادمات من بلاد تتكلم الإنقليزية، طمعًا في أن يأخذ طفلهم اللغة عنهن. ولأن الآباء لا يحسنون تقييم إنقليزيّة هؤلاء سيُعجبون بهن عندما يسمعوا منهن جملة أو اثنتين بالإنقليزية، وما درى الآباء أنهم في السوء سواء؛ فكل البلاد التي يُستقدم منها الخادمات ليست الإنقليزية لغتها الأولى. فيكبر الطفل على هذه اللغة الهجينة وبلكنة الخادمة التي اختلطت بلغتها الأولى.
لذلك، أحسنُ عمرٍ لتعليم الأبناء الإنقليزية هو العمر الذي يقل معه تناقص اللغة الأولى، والعمر الذي يُفرّق الطفل فيه بين قومه وغيرهم من الناس، فيعرف الذي يدخل في ثقافته وهويّته، ويعرف الذي يخرج منها. ومثل هذا ذكروه في أبحاث تناقص اللغة الأولى، كما ذكرت مونكا وباربرا.
ولمّا قارنوا بين أطفال من كوريا انغمسوا تمامًا في بيئة إنقليزية في طفولتهم، وجدوا أنّه كلّما قل عمر الانغماس صعب عليهم استيعاب الأصوات في لغتهم الأولى.
هذا التأثّر في اللغة ينعدم لو كان عمر الطفل أثناء أول انغماس له في الإنقليزية اثني عشر عامًا، فلعلّ العمر بعد الاثني عشر عامًا أفضل عمر لضمان تعلمه اللغتين بلا تأثر في اللغة الأولى، وليتقن اللغة الثانية، وهو عمر يستوعب فيه الطفل هويّته.
نقض «تعليم اللغات في الصغر ينمّي العقل»
أمّا من يقول إن تعليم الإنقليزية يزيد من ذكاء الطفل، فإن الأبحاث في أثر اللغة الثانية في الدماغ متضاربة وفي تنازع بينها.
فمن الأبحاث بحث قارن بين أطفال أحاديي اللغة، وأطفال تعلموا لغتين، وجدوا أن سرعة البديهة والدقة أعلى بكثير عند الأطفال الأحاديين، وهذا يعارض بحثًا نُشر قبله بسنين يذهب إلى العكس.
وفي بحث درس أكثر من 140 دراسة، انتهى إلى التشكيك في الفرضية القائلة: إنّ تعلم الأطفال لغةً أخرى يُحسّن من وظائف الدماغ التنفيذية.
وذكرت دراسة أن غالب الأبحاث التي تقول بالنفع لم تدرس إلا عيّنة قليلة؛ فنتائجها ليست دقيقة.
وللمهتم أن يطّلع على هذا البحث الحديث، بالتعاون بين جامعات ومركز لدراسة اللغة والدماغ في إسبانيا، ففيه جدل وتخطئة ونقد لكثير من الأبحاث التي تقول بانتفاع الدماغ باللغة الثانية.
المدارس العالمية
أشد ما يكون من هوس تعليم الأطفال الإنقليزية إدخالهم المدارس العالميّة، لأن هذه المدارس بطبيعتها تُدرِّس مناهج أجنبية. والمدارس العالميّة تفرض التدريس بالإنقليزية فقط، ولا تُدخل العربيّة إلا في تدريس اللغة والدين، وبعضها تشدد على الطلاب ألّا يتكلموا بالعربيّة أبدًا.
ولما فحصنا جميع الأبحاث التي درست الطلاب السعوديين في المدارس العالمية، وجدناهم يجمعون، بلا استثناء، على ضعف عربيّة كثير من طلابهم، وأنهم بعيدون عن هويتهم الوطنية ومتأثرون بالثقافة الغربية.
ولأن وزارة التعليم ألزمت المدارس العالمية بتدريس ساعة واحدة، على الأقل، للعربيّة والدين وتاريخ السعودية، اكتفت هذه المدارس بهذه الساعة الواحدة، ولم تزد عليها. وهي قطعًا غير كافية لتعليم الطفل لغته ودينه وهويّته، خاصّة أن أكثر الأهالي يكتفون بما تعلمه المدرسة لأبناءهم في أمر دينهم وتاريخهم.
وهذا التهميش لمواد الدين واللغة والاجتماعيات، وجَعْلها أهون المواد وأقلها ساعاتٍ ودرجات، سيَلحقه تبعًا، تهميش الطُلاب لها، وهوانها في نفوسهم، إذ يرونها لا تفيد ولا تغني في شيء، بل ربما استثقلوها وزاد كرههم لها، فأي هوية لهم ستبقى؟
تأثير الإنقليزية في هويّة الطفل قليل ما يلحظه الآباء، بل وقد ينكرونه؛ مثلًا لمّا سأل باحثون آباء طلابٍ يدرسون في مدارس عالميّة من شتّى مناطق السعودية، كان أقل شيء ظنه الآباء هو تأثير التعليم بالإنقليزية في هويّة الطفل وثقافته. أمّا المدرسون فكان 71% منهم قالوا إنّ الطلاب متأثرون ما بين تأثر خفيف إلى شديد بثقافة الإنقليز.
وغالب المدرّسين في هذه الدراسة ذكروا أن الطلاب يلاقون شدّة كبيرة في مذاكرة مواد الدين واللغة العربيّة (لأن الباقي يُدرَّس بالإنقليزية فسهل عليهم).
والدكتورة ريما الجرف ذكرت في إحصاء لها على طلاب درسوا بالإنقليزية من سن الروضة، أن 65% منهم شديدو الضعف في القراءة والكتابة، ولا ينطلق لسانهم في الكلام العربي، ولا يعرفون كثيرًا من معاني الكلمات، أمّا الباقون فلا يحسنون أصلاً الكلام بالعربيّة.
والدكتورة عهود من جامعة الإمام محمد بن سعود قارنت بين طلاب في مدارس حكومية، وآخرين من مدارس عالميّة، فوجدت ضعف طلاب المدارس العالميّة في العربية ظاهرًا جليًّا، وأن فقدان اللغة عندهم أعلى من غيرهم.
وفي المدارس العالميّة يدرسون العلوم بالإنقليزية، وهذه المواد هي أول أساس العلوم للطفل وأول لبناتها، ففيها بدايات مصطلحات العلوم وكلماتها. فالطفل المُتعلم أساسيات العلوم بالإنقليزية سيكون جاهلًا بما يقابل الكلمات الأساسية للعلوم في العربيّة. والنتيجة أن هذا الطفل عندما يكبر لن يُحسن الحديث مع من لا يعرف هذه المصطلحات الإنقليزية.
مثلًا، تخيّل طبيبًا نشأ على هذا، كيف تراه سيتكلم مع مرضاه عن البلعوم وقد درسه «Pharynx»؟ أو الحجاب الحاجز وهو لا يعرف إلا «Diaphragm»؟ أو يحدّث مريضه وهو يخلط في اللغة فيقول «لابد من Cystoscopy للتأكد من The health of your bladder» بدلًا من «سندخل منظارًا لنفحص مثانتك».
المآلات
ومآلات هذا الهوس كثيرة، قد يجحدها بعضهم وتستيقنها أنفسهم. أولها مآلات على اللغة فصّلنا فيها القول آنفًا، ومنها مآلات على الأهل وهويّة الطفل ودينه، وحتى مجتمعه وبلاده، وهذا تفصيلها:
مآلاتها على أهله:
صحيح أن الأهالي ما حملهم على الهوس في تعليم أبنائهم الإنقليزية إلا حرصهم على مستقبل أبنائهم، إلا أن هذا الحرص قد ينقلب عليهم. فالطفل الذي يكبر على انغماسٍ في ثقافة بعيدة كل البعد عن ثقافة أهله ستزداد الفجوة بينه وبين أهله، لأن ما يجمعه معهم قليل، وما يفرقهم أكثر بكثير، وأوّلها اللغة.
وعندها، سيصعب التقارب بين الطفل ووالديه، لأن ما يحيط به لا يعرفه أهله ولا يستطيعون مواكبته. بل كثير من قصصهم وعواطفهم وقيمهم صعب عليه استيعابها، لأنه لم يجدها في بيئته الإنقليزية.
فيقتصر التواصل بينهم على أمور عامّة سطحية، كميعاد النوم ونوع الطعام وزيارة المزارات، أمّا ما يكون في صميم حياتهم ومشاعرهم ونقل القيم والتربية، فصعب إيصالها لمن غُذي بثقافة أخرى منذ اليوم الذي نطق فيه حتى صار مراهقًا. فمن جهل لغةً جهل معها ثقافتها وقيمها وأعرافها، فلا تستغرب أن تُحدّثه بخصلة تربيت أنت عليها، وتجده يشمئز منها لأنه لم يعتد عليها.
والإنسان بطبيعته يميل لمن يحادثه باللغة التي يعرفها أكثر. لذلك، تجد الجاليات في الخارج تكوّن جماعات من أهل اللغة نفسها، وإن كانوا متناحرين، ويبتعدون عمّن يشبههم فكرًا وإن اختلف معهم لغةً.
وهذا ينطبق على تنشئة الطفل، إذ لمّا يحاط الطفل بمن يتقنون الإنقليزية من أصحابه في المدارس العالميّة أو في الإنترنت، وعندما يصير كل من يتابعهم إنقليز، فهو قطعًا سيميل إليهم أكثر ممن يحادثونه بالعربيّة التي لا يستعملها كثيرًا.
وفي الدراسة السابقة عن المدارس العالميّة، ذكروا أن 10% من الأطفال لا يستعلمون إلا الإنقليزية في بيوتهم، و43% منهم يغلّبون الإنقليزية على العربيّة، أما الباقون فيخلطون بنسب متفاوتة.
و40% من هذا الاستعمال يكون مع الخادمات، أما مع الآباء 26% فقط. وهذا بدهيّ لأن إنقليزية الخدم أحسن من إنقليزيّة الآباء. وهذا يزيد الفجوة بين الآباء والأطفال ويرميهم في أحضان الخادمات، فيكثرون الجلوس والحديث معهن، لأنهن أقرب منهم لغةً؛ وعليه سيتشرب الطفل قِيم الخادمة وعاداتها ويفهمها أكثر مما يفهم أهله.
مآلاتها على دينه وأخلاقه:
إن أول أهمية للعربية فهم القرآن وتدبره، وتذوق بيانه وإعجازه، الذي هو أكبر معجزة تُحدي بها الإنس والجن، وهذا لا يقوم إلا بفهم لغته. ثم بعدها ارتباطها بالدين عامة.
فكيف يرتبط بالقرآن إن لم يفهمه، أو كان يكره لغته ويستثقلها؟ وكيف يحفظ ما يستثقل؟ وإن حفظ فكيف يفهم؟ أم سيكون كالأعاجم الذين يقرؤونه بلا فهم، ويعمدون إلى الترجمات، وهم يتمنون لو كانوا يتقنون العربية؟!
قال ابن تيمية رحمه الله: «إن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرًا قويًّا بينًا، ويؤثر أيضًا في مشابهة صور هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين.»
وإن كان الإنسان ابن بيئته، فكيف بالطفل؟ فإن عَقِل على كلام الإنقليز وكرتوناتهم ومسلسلاتهم، وقنواتهم ومقاطعهم، وعلومهم وآدابهم، لا بد أن يصير إلى تقليدهم، ويرى بأعينهم، ويفكر بعقلهم.
وكيف لمن تعلّق بهذا أن يكون مرتبطًا بالدين وهو لا يكاد يرى إلا قليلًا من مظاهره أغلب يومه؟ ولا تجد شيئًا من ثقافتنا العربيّة والإسلاميّة في هذه الأشياء التي يتلقّاها.
من ذلك أنك تجد أغاني الأطفال الإنقليزية التي عن الشتاء يكثر فيها مظاهر الكرسمس من حيوانات الرنّة وعربات بابا نويل والأشجار المُنارة وغيرها، فيكبر الطفل معجبًا بأعياد دينٍ ينكرها ويحرّمها دينه.
وليس من أعرافنا الاستعداد للشتاء بمثل هذا، فالشتاء عندنا كشتة في البر ولبس الفروة وشبّ النار وغيرها.
والتعوّد على لغة من الصغر يورّث الإنسان ظاهر أخلاق أهلها، لكنه لا يجد باطنها لأنه لا يعيش بين ظهرانيهم.
من ذلك كلمات السب الفاحش في الإنقليزيّة؛ إذ تجدهم يستعملونها في كل شيء وعن أي شيء، بل حتى للمدح والثناء. لكن، ولأنهم يعلمون فحشها وسوءها، لا يستعملونها عند كبارهم لأنهم سينكرونها ويُأدبونهم.
لكن الطفل الذي لا يعيش عندهم لن يعلم عن هذا الجزء الأخير، بل يجد الظاهر فقط من كلمات السب، لأن تفحيشها عندهم لا يكون إلا من ضغط المجتمع الذي لا يجده طفلنا. فيبقى النهي على أمه وأبيه إن كانوا يعلمون عن هذه الكلمة ومعناها، وكلمات الفحش كثيرة متجدّدة في الإنقليزية، ويصعب على الآباء الإحاطة بها.
هذا غير أثر التعوّد على سماع الكلمة من الطفل وكثرة تعرّضه لها حتى يتشرّبها ويستسيغها، وإن أنكرها أول مرة. بل قد يعرف معناها السيئ، ولكن لأنه اعتاد على سماعها فلا يأبه بها.
أذكر مرة رأينا فتاة تلبس قميصًا عليه عبارة بالغة في الإباحية في الشارع، وكانت قطعًا تعرف معناها، ولكنها لم تستقبحها كما لو كُتبت بالعربيّة.
وكما قال الدكتور مختار الغوث:
وذهبت بذهاب اللغة والثقافة التي يوزن بها الدخيل فيُقبل أو يرد، فلا يجد المرء في نفسه انتماءً إلا إلى الثقافة التي خلصت إليه من اللغة؛ لأنه لا يعرف غيرها، فليس له إلا أن يتقلدها، وينتمي إليها، ويتابع أهلها من حيث يدري أو لا يدري.
مآلاتها على ثقافته والمجتمع:
التأثير في الثقافة لا يقتصر على الدين، بل يمتد إلى كل شيء تضع اللغة يدها عليه، ومن ذلك ثقافة البلد والهويّة الوطنية للطفل. وهذا بدهيّ، لأن اللغة تنشأ وتتطور في سياق الناس وحالهم، ففي كل حدث وحالة عندهم، تجدها تجسّدت وتضمّنت في اللغة، حتى صارت اللغة لا تنفك عن هذه الثقافة.
لذلك، لو جئت بلغة أخرى لم تنشأ في هذه الثقافة ستجدها قاصرة في التعبير عمّا يجده أهل هذه الثقافة وحاجاتهم.
من ذلك مثلًا، تجد الإنقليزية قاصرة في وصف تفاصيل الإسلام كالعبادات والكلام في الأدب العربي وبيئتنا العربيّة. وتجد العربيّة تقصر في وصف أنظمة الحكم الغربيّة وتفاصيل صداقة الذكر والأنثى، لأنها لم تجدها في البيئة التي نشأت فيها العربية.
ولا تستغرب أن يُوصف الجمل لطفل انغمس في الإنقليزية ولم يتلقَّ إلا ثقافتها أن يُقال له «الجمل حيوان يشبه اللاما». فتُقرّب له ثقافة أهله ووطنه بثقافة ليس هو منها ولا هي منه، لا لسبب إلا لإهمال أهله وتوقعهم أن ثقافتنا شيء بدهي، فهي عندهم «ملحوق عليها إذا كبر».
وزيادة على تأثره بثقافتهم حتى يظن أنه منهم، سيصوّر الغرب الثقافة العربيّة في أذهانهم أنها ثقافة بهيميّة متخلّفة بائدة. والشاهد على هذا كثير في أفلامهم ومسلسلاتهم التي يجيء فيها ذكر العرب والمسلمين.
فالطفل الذي لم يميّز بعد سيأخذ هذا منهم تبعًا، ففوق تعظيمه ثقافة الإنقليز، لأنه نشأ عليها، سيأخذ منهم تحقير دينه وثقافته ووطنه.
وكيف يُنتظر من طفلٍ مستغرق في ثقافة غيره ومهمل لثقافة بلده أن يخترع ويبدع ما يحتاجه أهله؟ لن يفهم أصلًا مشاكلهم ولا حاجاتهم ولا تراثهم ليبحث فيها ويرجع إليها. وبداهة أنه من كانت هذه حاله سينطلق من ثقافة قومٍ آخرين إذا عرضت عليه مشكلة في ثقافة بلده.
بل لا تستغرب أن ينظر إلى شيء مقبول في ثقافتنا على أنه مرفوض ولا بد من تعديله؛ لأنه لم يجده في الثقافة التي تربى عليها. وهذا كثير جدًّا، وموجود في أناس تأثروا بالثقافة الغربية على كبر، فما بالك بطفل نشأ وترعرع على هذه الثقافة؟!
كما تجد من مفكرين يلومون بلادنا أنها «ليست ديمقراطية» أو أنها «ليست علمانية»، مع أننا أحسن حالًا من بلدان كثيرة مما يزعم فكرهم.
وآخرون يذمون النصيحة تأثرًا بالثقافة الغربيّة التي انتشرت الفردانية فيها، مع أنك تجد النصح وطلب النصيحة في القرآن والسنة والشعر كثيرًا جدًّا، ولكن من ينظر بعين غيره لا بد وأن يرى ثقافته أقل شأنًا.
ختامًا، إن الأبناء أمانةٌ، فلنتوسّط في تعليمهم اللغة، فإنما هي وسيلة للمعرفة والتواصل؛ فإن أخذناها على هذا سلمنا وفزنا، أمّا إن أخذناها معظّمة، باحثين عن مكانة وعزة بها، أفسدنا أطفالنا ولغتهم، واستبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير!
ولنتذكّر: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته».
صفا للاستثمار:
كيف تتخيّل بيت العمر؟ 💭
مسكن متكامل ومريح، موقعه قريب من كل شي، وفيه كل شي 🏡✨
موقفك الخاص، مصلى، مقهى،بقالة، صالة رياضية، وترفيهية!
هذي هي تجربة السكن في صفا 🔗
التجربة اللي تسبق الحاضر وتنبض بالحياة 🖼️🥁
فقرة حصريّة
اشترك الآن
«إن لم نتدارك الأمر، سينتهي عصر خلود لغة العرب الذي عاش أكثر من 1700 عام!»
في مقالة «العربية المعاصرة لغة أعجمية بحروف عربية» للدكتور عبدالله بن حمدان وأمجاد بنت عودة في نشرة الصفحة الأخيرة، يستعرض كاتباها تشوّه اللغة العربية المعاصرة بالمباني والتعبيرات الأعجمية، ومآلات انتشار هذه «العرنجية» في المجتمع.
فاصل ⏸️
ما الذي خسرناه بسبب التقاضي عن بعد
يقول الدكتور محمد البديرات: «لم تحجب مكاسب التقاضي عن بعد بعض سلبياته، ولم تبدّد بعض المخاوف حول الاعتماد عليه بنحوٍ مبالغ فيه.»
في الحلقة الماضية من بودكاست الصفحة الأخيرة استضفت محمد، وناقشنا مقالته «ما الذي خسرناه بسبب التقاضي عن بعد»، المنشورة في نشرة الصفحة الأخيرة.
يقرّ الكاتب بمكاسب التحوّل نحو التقاضي عن بعد، إلا أنه يشير لحزمةٍ من السلبيات رافقت شيوع تطبيقه، مثل قصوره في مشاركة الأدلة والشهادات ومرافعات المحامين، وما يتبع ذلك من تقييده تطوّر مهارات المحامين والقضاة.
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.
مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.