الرأسمالية وانفصال المطرب العربي عن جماهيره

تجسد الحفلات الفضاء الذي يجمع المطرب بجماهيره من كل الطبقات، ثم قبضت الرأسمالية على الصناعة الغنائية وأقصت كل من لا ينتمي للأثرياء.

لم تخلُ العملية الإبداعية الطربيَّة يومًا من الربحية، فهي مهنةٌ يمتهنها الفنان ويكسب منها. لكن تكمن المشكلة الرئيسة في توجه الشركات الرأسمالية نحو احتكار الفنان. فيقتصر بذلك خط التواصل الجماهيري المباشر على طبقة معينة من خلال منفذ رئيس هام: الحفلات.

فقد أثير الجدل مؤخرًا حول حفلة عمرو دياب في العقبة، وظهرت تعليقات ساخرة على الحدث نظرًا لارتفاع الأسعار. إذ بلغ سعر التذكرة 300 دينار أردني، ما يعادل تقريبًا 1500 ريال سعودي.

ولا يمثل عمرو دياب حالةً خاصة في هذا السياق. لكن لكونه من مشاهير الغناء، فاسمه كفيل بإحداث الزخم مع كل خطوة في مسيرته.  

الحفلة مورد الربح الأساسي

مذ بداية الإنتاج الغنائي، اعتاد المطرب طرح أغانيه في السوق حيث يقتنيها الجمهور بأسعار معقولة. لكن لم يغنِ وجود الأشرطة جمهور الفنان عن حضور حفلاته. فالحضور توطيدٌ لروابط الحب والاحترام الذي يكنه المستمع لمطربه المفضل. يقابله تعبيرٌ عن اهتمام المطرب لآراء الجماهير وتفاعلهم معه ومشاركته الغناء.

وقد اعتاد الكثير من المطربين من أمثال عبد الحليم وأم كلثوم تقديم حفلات بالمجان بين فترة وأخرى في مقرات الجامعات أو بأسعار رمزية. ورسَّخت هذه الحفلات حالة الاتصال والتفاعل مع الجماهير.

وفي جيل أقرب، قدَّم عمرو دياب حفلاته في جرش في التسعينيات ومطلع الألفية، وكان شهيرًا حينها كما هو الآن. واستقطبت حفلاته حضورًا جماهيريًّا غفيرًا من مختلف الطبقات. إلا أنه لم ينجُ من اجتياح الرأسمالية. 

إثر صعوبة تحقيق أرباح من مبيعات الأغاني مع سهولة قرصنتها، أصبحت الحفلات وسيلة الشركات والمطربين الربحية بامتياز. وحتى تحقق أرباحًا عالية، حرصت الشركات على حصرها بطبقة معينة من الأغنياء. Click To Tweet

وتثير أسعار تذاكر حفلات المطرب وأجور إحياء حفلات الزفاف الدهشة. فهي ليست في متناول فئة كبيرة جدًا من سكان الوطن العربي، الذين هم للمفارقة القاعدة الجماهيرية للمطرب. لكن تحوَّلت أسعار تذاكر الحفلات إلى طريقة اخرى لدى الأثرياء في تأكيد الذات عبر الشعور بامتلاك «حقٍّ الوصول» إلى الحفل.

بيع «حق الوصول»

طرح الفيلسوف الفرنسي جيل ليبوفتسكي فكرة «حق الوصول» في كتابه «الترف الخالد». وتقوم على تكوُّن فئة الزبائن الفخمة من شريحتين: الشريحة الوفية من الزبائن الأثرياء، وشريحة أقل وفاءً من الزبائن الميسورين الذين لا يستطيعون المواظبة على اقتناء كل شيء.

ودومًا سيكون هناك، مهما كان وضع الدولة وحالتها الاقتصادية، أثرياء يشكلون شريحة زبائن معينة قادرة على شراء المنتج المرموق وحق احتكاره والوصول إليه. تلك الفئة من الزبائن فئةٌ متطلبة للتميز والماركات، لذلك هم ذو طبيعة استثنائية. والسلعة التي تقُدَّم إليهم مستثمرة نفسيًّا على نحوٍ مبالغ فيه.

فإذا ما طبقنا «حق الوصول» على عالم الغناء، سنجد كيف تستهدف الشركات بأسعار تذاكر الحفلات الشريحة الأولى. وكيف استهدفت بظهور تطبيقات الأغاني المدفوعة الشريحة الثانية من ميسوري الطبقة الوسطى العليا. 

ففي ظل تفعيل حقوق الملكية الفكرية في موقعيْ ساوند كلاود ويوتيوب شِبه المجانيَّين، بات المطربون يطرحون أغاني معينة لفترة قصيرة من الزمن قبل قرصنتها. فتُطرَح عبر التطبيقات المدفوعة كأنغامي وسبوتيفاي، أو عن طريق الشراكات المختلفة مع شركات بعينها. 

مثالٌ عليها أغنية عمرو دياب «إتقل» التي طرحها مؤخرًا مع بيبسي. يمكنك اليوم مشاهدتها في يوتيوب على قناته الرسمية، لكن في بداية طرحها احتكرتها الشركة نحو أسبوعين. فلم يستمع إليها سوى الفئة التي تمتلك امتيازات التعامل مع شركتي بيبسي وفودافون، بعد دفع ثمن محدَّد.

كذلك تطبِّق الشركات حصرية الاستماع للأغاني الجديدة في الحفلات، كما حدث مع المطرب محمد حماقي في حفل الشركة المنتجة للعبة «فورتنايت». إذ تقرَّر طرح أغنية من ألبومه الجديد في هذا الحفل يسمعها للمرة الأولى رواد اللعبة ومحبيها. 

كيف صنعت بيبسي عمرو دياب العالمي؟

قبل بيع «حق الوصول» فلا بدَّ أولًا من صنع مطرب تتهافت عليه الجماهير بكل السبل. وهذا ما تجيد الشركات فعله باحترافية شديدة في عصر النجوم. 

واستمرارية نجاح عمرو دياب في ساحة الغناء العربي تفرض التعريج على تحولات مسيرته الفنية. وأبرز تلك التحولات شراكته مع شركة بيبسي. فقد حوَّلت تلك الشراكة عمرو دياب من مطرب بوب شعبي مرتبط بأحلام شباب الطبقة الوسطى، إلى نجم ومطرب عالمي وسلعة ترويجية. إلى أن وصل اليوم صورته الأخيرة كفنان يحتكره الأثرياء بصفة غير رسمية. 

بدأت ملامح الانفصال الطبقي تظهر على عمرو دياب مع أغانيه المصورة في مطلع الألفية الجديدة بعد عقد شراكته مع بيبسي. إذ بدَّل عمرو دياب مواقع التصوير في مصر والدول العربية بمواقع أوربية من لندن إلى التشيك. وبدَّل صورة العارضة المرافقة له من ممثلة مصرية أو عربية شابة بوجه عالمي من ملكات جمال العالم. 

ويمكن قياس هذه الصورة التجارية على مقارنات أخرى غير أماكن التصوير والعارضات. فعلى مستوى الملبس، أصبح عمرو دياب عارض أزياء أكثر منه مطربًا.

هكذا صنع الفيديو كليب عمرو دياب وصورته الجديدة. صورة عالمية لا تجمعها مع المحلية سوى لغة الأغنية.

ويجسَّد انتصار الفيديو كليب، كما يرى جيل ليبوفتسكي في كتابه «شاشة العالم»، انعكاسًا لصعود منطق السوق الاستهلاكي القوي في صناعة الأسطوانة. فلم تعد إذاعة الموسيقا كافية، بل أصبح على الموسيقا أن تتحد مع عاملٍ بصري يعمل كموضة وعلامة تجارية وأسلوب حياة يثير ترقُّب الجماهير.

التقارب مع الطبقة الثرية 

كان ذلك يحدث بالتوازي مع تكثيف العولمة في الوطن العربي. فأصبح عمرو دياب في حالة تغريب مستمرة تتشاركها معه طبقة الأثرياء ذات النزعة العالمية المتأثرة بنمط العيش الأميركي. فاقترب منها وابتعد عن الطبقة الوسطى والعاملة. 

وبعدما كان يحيي حفلاته في كازينوهات شارع الهرم الشهير والمسارح الشعبية، أخذ عمرو دياب يرتاد أماكن المصايف الفارهة لإحياء حفلاته. فرافق انتقاله ارتفاع سعر التذكرة.

ويُلاحظ أمرٌ آخر في موسيقا أغاني عمرو دياب ذاتها. إذ دومًا ما نال المديح على قدرته نقل أغنية البوب العربية إلى مكان عالمي أوسع من النطاق المحلي. وذلك بتجديده أغانيه من خلال إدخاله المقطوعة الموسيقية الغربية.

لكن في حين يُعد تجديدًا وتجريبًا ناجحًا على مستوى السوق، فقد كان من ناحية أخرى تجديدًا مطلوبًا لمواكبة طلبات تلك الطبقة.

دائمًا ما انجذب شباب تلك الطبقة لأغاني الديسكو ذات الإيقاع السريع والصاخب لتناسب أسلوب الديسكو الأميركي. فكان لا بد من تطوُّر أغنيات عمرو دياب إلى أغنيات ديسكو بإيقاعٍ سريع.

لربما هذا ما يفسر حنين القطاع العريض الشعبي من جماهير عمرو دياب لأغانيه القديمة أكثر من أغانيه الحديثة. فالأخيرة تُسمَع وتُستهلَك على الفور بمجرد انتهاء موضتها. ويفسر أيضًا نجاح أغاني عمرو دياب المدوي لأغانيه ذات الموسيقا الشرقية بإيقاعها الهادئ البسيط.

كذلك ما عاد جمهور عمرو دياب العادي يحتفي بأعماله كما كان في الماضي. بل أصبح يوجه الانتقادات لأعماله التي تنشر مؤخرًا بسبب طغيان نوع «الهاوس» الموسيقي عليها. فهذا النمط يقصي جمهوره عنه، ويتودد به إلى شريحة أخرى معينة من الجماهير. 

اقتحام مطربي المهرجانات حفلات الساحل

ما عادت ظاهرة «مطرب الأغنياء» في الفترة الأخيرة تقتصر على مواهب الطبقة الوسطى المتعلمة في معهد الموسيقا. فاليوم يدخلها مطربون من الطبقات المسحوقة، بعضهم لا يحمل أي شهادةً تعليمية من الأساس، ولا يشترط فيه حتى حسن الصوت. فقد تطورت أغنية المهرجانات إلى حدٍّ بعيد، واستطاعت أن تنتقل بعد ولادة عسيرة من الهامشية إلى المركز. 

ونشأت المهرجانات بالأساس في الأفراح الشعبية داخل مناطق القاهرة المهمشة العشوائية. وكانت قائمة على الإنتاج الذاتي ضعيف الجودة ويقتصر سماعها على أبناء الحي. واليوم أصبحت معلمًا هامًا في الأفراح المصرية وحفلات الساحل الشمالي. فأصوات عمرو دياب وحماقي وتامر حسني أفسحت المجال لأصوات محمد رمضان وحمو بيكا إلى جانبها.

جاءت تلك الفئة من المغنيين من أطراف المجتمع شديدة الفقر والأمية، ليكونوا رواد إحياء حفلات الأغنياء وأفراح رجال الأعمال. وظنَّ الكثير أنَّ دخولهم هذا بمثابة حصان طروادة، تجتاح به الطبقة الفقيرة الطبقة الثرية اجتياحًا ثقافيًّا ناعمًا. لكن في الواقع جاء انقلابًا على الطبقة البسيطة.

قناوة: موسيقا الروح والأرواح وقصة عبودية

أدرجت منظمة اليونسكو موسيقا قناوة المغربية في قائمتها العالمية للتراث الإنساني غير المادي. ولعل مبادرةً شبيهة تفتح الآفاق لدراسة والحفاظ على أكبر فن وُلِد من

11 مارس، 2020

فاقتحام تلك الفئة من المطربين قلاع الطبقة الثرية بفن شعبي وكلمات بذيئة، أوحى بفتحهم الباب لأبناء طبقتهم للاحتكاك مع طبقة الأثرياء. وفي حين يتشدق هؤلاء المطربون بمسيرتهم المأساوية والواقع المرير الذي انحدروا منه، ويواصلون تأكيد اعتزازهم بذلك الأصل كرافد هام لهويتهم، ففي الواقع بدأوا ينفصلون عن أبناء طبقتهم ويقتربون من الأغنياء أكثر فأكثر.

وبعدما كان مطرب المهرجان يطلق أغنيته أساسًا في أحد أفراح الحارة الشعبية ويتفاعل معه شبابٌ يشاركونه نفس السمات، يستحيل الآن ظهوره في أحد تلك الأفراح الشعبية. فقد غلا أجره، وإذا أراد جمهوره من الطبقة المسحوقة الالتحام به مجددًا، سيكلفهم ثلاثة أضعاف مصدر دخلهم اليومي. وهكذا تحوَّلوا إلى ممثلين للطبقة الشعبية البسيطة وفي الوقت ذاته منفصلين عنها.

توحُّش الرأسمالية بين المطرب وجمهوره

يطرح مستقبل علاقة المطرب بجماهيره أسئلة كثيرة. فلا مطرب، سواء كان من الطبقة الوسطى كعمرو دياب أو من الطبقة المهمشة الدنيا كمحمد رمضان وحمو بيكا، استطاع مقاومة المد الرأسمالي والاحتفاظ بعلاقته نقيةً مع قاعدته الجماهيرية.

ولعل السؤال الأبرز، هل تستطيع الشركات فرض سياجٍ يحجب المطرب عن جمهوره، أو صنع حقٍّ للوصول تحتكره فئة معينة؟ يُصعَب تصور هذا الأمر من الأساس في ظل إمكانية قرصنة أعمال المطربين، وتوفر الإنترنت لقطاع عريض من الجماهير مهما تفاوتت قدرتهم الاقتصادية.

لذلك فالتأثير الأكبر لتوحش الرأسمالية على علاقة المطرب بجماهيره يتمثل في الحفلة. ولعل سعر تذكرة حفلة عمرو دياب في العقبة التي أثارت ضجة مؤخرًا، سيُنظر إليها في المستقبل كتذكرة رخيصة ما دام سقفها قابل للزيادة. وما دام المطرب لا يقاوم رغبته في زيادة الأرباح على حساب علاقته بجماهيره.

الجماهيريةالرأسماليةالموسيقاحفلاتالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية