لماذا تتجاهلون النهار؟!
سيكون الأمر جميلًا حين تتخلى عزيزي السينمائي أو المنتنمي إلى عالم الفن السعودي عن فكرة أنك أستاذ ستعلّم الناس وتمرر أفكارك العظيمة من خلال أفلامك.
بعد بحث وتأمل وقليل من التدبر والاستبصار، لم أجد شيئًا أشدّ سوءًا من الأعمال السينمائية السعودية التي أُنتجت مؤخرًا إلاّ ردة فعل منتجيها والعاملين عليها على نقد الناس تلك الأعمال؛ فقد بلغ ببعضهم الحماس في الهجوم على منتقدي أعماله مبلغًا توقعت أنه سينتهي بهم إلى القول إنه لا ينقد أعمالهم إلا الخوارج والكارهون للوطن والمواطنين.
والحق أيها الناس أني محب للفنون التعبيرية بأنواعها، وأتابع جديدها وأشاهد قديمها، وأحمد الله أنه لا أحد من فنانينا العظماء شاهدنَي وأنا أغيّر القناة أو أغادر قاعة السينما بعد دقائق من بداية العرض، فربما يتهمني بـ«الردّة الفنية» ويطالب «بإقامة الحد» علّي جزاءًا لي وردعًا لأمثالي.
ولعل الخلط الذي وقع فيه بعضهم، وفقنا الله وإياهم، يكمن في اعتقادهم بأنهم أساطير فنية لا فرق بينهم وبين عتاة هذه الفنون في العالم. مع أن ظهورهم ليس بسبب إبداعاتهم الفنية ولا أعمالهم التي سيخلدها التاريخ، وكل ما في الأمر أنهم كانوا موجودين في الفترة التي كان فيها من ضمن توجهات الدولة دعم الفنون ومنح مساحة من الحرية والدعم المالي والمعنوي يتيحان لهم وضع أقدامهم على أول الطريق الطويل وإنتاج أعمال فنية تساعدهم على تكوين تجربتهم ونضوجها. ولو كان أي أحد من المتقدمين أو المتأخرين وُجِد في اللحظة الزمنية التي وجدوا فيها لقدّم مثلما يقدمون أو أفضل.
حين يقتنعون بهذه الفكرة فإني أظنهم سيكونون في الطريق الصحيح، فقد قرأت لبعض الممثلين والمخرجين الذين لا أعرف أسماءهم على وجه اليقين تصريحات وردود أفعال فيها تزكية لأعمالهم الفنية بطريقة يتحرّج حتى آل باتشينو أن يزكي بها أعماله.
أنت، أخي الممثل أو المنتج أو المخرج، تقدّم عملًا «ترفيهيًا» موجهًا للناس، وهؤلاء الناس الذين تزدري آراءهم هم الزبائن الذين تستهدفهم بمنتجك الترفيهي، واستمرارك في هذا التعالي يعني أن النهاية الحتمية هي أن تحتفظ بأفلامك في أستديو هاتفك الجوال وتشاهدها بمفردك. وأنت كمهتم بالسينما في السعودية حصلت على مشاهدات واهتمام عاليين في البداية كان الدافع وراءهما فضول الناس للاطلاع على تجربة جديدة وليدة، وليس لأنهم لم يقاوموا سحر أعمالك الفنية وتاريخك العريق في هذه الصناعة، وهذا الفضول لن يستمر للأبد، والمشاهدون سيكون دافعهم لمشاهدة أعمالك أو تجاهلها بعد أن تنتهي مرحلة البدايات، إن كُتب لك الاستمرار، هو المحصلة التي تشكلت في أذهانهم عن أعمالك وليس الفضول، أو حتى الدعم بدافع الوطنية، هذه أشياء ستنتهي ويبدأ التعامل مع الأعمال وفق منظور «عمل جيد أو عمل رديء»، لا أكثر ولا أقل.
ثم إن النصيحة أو الطلب أو الرجاء أو التوسّل الذي أتقدم به لكثير من العاملين في هذا المجال هو أن يؤمنوا بأن العمل الفني أولَا وأخيرًا عمل «ترفيهي»، سيكون الأمر جميلًا حين تتخلى عزيزي السينمائي أو المنتنمي إلى عالم الفن السعودي عن فكرة أنك أستاذ ستعلّم الناس وتمرر أفكارك العظيمة من خلال أفلامك. هذه الطريقة لم تعد مغرية كثيرًا، بخاصة أن كل الأفكار التي نشاهدها في الأعمال السعودية مؤخرًا بدت مباشرة وساذجة وتفتقر إلى «الفن». أنا كمشاهد أتقبّل عملك الفني حتى إن كان مليئًا بالأفكار التي لا أتفق معها إن أنت قدمته لي بطريقة فنية ذكية ومبهرة، لكن فكرة التلقين المكشوفة والبلهاء لم تعد مقبولة حتى في المسرح المدرسي؛ لذلك حاول أن تؤمن بأن رسالتك هي الترفيه، وغايتك هي أن تكون صناعة الترفيه مربحة لك ومبهجة للناس، وهذا اتفاق يربح فيه الطرفان. لن يدفع لك أحد في المستقبل الأموال من أجل أن تلقي عليه الدروس وتعلّمه كيف يعيش وكيف يموت، فالناس تتدبر أمورها في الحياة من قبل اختراع الكاميرا.
أما النقطة التي أظن أنها أهم في كل مجال وليس في المجال الفني فقط، فهي أن الإبداع يختلف لغة واصطلاحًا عن التقليد، الأفكار المكررة والمستنسخة ليست من الإبداع في شيء، تقليدك لأفكار نجحت في بيئات وثقافات مختلفة لا يعني أنها ستنجح في بيئتك ومجتمعك. التحدي الحقيقي أن تقدّم فنًا عظيمًا يشبه بيئتك وينبع من محيط المبدع وثقافته. التحدي هو أن تصل إلى العالم وأنت «سعودي»، لكن الفشل الحقيقي هو أن تعجز عن الوصول إلى السعوديين؛ لأنك أضعت الطريق حين لم تمش مشية الحمامة ولا مشيتك. حين أفكّر كمشاهد في البحث عن فلم بمواصفات غربية فإني سأتجه إلى النسخة الأصلية مباشرة، لستُ في حاجة إلى نسخة مشوهة ومقلدة.
لا أعلم من الذي زرع في عقلك أن النجاح مقترن بالإيحاءات الجنسية أو الكلمات النابية؟ المفاجأة المدهشة التي ربما لا تصدقها أنه يمكنك أن تقدم أعمالًا خالية من قلة الأدب وتنجح، تخيّل!
أما المفاجأة المذهلة وغير المتوقعة فهي أنه يمكنك أن تصوّر في النهار، وأن الظلام الذي تدور فيه أحداث قصتك المهلهلة لن يجعلها تبدو جميلة، جرّب أن تصوّر أعمالك في النهار، ويمكنك أن تشتم من أوهمك بأن التصوير في الظلماء سيجعل فلمك مرشَّحًا للأوسكار.
أما الخبر الذي يحاول البعض أن يخفيه عنك حتى لا يزهّدك في العمل، وتخسر السينما في العالم موهبة مذهلة مثلك، فهو أن بيئة خالية من النقد هي بيئة طاردة وخالية من الإبداع. آخر بيئة يتمنى «المبدع الحقيقي» أن يوجد فيها هي البيئة «التسليكية»، التي تمدح كل شيء وأي شيء.
الاعتماد على فكرة أنك سعودي ولا بد من أن يدعمك السعوديون مطلوبة لو أنك فتحت كشكَا للشاي أو عملت مندوبًا للتوصيل. أما حين تقدم عملَا فنيًا فلن يدعمك سوى موهبتك وإبداعك. لن تكون جنسيتك مفتاح القبول لدى المشاهد. قد تفتح لك الباب، لكنها لا تضمن لك البقاء في المنزل.
الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!