الطبخة السحرية الشعرية 🪄

لكل شاعر حقيقي بصمته ونَفَسُه وطريقه الذي يختطه.

الشاعر الإنقليزي جون كيتس / Getty Images
الشاعر الإنقليزي جون كيتس / Getty Images

الطبخة السحرية الشعرية

فيصل الشهراني

يتربع الشعر على قمة أجناس الأدب؛ لِما امتاز به من نفثة سحرية خفية تمدُّهُ بوهج يحرس مكانته ويحافظ على قيمته. ورابطة الشعر وجامعته عظيمة، ومحبوه هم الأقلية الهائلة، كما يقول رامون خيمينز، تمامًا كما عبّر فتحي المسكيني: «الشعرُ أكثرُ فلسفةً من الفلسفة نفسِها، وهو أكثر بمعنى غير كميٍّ إطلاقا.» فالشعراء عرفوا ببراعة فريدة واقتدارٍ قديمٍ أنَّ الشعرية جوهر هذا الجنس المتسامي، وأنَّ شكليات الشعر،مع أهميتها، قابلة للاكتساب، لكنَّ وراء ذلك روحًا تُوهب وتُمنح، غير قابلة للتعليم أو الصناعة. يجذّر محمود درويش هذه الفكرة حين يقول:

لا نصيحةَ في الشعرِ لكنّها الموهبةْ

لا نصيحةَ في الحبِّ إنها التجربةْ

والموهبة والتجربة هنا صنوان وأكثر؛ لأن تجارب الحب تختارنا، فهي وهبية بصورةٍ ما.

ولئن كان الفرق الدقيق بين الحياة والأدب، كما ينقل ماركيز عن أحد رفاقه، مجرد خطأ بسيط في الشكل؛ فالشعر،بحسب شوقي بزيع، تعبير مكثف ورمزي عن سوء التفاهم العميق الذي يحكم علاقة الشعراء بأنفسهم ومحيطهم بوجهٍ عام. وفكتور هوقو من قَبلِه وضع يده على التصور نفسه بعبارة أخصر حين قال إنَّ الشاعر «عالَمٌ مسجون في شخص إنسان»؛ فسادةُ القولِ ينطلقون من معضلة أساسية مفادها هذا الاشتباك الحاد بين ذواتهم ومحيطهم. ثمة علاقة مرتبكة تُستثمر في تجلٍّ فريدٍ حين يُفصح الشعر عن نفسه فيكون أقصى حريّات الكلام وآخر مداها، إذ هو، كما يقرر باشلار، اللغة الحرة إزاء نفسِها. نحن كائنات لغوية، خُلقنا بكلمة الله، نعيش في زوايا الكلام، نستوطنه ونبني فيه أعشاشًا وعروشًا حتى تكون الحياة محتملة وقابلة للعبور. الشعر الحقيقي عملٌ حيٌّ جليلٌ يزدان بمرور الوقت وتزداد رحابته وإمكاناته؛ فالناس فريقان: شعراء وآخرون، بكلِّ ما للآخرية من حمولات ودلالات. 

ومع ذلك فشعرية الشاعر تُمتحن في قدرتها على أن تمسَّ في الآخرين معنىً قصيًّا نديًّا؛ فيُعيد الآخرون، فرادى وجماعات، النظر في دواخلهم لاكتشاف ما لم يعرفوه، وتذكّر ما نسوه؛ فالآخَرون شعراء بالقوة وإن لم يكونوا شعراء بالفعل.

في الشعر تلك اللمسة القريبة في بُعدها واليسيرة في عُسرها، وعبّر عنها الزهاوي ببيت شهير:

إذا الشعر لم يهززك عند سماعه

فليس خليقًا أن يُقالَ لهُ شعرُ

ونبه عليها أحمد شوقي لافتًا إلى أنَّ أوزان الشعر وعروضه وشكلياته من شروط الشعر لكنها ليست ركنًا فيه أو جزءًا من ماهيته:

والشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفةً

أو حكمةً فهو تقطيعٌ وأوزانُ

هذه الطبخة السحرية الشعرية بمقاديرها العجيبة تُقدّم في صورة قول متعالٍ على حدود الزمن، صوّره أبو الطيب في لوحة بديعة آسرة، حيثُ يطلق الشاعر الفذُّ أفانينَ القول ثم ينام ملء جفونه، عارفًا أن الخلق،كل الآخَرين أو الآخِرين، يعيشون حالة اختصام ليليٍّ طويل. وهدأة قلب المتنبي وراحة باله مقرونة بكمال الطمأنينة. لكنها طمأنينة الشاعر في سياق تأمّل انقلاب الحال واختصام الأغيار حين يقرؤون أو يسمعون ما قال، وينقّبون عن دفائن صدره لمعرفة مراده وغاياته التي بثها فحاروا فيها حيرةً أورثت خصومةً وجرّت إلى المُلاحاة؛ فالمعنى في بطن الشاعر. وهذا لا ينفي أن عنصرًا أصيلًا من فرادة الشاعر، كما مر معنا، يجيءُ من قلقه الدائم واضطرابه الداخلي مع نفسه ابتداءً ثم مع محيطه. 

الشعر كما يقول فتحي المسكيني:

إمكانيةُ مستحيلٍ نائمة في قَدَر أيّ واحد منّا، لكنّ بعضنا فقط ينجح في إثارة اهتمامها نحوه، وذلك بقدْر ما يعرّض حياته إلى المستحيل، أي إلى رفع حدود العالم مرّة إثر أخرى، ودونما موعد مسبق أو أيّ تبرير أخلاقي جاهز.

وختامًا، إن هيدقر يرى أن الشاعر لا يكون كبيرًا إلا انطلاقًا من قدرته على إبداع قول شعري فريد، حيث تُقاس عظَمته بمدى تفانيه في إظهار هذه الفرادة في شكلٍ خاص وخالص؛ فلكل شاعر حقيقي بصمته ونَفَسُه وطريقه الذي يختطه، ولئن اشترك مع سابقيه ولاحقيه في سمات وملامح فإن التأمّل الفاحص فيما أخذَ وتركَ كافٍ وكفيلٌ بإظهار فرادته وصوتِه.


  1. أعلنت دار عصير الكتب للنشر والتوزيع فتح باب استقبال الأعمال الأدبية لعام 2024، ويغلَق باب المشاركة نهاية يوليو المقبل. 

  2. صدر حديثًا عن دار كلمات الجزء الثالث من سلسلة كثيب المعنون بـ«ذرية كثيب» للروائي الأمريكي فرانك هربرت وترجمة الدكتور محمد نجيب. 

  3. صدرت حديثًا عن دار خطوط وظلال مجموعة شعرية بعنوان «طائر أزرق وقصائد أخرى» للروائي والشاعر الأمريكي تشارلز بوكوفسكي وترجمة الشاعر المغربي إدريس الملياني. 

  4. يصدر حديثًا عن دار الساقي كتاب «Technofeudalism: What Killed Capitalism» الذي يتحدث عن التغيرات التي يحدثها الإقطاع التقني على الاقتصاد العالمي. الكتاب من تأليف الكاتب والاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس صاحب كتاب «الاقتصاد كما أشرحه لابنتي».


من زين العابدين المرشدي:

  1. إلى أين أيتها القصيدة؟ علي جعفر العلاق

الكتاب الورقي / الكتاب الإلكتروني / قودريدز

لربما كان السبب الأساس الذي يجعلنا نطالع سير الكتّاب ويومياتهم هو أننا، بهذه القراءة، نقترح حياةً أخرى لحياتنا، كل سيرة كاتب كادت أن تكون حياتك أو حياتي ولكن..!

وتبعًا لهذا التداخل البنّاء يتوحّد الإنسان مع الآخر ومع الكون بعامة.

في كتابه «إلى أين أيتها القصيدة» الفائز بجائزة الشيخ زايد للآداب 2023 يسرد الشاعر والناقد علي جعفر العلاق حياته بصدق عجيب كمن يترصد نفسه، وأحيانًا كمن يمتدح صديقًا، ومعياره في الثنائية هذه الصدق وحده. مع مقتبسات شعرية كانت كفاكهة تتدلّى من بين الأيام اليابسة. يرشّ جُملًا شعرية هنا وهناك؛ فالشعر يرطّب ريقَ العالم.

  1. دموع الرمل، شتيوي الغيثي

الكتاب الورقي / قودريدز

يكتب الشاعر والروائي شتيوي الغيثي في روايته سيرة الرمال التي تشابه اسمه المبارك الذي يكاد الماء يقطر منه، شتاءً وغيثًا، وعن تلك التي تعاكس اسمه حزنًا وقيظًا. بين الدمع والرمل يعيش الغيثي، إنه مشغول في روايته بمسار الدمعة لحظةً ومكانًا، ولا يكتفي بهذا، بل يطاردها لمعرفة أسباب هطولها. رواية حافلة بالإنسان وهمومه وتطلعاته. ثمة شخصيات ستعلق بالذهن، بدأت في صفحة ولم تنتهِ بانتهاء الكتاب.

ومما يلفت النظر حرص الغيثي على غرضينِ أساسيينِ من جُمله؛ لأنها حجره الذي يصيد به عصفورين، فالجُمل عنده في الرواية تخدم سرد الأحداث، وهي نفسها جُملٌ يُمكن لها أن تكون منفصلة تُقتبس شواهدَ إنسانية كجُمَل الروائيين الكبار.

  1. مأساة الرائي، طارق الصميلي

الكتاب الورقي

بقدر ما تغني قصيدةُ الصميلي تفكّر، وبقدر ما تجيب تتساءل، وبين هذه المتقابلات يعيش الصميلي داخل ديوانه.

قد يكتب شاعرٌ ما قصيدةً مفكِّرةً متسائلةً، لكن الرهان هو أن يحافظ على عدم انزلاق تلك القصيدة لتقع في الفكر المحض فيجفّ بريق الشعر فيها وتتتصلب شرايينه!

وقبالة هذا التحدي يحرص الصميلي على أن يكتب القصيدة التي تفكر وتتساءل، وفي الوقت نفسه يحرص على أن تكون بكامل نزق لغتها الشعرية وتحررها كما يليق بشاعر حقيقي، محافظًا على اللغة وسيلةً، حتى ليُتوهَّم بها، لشدة اعتناء الصميلي بها، إنها غاية ما يصبو إليه، لكن الشاعر الحقيقي وحده يدرك أنْ لا ابتعاد عن اللغة بوصفها مادته الخام، إنها أرضه وسماؤه، على هذه سرى وإلى تلك ارتقى، وإن كان الصميلي قد سماه «مأساة الرائي»، فإنه بكل تأكيد سيكون «سعادة القارئ» بعد الانتهاء منه.

  1. البوصلة بلا شمال، سلطان الضيط

الكتاب الورقي

في كتاب «البوصلة بلا شمال» يكتب الشاعر سلطان الضيط، الفائز بلقب أمير الشعراء 2022، تمظهرات الحياة وتقلّبات الإنسان بين يديها همومًا وحيرةً وفلسفةً.

تدهشني ذاتية الضيط وغنائيتُهُ في كتبه، سأظلّ مشغوفًا بكل التجارب الإبداعية، في أيّ حقل إبداعيّ، التي أخذت على عاتقها تدوين الإنسان الذي عاصرته. إنها تحرسنا بالنيابة من النسيان لنسلّم لآخرين سيأتون من بعدنا العالمَ مكتوبًا غير منقوص. ولعلّ هذا الكمال هو ما يجعلنا نطالع الشعر الجاهليّ حتى اليوم. إنه شعر يحفل بلُبّ الحياة وبقشورها بالقدر نفسه، مصيّرًا الحياةَ بذلك ثمرةً مكتملة يقطفها رجل يسير على الرمل، ورجل يسير بين هذه السطور.

نشرة إلخنشرة إلخلغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.