كيف أوصل الإنجيليون ترامب للرئاسة
تؤمن الفلسفة الكونية للايفانجليكيين بوجوب اضطلاع الولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى في تشكيل العالم، واستخدام القوة لفرض ما يعدّونه نمطًا إلهيًّا مقدسًا!
سليمان الوداعي
كيف أوصل الإنجيليون ترامب للرئاسة
تتردد في الأوساط الإعلامية التي تحلل السياسة الأمريكية مسألة «عودة الدين» وتأثيره في السياسة الفيدرالية، وهي ظاهرة قد تعد صادمة لمن يرى في الديمقراطية الأمريكية وعلمانيتها مثالًا يُحتذى في احتواء الأديان وتحييدها عن شؤون إدارة الدولة الفيدرالية كي تتسع دوائر التعبير السياسي لجميع الأطياف والمكونات المجتمعية.
عندما اقتحم مناصرو الرئيس ترامب الكونقرس الأمريكي في السادس من يناير عام 2021، تلمّست طائفة من الجمع الغفير لحظات روحانية، لتركع على قارعة الطريق وتتضرع إلى «الرب» بالصلاة والابتهال، ثم تنهض بعدئذ لتكمل مسيرة الاقتحام، فيما باتت تُعد من أشنع لحظات التاريخ السياسي الأمريكي الحديث وأكثرها تأثيرًا على مبادئه السياسية، التي يُراد لها أن تكون المثال القيمي الأعلى في عالم السياسة الدولية في عصرنا الحالي.
كان الدافع للعديد ممن شارك في هذا الاقتحام -بتعبيرهم- المشاركة في «حرب مقدسة»، حرب الخير ضد فلول الشر. وقد ظهرت شعارات ولافتات دينية مختلفة؛ منها صليب أبيض مكتوب عليه: «ترامب فاز»، وأخرى يعتليها «عيسى 2020»، وثالثة مرفوع عليها كلمة «درع الرب».
هذا الحدث المفصلي لم يكن وحده الشاهد على تأثير اليمين المسيحي في السياسة الأمريكية، فعلى مدى عقود، منذ هزيمة الرئيس جيمي كارتر أمام الرئيس رونالد ريقان عام 1980 وحتى اليوم، والتجمعات المسيحية الكبرى تسترعي انتباه أي مرشح رئاسي، ولا يمكن بحال تجاوز عقائدها وقيمها وتطلعاتها السياسية داخليًّا وخارجيًّا.
أهم هذه التجمعات المسيحية المكوّن «الايفانجليكي»، الذي يرتكز على رؤية سياسية خاصة لما يجب أن تكون عليه صورة المجتمع الأمريكي، وللطريقة التي ينبغي بها توجيه القوة الأمريكية لتسير على هدى النبوءات الإنجيلية في تعاطيها مع قضايا الأقاليم الأخرى من الكرة الأرضية، وعلى وجه الخصوص الشرق الأوسط.
لا شك أن الرئيس ترامب في وصوله إلى السلطة في انتخابات 2016 أو 2024 قد استمال هذه المكونات بدعوى «الحرب الثقافية» التي تُشن ضد مجتمعهم وقيمهم الأمريكية. وقد سبق له خلال فترته الأولى تحقيق انتصارات قضائية وسياسية على المستوى الداخلي، وكان الايفانجليكيون واليمين المسيحي بالكامل على تشوق خاص لتلمس آثارها، لا سيما قضايا الإجهاض والتحول الجنسي وغيرها.
تطمح الرؤية الدينية للايفانجليكية إلى تجاوز التأثير الداخلي لتصل إلى التأثير في السياسة الخارجية، وهي بلا شك وثيقة الارتباط بإسرائيل، كون فلسطين منشأ الرسالة المسيحية، وبحسب معتقداتهم فهي منتهى الذروة في التاريخ البشري، الذي ينتظر قدوم المسيح، ليقود «الجماعة المؤمنة» في «الملحمة الكبرى»، التي تقع في ذلك الموقع الجغرافي المقدس. ثم ينقضُّ على مناهضي الدعوة المسيحية، «أعداء الرب»، بما فيهم اليهود الإسرائيليون، الذين يعد وجودهم في تلك المنطقة الجغرافية شرط تحقق النبوءة الإنجيلية.
بيد أن الرئيس المنتخب ترامب، رغم علاقته الوثيقة بالمكونات المسيحية البروتستانتية عمومًا والايفانجليكية خصوصًا، سيجد تحديات ضخمة على المستوى الخارجي، قد تتواءم أو تبتعد تمامًا عن أطروحات مناصريه المتدينين، لا سيما في حلحلة الصراعات الدولية -أو إذكائها- بحسب المصلحة الأمريكية ورؤى مهندسي سياساته الخارجية؛ وأهم مناطق الصراع بالنسبة للايفانجيليكين ولنا أفراد المجتمعات العربية والمسلمة، هي منطقة الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة والضفة الغربية ولبنان.
كيف غدت الايفانجليكية عنصرًا مؤثرًا في السياسة الفيدرالية الأمريكية؟
بزغت تأثيرات الطيف الايفانجيليكي في السبعينيات من القرن الماضي، وبدا أن اندفاعه تجاه السياسة الفيدرالية الوطنية كان مردّه الحنق الشعبي العارم الذي خلّفه قرار المحكمة العليا في القضية التاريخية «Roe vs. Wade» عام 1973، القاضي بأن الدستور الأميركي يحفظ حق المرأة الحامل في اختيار الإجهاض دون قيود حكومية مفرطة.
ومن جهة أخرى، يُعزى دخول الأطياف الدينية والمحافظة في شرك السياسة الوطنية إلى قضايا سابقة على السبعينيات الميلادية، إذ قد يُحال الأمر إلى استشعار اليمين المحافظ بجملة من الأخطار المحدقة بـ«ثقافته المجتمعية»، بعد أن حكمت المحكمة العليا في القضية الشهيرة «Brown v. Board of Education» ضد قوانين الولايات الداخلية من أجل إنهاء الفصل العنصري في المدارس العامة في عام 1954، ولاحقًا قرار المحكمة العليا الذي يقضي بإبطال الممارسات الدينية في المدارس العامة، سواءً كانت الصلاة أو القراءة الإجبارية للإنجيل، مما أرغم اليمين المسيحي على إنشاء المدارس المسيحية الخاصة تحايلًا على القرار.
ويسترعي الانتباه أن الدين لم يكن عاملًا مباشرًا في التأثير على الانتخابات الرئاسية قبل عام 1980، وإن استخدَم العديد من مرشحي الرئاسة الأمريكية إشارات دينية، بغية التأثير على الجموع واكتساب تعاطفهم. بيد أن النقطة الفاصلة التي مكنت اليمين المسيحي من مبتغى التأثير السياسي جاءت عقب إنشاء منظمة «Moral Majority» (وهي في مجملها عبارة عن تحالف ما بين اليمين المسيحي والحزب الجمهوري)، وبفعل نشاطات المنظمة التي اشتملت على تسجيل الناخبين، وجمع التبرعات لأغراض سياسية، وتأسيس جماعات الضغط، ودعم الحملات الانتخابية، لتُتوّج تلك الجهود جميعها بوصول الرئيس رونالد ريقان إلى سدة الحكم في يناير 1981. وبذلك باتت الايفانجليكية تسود اليمين المسيحي سياسيًّا، وانتعشت كما انتعش اليمين المحافظ عمومًا من بعد ذلك التاريخ.
خارجيًّا، تؤمن الفلسفة الكونية للايفانجليكيين بوجوب اضطلاع الولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى في تشكيل العالم، واستخدام القوة لفرض ما يعدّونه نمطًا إلهيًّا مقدسًا، يعبّر عنه العهدان القديم والجديد من الكتاب المقدس.
وشهدت حقبة السبعينيات تلاقحًا لأفكار اليمين المسيحي مع أطروحات متمرسين سياسيين محسوبين على الحزب الجمهوري وغيرهم من الأفراد الوطنيين من الحزب الديموقراطي، ممن اشتهروا بنقدهم اللاذع للأداور الخارجية الهشة لبلادهم، والمفضية برأيهم إلى تضعضع القوة العظمى الأمريكية. وبذا اكتملت معالم وبذور التحالفات السياسية ما بين اليمين الديني الجديد ومن أُطلق عليهم لاحقًا اسم المحافظون الجدد.
الايفانجليكية حركة فكرية داخل اليمين المسيحي ذات طابع إحيائي، وجوهرها يتمحور حول التفسير الحرفي للعهدين القديم والجديد من الكتاب المقدس، أي التوراة والإنجيل. وهي حركة داخلة ضمن ما يسميه عبدالوهاب المسيري «الصهيونية ذات الديباجة المسيحية»، في موسوعته الشهيرة «اليهود واليهودية والصهيونية». حيث أنها دعوة أصولية في الأوساط البروتستانتية المتطرفة تستشهد بقيام دولة إسرائيل على تحقّق نبوءة الكتب المقدسة، بالتمهيد لعودة المسيح عبر إعادة اليهود إلى أرض الميعاد -فلسطين- حيث ستجري المعركة الكونية الفاصلة في هرمجدون، وأن عودة اليهود شرط الخلاص، وإن كانت تلك العقيدة تعتقد بهلاك ثلثي يهود العالم ممن يقفون في وجه المسيح المخلّص في تلك المعركة.
فالحركة إذن لها أيديولوجية تقدس إسرائيل وتعلي من شأنها، كونها تحقق نبوءات إنجيلية وتأويلية من قبل الايفانجليكيين أنفسهم. وهي في الوقت ذاته تمقت اليهود، وتحط من قدرهم، بل وقد تنسب التدهور الاقتصادي والانحلال الأخلاقي في المجتمع الأمريكي إليهم.
علاقة الرئيس المنتخب ترامب بالايفانجليكية واليمين المسيحي
لطالما ردّد الرئيس ترامب على مسامع داعميه الايفانجليكيين ما يثلج صدورهم، من أن التغيرات السياسية والاجتماعية والقانونية الماثلة، منذ حلول النصف الثاني من القرن العشرين، تسير عكس ما يبتغيه هؤلاء من تحقق الهيمنة المسيحية على الأراضي الأميركية. فالمظاهر الليبرالية واليسارية تقوّض مبانيهم العقائدية، المرتكزة على الإيمان بأن اكتشاف أميركا وتشييد الدين المسيحي الصحيح على أرضها كانا «الهدف الإلهي وراء هذا القدر المحتوم»، كما نجده مفصّلًا في الكتاب الشهير «يد الله» لكاتبته غريس هالسل.
وقد تحقق لداعمي ترامب كثيرٌ من أهدافهم، أما المكسب الأبرز فهو تعيين ترامب لثلاثة قضاة محافظين في المحكمة العليا الفيدرالية، ومن ثم مصادقة مجلس الشيوخ على ذلك، بعد خلو مقاعد ثلاثة من أصل تسعة قضاة يشكلون المحكمة العليا الفيدرالية في البلاد، خلال فترات متفرقة من رئاسته على إثر وفاة قاضيين وتقاعد الثالث.
بسياق موازٍ، صادق مجلس الشيوخ خلال فترة الرئيس ترامب على تعيينه 226 قاضيًا في المحاكم الفيدرالية، مما يعني أن ربع القضاة الممارسين للمهنة حاليًّا في الجهاز القضائي الفيدرالي هم من تعييناته. وقيمة مكاسب كهذه على المستوى العام، تتضح في كون القضاة دستوريًّا يحتفظون بمقاعدهم مدى الحياة، مما يخوّلهم لرسم ملامح الجهاز القضائي الفيدرالي وتغييرها لتتطابق مع توجهاتهم الفكرية، والمعبرة في هذه الحالة عن اليمين المسيحي.
ولا أدل على تحقّق هذه المكاسب من إقدام المحكمة العليا الأمريكية، التي غدت بأغلبية محافظة بعد تعيينات ترامب الثلاثة، على العدول عن قرارات عام 1973 في قضية الإجهاض «Roe vs. Wade» بإلغاء الحق الفيدرالي في تحديد حقوق الإجهاض، وإعادة الحق للولايات في عام 2022 خلال فترة الرئيس بايدن. وهو ما أسفر عن حظر 13 ولاية للإجهاض حظرًا تامًّا، وتقييد 28 ولاية أخرى للإجهاض باعتبار مدة الحمل.
بالمقابل، استغل ترامب جموح مكونات اليمين المسيحي ليصل إلى سدة الرئاسة، وسعى لاستمالة قواعدهم الجماهيرية عبر خطابه المجاهر بالعداء للنظير الديموقراطي الليبرالي. بل إن سردية خطابه تواءمت تمامًا مع التوجه الايفانجليكي، بكونه «حامي الدين» في معارك «حرب الثقافات»، التي تشهدها البلاد على حد تعبيره. كما قطع على نفسه الوعود بألّا يألو جهدًا في الدفاع عن الجماعات المتدينة التي غدت برأيه «تحت الحصار».
حصل ترامب بعد تعبئة الحشود الايفانجليكية على 81% من أصواتهم خلال انتخابات عام 2016، أما انتخابات 2020 فقد حصد ما يقرب من 76% من أصوات الايفانجليكيين. هذه الاحصائيات تتمظهر أهميتها إذا ما عرفنا أن نصيب الايفانجليكيين من مجمل أعداد الناخبين يصل إلى قرابة 28% بحسب استطلاعات الرأي لدى شركة «Edison Research»، وقرابة 23% بحسب «Associated Press» (مع اعتبار إحصائيات أخرى تضعهم في حدود 15% وترى تدني نسبهم عامًا بعد عام من مجموع الناخبين، وإن كانت هذه الإحصائيات لا تدعمها نتائج الانتخابات الرئاسية).
ربما لم تسعف هذه الأرقام ترامب للفوز بفترة ثانية في عام 2020، لكنه، بلا شك، يحظى بولاء في أوساط الايفانجليكيين لم يسبق لرئيسٍ أن حظي به من قبل، وهو ما تؤكده إحصائيات عام 2024 من حصول ترامب على 82% من أصوات الناخبين الايفانجليكيين البيض، و58% من أصوات الناخبين البروتستانت من غير الايفانجليكيين.
وفي ذروة حملاته الانتخابية للعام الجاري -2024- وبعد نجاته من أكثر من محاولة اغتيال، ردّد ترامب ما يصفه به مؤيدوه، الذين لا يخفون اعتقاداتهم بأن ترامب مختار من الإله، وأنه المنقذ والمخلص لأهل الإيمان المسيحي ضد فلول الشر. فقد خرج أمام مناصريه في ولاية فلوريدا في ليلة الانتخابات الرئاسية الشهر الماضي، ليردّد على مسامعهم: «لقد أخبرني كثير من الناس أن الله أنقذ حياتي لسبب ما، وهذا السبب هو: إنقاذ بلدنا وإحياء عظمة أمريكا».
المثل القيمية الايفانجليكية وموقعها ضمن خارطة الخيارات الخارجية لترامب
فترة الرئيس ترامب الثانية تعتريها تحديات جسيمة تمس السياسة الخارجية، لكثرة الفاعلين السياسيين على المستوى الدولي في الزمن الحاضر، لا سيما العديد من القوى المتوسطة الصاعدة في أقاليم مهمة، وبتوجهات مختلفة.
كما أن العوامل المتداخلة في تحديد تلك السياسات كثيرة ومتشعبة. وأهم العوامل بلا شك: مصالح الولايات المتحدة الأمريكية السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي طالما تحقّقت عبر النهج البراقماتي، دون كثير عناء في تفحص الجوانب الإنسانية والأخلاقية والقيمية.
ثم تأتي توجهات خصوم الولايات المتحدة البارزين، سواء الصين، وبدرجة أقل روسيا. ومن بعد ذلك يكون للتعاون المشترك مع شركاء وحلفاء واشنطن المختلفين، بحسب أديانهم وأعراقهم وثقافاتهم، دورٌ مهمٌّ في تشكيل مسارات السياسة الخارجية الأمريكية.
ناهيك عن عوامل اشتعال الصراعات العسكرية العديدة، في أوربا والشرق الأوسط وأفريقيا وشرق آسيا والكاريبي، وتداخل ذلك مع محاولات الولايات المتحدة الأمريكية احتواء الصين ومواجهة نفوذها الاقتصادي والسياسي، فضلًا عن أن أزمات العالم المختلفة، اقتصادية كانت أم سياسية عسكرية، تقوّض استقرار النظام الدولي الذي تقوده واشنطن.
ولسنا بصدد تحليل كافة العوامل التي يمكن للرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، اتخاذ قراراته من خلالها. لكن حديثنا هنا في إطار تفنيد تأثير المكونات الدينية على السياسة الداخلية والخارجية الأمريكية.
المكون الديني المسيحي في الولايات المتحدة الأمريكية له غموضه المثير بالنسبة للقارئ العربي والمسلم، فهو من جانب يشترك مع الثقافة الإسلامية في نبذ الأفكار اليسارية التحررية، كالشذوذ الجنسي والإجهاض وتحويل الجنس وتلقين هذه الأفكار وتطبيق ممارساتها على النُّشء والأطفال. لكن المباني القيمية لهذا المكون الديني، ومنظاره الأيديولوجي، يفقدان اتساقهما وتماسكهما حين نكتشف ما ينطويان عليه من تناقض صارخ في المفاهيم وميزان المبادئ، التي تنبع من الحماسة الدينية المسيحية المخلوطة بالتعصب للعرق الأبيض.
فالمكوّن المسيحي يبرح عند التعصب لفوقية العرق الأبيض المفضية إلى المناداة باستخدام القوة السياسية والهيمنة الدولية، التي تملكها الولايات المتحدة؛ لإعلاء تلك المُثل الخاصة بالرجل الأبيض، وإقصاء غيرها.
وقد يقول قائل: هذا حال جميع الأديان. وهذا نقاش لا تتسع هذه المقالة لتفنيده. ولكن نشير إلى أن الايفانجليكية -واليمين المسيحي برمته- لهم منطلقات أيديولوجية مرتكزة على مُثل ذات خصوصية بمجال تداولي له قواعده الأنطولوجية والإبستمولوجية، التي لا يمكنها بحال أن تتماشى مع المجالات التداولية للثقافات والمجتمعات الأخرى، لا سيما الإسلامية، المنطلقة من تعظيم خالق الوجود ومنشئه، ومن الإيمان بكتبه ورسله، وتبجيل العقل الإنساني، مع اعتراف بحدوده أمام معرفة الخالق ووحيه وتدبيره.
وإن نادى المتدين الأمريكي بالمساواة والعدل في العلاقة مع مجتمعات العالم الثالث، فهي مناداة مشروطة باتباع تلك المجتمعات للقيم المسيحية والمثل الأمريكية. مما يعني أن الثقافات المخالفة لتلك المثل هي بالضرورة ثقافات معادية، وهو ما يفسر انتشار أطروحات مفكرين سياسيين معتبرين في الفكر السياسي الأمريكي، رغم هشاشة بنيتها المنطقية، مثل «صدام الحضارات» لدى صموئيل هانتقتون، التي ينتهي فيها إلى التحذير من خطر الحضارة الصينية والحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية.
وقد نُسلّم بطرحه المتخوف، فقط في حال قوّمنا اعوجاج منطلقه المنطقي، وتنبهنا إلى أن الحضارة الغربية ليست المعيار الأسمى، مما يعني ألّا غضاضة في قيام البشرية، حفاظًا على وجودهم، باستبدال وإحلال الحضارة الصينية أو الإسلامية محل حضارته التي ثبت تخبطها قيميًّا وأخلاقيًّا مع الإنسان الآخر ومع الطبيعة والكون.
عقلانية الدعاوى المسيحية الصهيونية، وسياسة أمريكا تجاه إسرائيل
يظهر تناقض المثل القيمية لدى المكون الديني الايفانجيليكي في طرحها الإنسانية جانبًا، إذ تدّعي عقلانية معينة لا تكترث بأطفال غزة، ولا بشيوخ فلسطين أو مدنيي لبنان العزل؛ ما داموا عائقًا في طريق تحقّق النبوءة الإنجيلية بقيام إسرائيل، وسيطرتها على المنطقة حتى تحين ساعة قدوم المسيح للفصل في خلافات البشرية.
من هنا يتبين أن فهم الداخل الأمريكي ضروري لفهم سياقاته العقدية والفكرية المُشكّلة لأطروحات المتنفذين في السلطة التنفيذية وراسمي السياسات الخارجية، سواء من داخل المؤسسة أو خارجها. والمكون الايفانجليكي بات أحد أهم المحركات للسياسة الخارجية الأمريكية.
ولكن بصدد الحديث عن الشرق الأوسط والدعم الأمريكي اللامحدود واللامشروط لإسرائيل، فإن نتنياهو والحكومات الإسرائيلية المتتابعة لم تقف مكتوفة الأيدي بانتظار الدعم المسيحي كي تضمن استمرار خططها الاستعمارية والتخريبية في المنطقة، لا سيما إنشاء وتحصين المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية. بل إن لديها من الممولين والداعمين ما يكفي، ولا نحتاج إلى الإشارة إلى كثير من الشخصيات أو الشركات المتنفذة، بل يكفي أن نستدعي أهم اللوبيات في تاريخ السياسة الأمريكية، اللوبي الصهيوني أو مجموعة الضغط السياسي أيباك.
غير أن التقاء الرؤى المسيحية الايفانجليكية بالصهيونية، لا سيما في ثمانينيات القرن الماضي، خلقت فرصًا داعمة وروافد مالية وسياسية جديدة للحكومات الإسرائيلية الانتهازية، كي تمضي في مسار تنفيذ سياساتها القمعية وخططها الإبادية، دون أن تأبه أو تتحوّط لتأثير الرأي الأمريكي العام إزاء سياسات حكومته الخارجية.
أما التحوّط للقانون والمواثيق الدولية، فلم يكن هذا ديدن الدولة الإسرائيلية منذ نشأتها. فإطلاق يد الحكومات الإسرائيلية أو كفّها هو أمر في مقدرة الدولة الأمريكية فقط، التي تهيمن على النظام الدولي وتسوده، وتمنع مجلس الأمن الدولي من إيقاع أي عقوبات أو تطبيق قرارات مُستمدة من القانون الدولي.
لا شك أن الصراع الأوكراني الروسي، والدعم الغربي لأوكرانيا، كشف حالة النفاق السياسي الصارخة لدى الغرب؛ الذي يكيل بمكيالين في تطبيق معايير الإنسانية والعدالة، وحتى في تطبيق القوانين والأعراف الدولية. ورغم تطابق الانتهاك الروسي مع الآخر الإسرائيلي للقانون الدولي فيما يخص الاعتداء على أراضي الجوار، فإن شناعة الإبادة الإسرائيلية ضد جغرافية صغيرة ومكتظة بعدد كبير من السكان، لا يمكن حتى مقارنتها بالحرب الروسية على أوكرانيا.
اختار دونالد ترامب في سابقة تاريخية سفيرًا غير يهودي إلى إسرائيل، وهو مايك هاكابي، الذي يدين بدين المسيحية الايفانجليكية الصهيونية. لكن التعيينات لشخصيات بهذه الخلفية الدينية والعقدية في جهاز السلطة التنفيذية وغيرها من أجهزة الدولة الفيدرالية ليس بالجديد في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ولا حتى في ولاية ترامب السابقة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، مايك بنس، نائبه حينها، يعد ايفانجليكيا.
إنّ الحديث عن العنصر الديني وتأثيره في السياسة الأمريكية يدفع نحو التساؤل حيال ماهية الخيارات التي قد يتبعها ترامب، إن كانت ستضاعف من حرية نتنياهو في تنفيذ ما يشاء -على شاكلة الإبادة التي يقوم بها أمام العيان- أم ستسعى نحو إحلال السلام وإيقاف الحروب، كما وعد الرئيس ترامب مناصريه من المسلمين والعرب الأمريكان.
الإيفاء بوعد إحلال السلام الدولي يقابله تحدي إخماد العنجهية الصهيونية
قبل الاقتراع الرسمي في انتخابات 2024، ظهرت عديد من المقارنات حيال ما يمكن لكل مرشح من الحزبين، كمالا هاريس أو ترامب، فعله تجاه ما يجري في غزة. ولا شك أن إدارة بايدن قد فشلت فشلًا ذريعًا في الإيفاء حتى بالتزاماتها الأمنية والإنسانية، ناهيك عن ظهورها بمظهر المنافق والمماطل على الساحة الدولية، جرّاء استماتتها في تبرير انتهاكات الحكومة الإسرائيلية.
دعم الصهيونية متغلغل في المؤسسة السياسية الأمريكية، وحظوة وتنفذ اللوبي الصهيوني -أيباك- متوغل في الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حدٍّ سواء. لكن الايفانجليكين البيض والمنتمين إلى حدٍّ كبير للحزب الجمهوري زادوا من ميل الحزب نحو دعم إسرائيل، على الأقل في الداخل الأمريكي وعبر المنصات السياسية والإعلامية، علاوة على تقديم الدعم المالي لإسرائيل.
ربما من الجيد التلويح هنا بأن أحد أسباب فوز ترامب هو ثباته على مبادئ معينة بغض النظر عن أخلاقيتها، إذ أنها مبادئ موجهة نحو قواعد انتخابية لها أهداف عليا محددة، وهي تحسين المعيشة الاقتصادية (التي لا يمكن الجزم بتفوق الجمهوريين أو ترامب على الديمقراطيين في تناولها، لكن ترامب نجح في الإيهام بتفوقه بهذا الصدد نظرًا لخلفيته "رجل الأعمال الناجح")، ومواجهة «الحرب الثقافية» التي تشنها برأيهم الأطراف اليسارية ضد هوية الأمريكي وقيمه وثقافته، وحتى عِرقه الأبيض على وجه الخصوص.
أما الحزب الديمقراطي، فما زال منذ فوز أوباما بفترة رئاسية ثانية، يحاول جاهدًا إرضاء طيف سياسي وفكري واسع جدًّا، الذي لا ينفك عن التمدد والاتساع، والتباعد بما يحويه من أفكار. فقد يختلف بداخل هذا الطيف طرفه الأيمن عن نظيره الأيسر اختلافًا لا يقل عن اختلاف كليهما مع اليمين المسيحي الداعم للجمهوريين.
هل ترامب والجمهوريون أفضل للشرق الأوسط في السياسة الخارجية الأمريكية؟
يصعب الجزم بهذا، لكن في سياق الحديث عن تأثيرات اليمين المسيحي، نورد بعض الملاحظات التي لا تميل نحو القول بأفضلية هذا أو ذاك، ولا بالتلويح بقدرة ترامب على وقف الحروب، لا سيما في الشرق الأوسط، وإنما تؤكد على أن النظرة التشاؤمية حيال دور الرئيس الأمريكي، أيًّا تكن خلفيته، في ردع إسرائيل المتنفذة بداخل المؤسسة السياسية الأمريكية، قد تكون لها دلالاتها ومنطقها المقنع، لكن يبقى أن التحليل السياسي محكوم بأطر الظواهر السياسية، ولا يستطيع أن ينفك عن ربقة قواعد التاريخ الحديث ونشوء دوله المتسيدة.
ترامب وإن أظهر تقلبًا سياسيًّا غير محسوب، فإن سلوكه قد يرِد إلى أنه آتٍ من خارج المؤسسة السياسية، مما يساعده في تقليص تقيّده بمحظوراتها، مقارنه بما يستبطنه من يتدرج وظيفيًّا ومعرفيًّا من داخلها. فضلًا عن تشاركه، مع عديد من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، بعدم الاكتراث بحقائق ثقافات وتواريخ مجتمعات العالم الخارجي، إلا ما هو داخل في إطار المصلحة الأمريكية الآنية والصرفة.
فهو رجل أعمال في صميم نهجه، لا يأبه بالقيم، بل يعتمد على فكر عقد الصفقات، التي تزيد من رصيد بنك المصلحة الأمريكية، وأحيانًا من الرصيد المالي والاقتصادي، أكثر منها مصالح قيمية أو سياسية قد تتحقق ببعد نظر في المدى البعيد، وتطيل أمد بقاء الأحادية الأمريكية متربعة على عرش الهيمنة الدولية. وهذا لا يعني انعدام تأثير المؤسسة السياسية على ترامب، بل إنه يتحرك في مساحات تضطلع المؤسسة بأدوار في رسم أطرها في غالب الأحيان.
علاوة على ما سبق، فالرئيس ترامب سيبدأ فترة رئاسية ثانية، بمعنى أن هدفه في هذه المرحلة سيرتكز على محددات عدة، أهمها إرثه السياسي؛ كونه لن يواجه تحدي إعادة الانتخاب، بل سيتفرغ إلى تنفيذ الوعود وتطبيق السياسات التي يراها محققةً لهدفه المعلن والمبهم في آنٍ واحد: «إحياء العظمة الأمريكية».
ولا يمكننا تجاوز الأيديولوجية الإحيائية التي تكتنف هذا الشعار؛ إذ تنشد التغيير والتبديل الذي يرتئيه ترامب أو فريقه أو مناصروه، وإن لم يتفقوا جميعًا حيال معالم هذا التغيير وبنوده. لكن القيود الدولية مبددة بالتأكيد أمام خيار استخدام القوة الأمريكية العسكرية والاقتصادية في سبيل تحقيق الأهداف المنشودة.
قرار ترامب التاريخي بنقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس عام 2017 أتى لحفظ وعوده الانتخابية، بعد تقديم أكبر ممولي الحزب الجمهوري، الملياردير شيلدون أديلسون -الذي يصرح بأن اهتمام حياته الوحيد هو إسرائيل- عشرين مليون دولار أمريكي، عبر استغلال قوانين الدعم المالي لمرشّحٍ ما، دون التنسيق معه أو مع حملته، للضغط على ترامب كي ينفذ وعده.
وبالمقابل، فإن الشبق السياسي نحو تحصيل الإرث والمجد لدى رؤساء الدولة الأمريكية، التي تقود «العالم الحديث»، قد يفسح المجال لمبادرات إحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما إن استمع ترامب إلى حلفاء الولايات المتحدة الموثوقين في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، التي مضت قدمًا في إعلان التحالف الدولي لحل الدولتين، واستضافة أولى اجتماعاته رفيعة المستوى، متخذة خطوات نحو تنفيذ الحل، وإشراك دول الجامعة العربية والمنظمة الإسلامية والاتحاد الأوربي وغيرها من كيانات ومنظمات المجتمع الدولي.
أخيرًا، دفعَنا تناول المكون المسيحي الايفانجيليكي، وتأثيره في السياسة الداخلية والخارجية الأمريكية، إلى التطرق إلى ما قد ينتهجه الرئيس ترامب في فترة الرئاسية الثانية. ودون ريب، فإنه محاط بعديد من العوامل، من ضمنها المصالح الأمريكية، وسلامة النظام الدولي، وسيرورة الاقتصاد العالمي دون عوائق، والتحديات المتمثلة في الحروب العديدة القائمة في مناطق شتى من العالم، التي قد تظهر تناقض وعود ترامب وتصريحاته الانتخابية؛ لا سيما وعده بإنهاء الحروب وإحلال السلام، بالتزامن مع الوعد بنصرة إسرائيل التي قد تؤخذ بمعنى إطلاق يد الحكومة الإسرائيلية لارتكاب المزيد من المجازر، دون المضي قدمًا في مسار اتخاذ خطوات عملية نحو إقامة حل الدولتين.
صفا للاستثمار:
كيف تتخيّل بيت العمر؟ 💭
مسكن متكامل ومريح، موقعه قريب من كل شي، وفيه كل شي 🏡✨
موقفك الخاص، مصلى، مقهى،بقالة، صالة رياضية، وترفيهية!
هذي هي تجربة السكن في صفا 🔗
التجربة اللي تسبق الحاضر وتنبض بالحياة 🖼️🥁
فقرة حصريّة
اشترك الآن
بعد اكتساح الرئيس ترامب في الانتخابات الأمريكية السابقة، يحلل هشام الغنام في مقالة «كيف ستغيّر عودة ترامب الشرق الأوسط» الآثار المحتملة على أبرز أطراف الشرق الأوسط، كإيران وإسرائيل والسعودية، عطفًا على عودة ترامب إلى الرئاسة.
كيف ستُحكم سوريا
في الحلقة الماضية من بودكاست الصفحة الأخيرة «كيف ستُحكم سوريا»، استضفت هشام الغنام، وناقشنا مقالته «هل ستصل المعارضة لدمشق» المنشورة في نشرة الصفحة الأخيرة.
علّل هشام انتصار المعارضة المفاجئ، وما يقابله من انسحابات سريعة لقوات النظام السابق. وحلل مستقبل سوريا، من شكل الحكم المتوقع فيها، والأطراف الفاعلين فيه، إلى طبيعة العلاقات الثنائية المتوقعة مع أبرز دول المنطقة والعالم.
أما عن مقالة اليوم، فإن كان في بالك أي سؤال تود أن أسأله سليمان الوادعي عندما أستضيفه في بودكاست الصفحة الأخيرة، فإليك هذا النموذج.
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.
مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.