عربي ما فيه معلوم!

لن تحظى بالاعتراف في العالم إلا عبر تمسكك بهويتك الفريدة وإذا لم تكن اللغة هي الركيزة الأساسية للهوية فلا معنى للهوية.

مرثاة لغوية / Giphy
مرثاة لغوية / Giphy

في الأسبوع الماضي احتفل بعض العرب باليوم العالمي للغة العربية، وفي المناسبات التي تتعلق باللغة العربية يبدو الوضع وكأنه تأبين للغة وليس احتفاء بها، فأغلب ما قرأته في هذا الشأن كان أشبه بالمراثي في الفقيد الذي ووري جثمانه الثرى للتو.

أبنائي واللغة العربية 

أحاول أن أغرس حب اللغة العربية في أبنائي، وهي محاولات نظرية في الغالب؛ لأني أحدثهم عنها وعن فضلها وقتها وجمالها وهم ينصتون إلي بخشوع ورهبة، ويمضي بي الخيال وأنا أشاهد التأثر على وجوههم فأتخيل أني حين أنتهي من موعظتي المؤثرة سيقوم ابني الأصغر لفرط تأثره ويسمعني قصيدة يتمنى المتنبي لو أنها كانت له. ولكني أنتهي فيسكتون، وأقول في نفسي: لعل هيبة معرفة الحقيقة ألجمت ألسنتهم، فأفرح بإنجازي وأمضي في طريقي وأنا أفكر ماذا سأقول لهم في الموعظة القادمة؛ لأنهم سيكونون قد ألموا باللغة وأصبحوا من فصحاء العرب الذين يلوون الأعناق ويسرقون الألباب بفصاحتهم وتبحرهم في اللغة؛ لأني أخلصت في الوعظ، وأسرفت في بيان جمال اللغة العربية حتى ملكت شغاف قلوبهم.

وفي الموعظة التالية لم أجد القصائد التي انتظرتها، فقلت في نفسي: لعلها رهبة الموقف، أو لعل سكوتهم إجلال للغة، فمضيت أعيد ما أقوله في كل مرة عن اللغة وأستشهد بالآيات الكريمة وبعيون الشعر العربي إمعانًا مني في فتنتهم حتى انتهيت من موعظتي، وفي هذه المرة قررت أن أسأل، ولن أكتفي بصمتهم كدليل على انبهارهم بما أقول، كنت سعيدًا بما قلته وبما أتخيل أنهم يفكرون به، فسألت أصغرهم: ما رأيك في اللغة العربية بعدما سمعته؟ 

قال لي بسعادة لا تخفى على محياه : «Amazing»! 

كان دوري هذه المرة في السكوت، ولم أعلق، اكتفيت بالصمت، فهو في أحيان كثيرة أجمل ما أنتجته اللغات، وأقوى وسائل التعبير التي عرفها البشر.

لا تعليق / Giphy
لا تعليق / Giphy

الإحباط في العالم العربي ليس من تدريس العلوم والمعارف بلغات غير لغات أهلها، ولا من أن معيار «التحضر» هو التحدث باللغة الإنقليزية في أماكن الفرنسية في أخرى، فالشق في هذا الأمر أكبر من الرقعة، والترجمة إلى العربية من أقل الموجود، إن لم تكن هي الأقل، على مستوى هذا الكوكب المتعدد الألسن، مع أن أكثر أمر بديهي في العلم والتعلم هو أن يتعلم الإنسان بلغته الأم ليكون أكثر إجادة وتمكنًا.

الإحباط في الأمور الهامشية التي لا تستدعي كل هذا الاعوجاج في اللسان، كأسماء المحال والفعاليات والشركات، وصولًا إلى قائمة الطعام في المطاعم وأسماء المأكولات والمشروبات. 

وقد شاهدت مؤخرًا فعالية بعنوان «كيف ننقذ اللغة العربية»، وكان أغلب ما هو مكتوب في المكان واللوحات الدعائية مكتوبًا باللغة الإنقليزية، فوددت لو اكتفى المجتمعون بإنقاذ اللغة من أنفسهم.

والحقيقة أني أجد لنفسي المبرر في أن يكون اهتمامي منصبًا على أن يجيد أبنائي اللغة الإنقليزية تحدثًا وكتابة؛ لأنهم حين يتخرجون من الجامعة ويذهبون للبحث عن عمل فلن تفيدهم سيرتهم الذاتية حتى لو كانت مكتوبة على هيئة قصيدة أقوى من معلقة امرئ القيس، وقد تعلمت من حياتي أن فكرة التمسك بالمبادئ أكثر مما ينبغي لا يقنع البقّال حتى يعطيني حاجتي من الخبز. 

وقد كنت في اجتماع خاص بعملي قبل فترة حضره ستة من الزملاء العرب الأقحاح، ولكننا كنا نتحدث بالإنقليزية المكسرة التي تبدو كأنها نجت للتو من حادث مروري شنيع، وهذا شيء عصي على فهمي واستيعابي، لماذا نتحدث في شأن عادي بلغة أخرى ونحن جميعًا عرب نتحدث العربية منذ السنة الأولى من أعمارنا.

نحن يوميًا نقرأ أخبارًا ومقالات وأحاديث قيلت في بلاد السند والهند وأرض الفرنجة والروم ومن بلاد ما وراء الأطلسي، ولم يعد مهمًا بأي لغة تحدثوا؛ لأن الحديث يصل اليوم بأي لغة قيل بها؛ ولذلك فإني عاجز عن فهم الأسباب التي تدفعنا إلى الاعتقاد بأن العالم لن يفهمنا إلا حين نتحدث بلغة إنقليزية بلكنة أمريكية. 

حين تنتج منتجًا يحتاجه الآخرون فسيفهمونك حتى لو كتبت طريقة استخدامه باللغة الهيروقليفية التي لا يتحدث بها أحد. 

وإذا كنت تقيم فعالية أو أردت أن تسمي معلمًا حضاريًا او سياحيًا فثق أنه لن يكون ضمن دوافع الآخرين لزيارة هذا المكان أو تلك الفعالية أنه قد سمي بلغتهم، هذا ليس فقط آخر ما يفكرون فيه، بل إنه الأمر الذي لن يفكروا فيه على الإطلاق.

ثمة كتّاب وشعراء وأدباء وروائيون وصلوا إلى العالم مع أنهم لم يكتبوا إلا بلغتهم، ولم يحتاجوا إلى ليّ ألسنتهم.

والفكرة التي لا أظن أني سأمل من تكرارها هي أنك لن تصل إلى العالم إلا بهويتك، العالم لا يبحث عن نسخ تشبهه، وتميزك في اختلافك وتمسكك بهويتك، وليس في أنك أفضل نسخة مقلدة لغيرك، وإذا لم تكن اللغة عمود الهوية الأول فإني لا أفهم أي معنى للهوية.

أنت باختصار في نظر الآخر مكان وإنسان ولغة، وإن كنت مهتمًا بأن يفهمك ويعرفك فقدّم نفسك له كما أنت، بثقافتك وتراثك ومكانك ولغتك.

وعلى أي حال..

سأعيد هذا الكلام في الاحتفال القادم باللغة العربية إن كتب الله لنا ولكم أن نكون من الأحياء في ذلك اليوم، وسأخطب في أبنائي مرة أخرى وأعظهم موعظة في جمال اللغة حتى تدمع أعينهم وهم يقولون بصوت يسمعه الثقلان: «Wow»!

نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!