ثنائية اللغة بصفتها ضرورة لا «كشخة»
يرى البعض أن الهوية واللغة العربية في خطر بسبب تزايد عدد المدارس ثنائية اللغة. وهذا يفصل الطفل عن بيئته وقيمه ويجعله غير منتم إلى ثقافته.
كأغلب جيل زد، لا يهتم ابن خالتي عمر بإجراء أحاديث ودية معنا في تجمعات العائلة، ويكتفي بالانشغال عنَّا بألعاب الفيديو مع أصدقائه من المدرسة أو شركاء اللعب عبر الإنترنت. والغريب أنَّ وقت اللعب هو الوقت الوحيد الذي نسمع فيه صوت عمر وهو يتحدَّث، لكن للأسف يتحدَّث الإنقليزية مع شركاء اللعب. حتى في المرَّات النادرة التي يتبادل فيها الحديث معنا، يردُّ على حديثنا العربي بالإنقليزية التي تجري بسلاسة على لسانه.
ليس عمر وحده، بل أغلب الشباب من جيل زد يتحدثون الإنقليزية أكثر من العربية بواقع دراستهم في المدارس الدولية ثنائية اللغة، وبتشجيع حثيث من الآباء والأمهات على التحدث بها حتى خارج حدود المدرسة لأنها «كشخة».
مع ذلك، فمن المجحف توجيه تهمة «الكشخة» والرغبة في التميُّز الطبقي إلى الآباء والأمهات في قرار إدخال أطفالهم مدارس ثنائية اللغة. فوفقًا لبحث أجرته جامعة «كوينزلاند» في أستراليا على عينة من 908 عالمًا في العلوم البيئية، ينتمون إلى ثمان دول حيث اللغة الإنقليزية ليست اللغة الأم، يعاني العلماء والباحثون والأكاديميون ممن لا يتمتعون بمهارة التواصل باللغة الإنقليزية من عوائق تؤثر سلبًا على مسارهم العلميّ.
تتراوح هذه الصعوبات من صعوبة قراءة الأبحاث الأكاديمية التي تصدر أغلبيتها باللغة الإنقليزية إلى صعوبة كتابة البحوث باللغة الإنقليزية المطلوبة، مما يقلِّص فرصة مشاركتهم في المؤتمرات العالمية.
وإذا أردنا أن نفصّل هذه الصعوبات بالأرقام، فالعالِم الذي لا تُعد الإنقليزية لغته الأم يقضي ضعف الوقت المطلوب في قراءة البحث وكتابته مقارنةً بمن تُعد اللغة الإنقليزية لغته الأم، واحتمال رفض بحثه أعلى بمعدل 2.5، واحتمال ردِّ بحثه للمراجعة أعلى بمعدل 12.5 مرة لأسباب تتعلَّق فقط بضعف اللغة لا الجانب العلمي. عائق اللغة، وفقًا للبحث، كان أساسيًّا في قرار الكثير الانسحاب من مواصلة المسار الأكاديمي العلمي.
ليس سرًّا أنَّ الأمر ذاته ينطبق على المجالات العملية والتجارية والثقافية حيث الهيمنة للغة الإنقليزية. لكن يرى البعض أن الهوية واللغة العربية في خطر بسبب تزايد عدد المدارس ثنائية اللغة. إذ تُجبر نظمها التعليمية الطالب العربي على اللغة الإنقليزية كلغة أولى، تاركة مساحة هامشية للعربية في المناهج التدريسية والتفاعل. وهذا يفصل الطفل في مرحلة صغيرة عن بيئته وقيمه ويجعله غير منتم إلى ثقافته.
وقبل أن نتهم أنفسنا بالتقوقع، فهذه المخاوف لا تقتصر فقط على الوطن العربي. إذ تعمل دول شمال أوربا (الدنمارك وهولندا والنرويج والسويد) على سن قانون تُجبر فيه جامعاتها ومؤسساتها التعليمية العليا على اعتماد اللغة الوطنية في تدريس بعض موادها -وزير التعليم الهولندي طالب بتدريس ثلثي المواد الجامعية على الأقل باللغة الهولندية- كي لا تموت لغاتهم أكاديميًا أمام هيمنة الإنقليزية.
لم يكن العرب يومًا منكفئين عن اللغات العالمية. إذ عرف العرب قبل الإسلام اللغات الأخرى كالفارسية ولغة أهل الحبشة بحكم التجارة والتحالفات السياسية، وبعد الإسلام حفظوا للدنيا العلوم بترجمتهم إياها عن اليونانية. لكن في كل تلك المراحل بقيت اللغة العربية هي الأم وبقي العرب محتفظين بهويتهم.
أتذكر هذه الحقيقة عندما أسمع يحيى، ابن خالي الصغير، يتحدث معنا المصرية بطلاقة، ويقرأ العربية والقرآن بمخارج حروف رائعة (إن تغاضينا عن لثغته في الراء😄). فخالي كان حريصًا على تعليم أبنائه في أمريكا، وكان هذا سبب انتقاله إليها أصلًا منذ أكثر من عشر سنوات. لكنه كان أيضًا حريصًا أشد الحرص على العربية، واستعان بمعلم للقرآن من أجل سلامة لغة يحيى ذي الأحد عشر عامًا.
هنا تتجلَّى ثنائية اللغة بصفتها ضرورة، لا «كشخة».
نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.