التقدم، بين كمال الإنسان ودماره

فسَّر الغرب فكرة التقدم مسارًا خطيًّا يجمع البشرية كافة نحو الكمال وفق مفهوم المدنية الغربية. فهل سنجد الكمال نهاية هذا المسار؟

شهد التاريخ كثيرًا من الحضارات والشعوب السابقة التي اعتقدت دوامَ وجودها إلى الأبد فصارت اليوم من الماضي. منها ما خلّف وراءه آثارًا عظيمة تدل على مجده ورفعة ما بلغه، ومنها ما مُحِقَ من الوجود ودُفنَت آثاره عميقًا تحت الأرض فلا يُعرَف عنه شيء.

ولا يختلف الأمر في عصرنا هذا. فما نظنُّه تقدمًا خالصًا قد يحمل في طياته كثيرًا من العواقب السيئة التي لن تظهر إلا بمرور الوقت، سواء في علاقاتنا الاجتماعية أم في محيطنا البيئي أم في أجسادنا. وما يُدعى تقدُّمًا تكنولوجيًّا وعلميًّا لا يعني بأي حال تحسُّنًا في أخلاق البشر وظروفهم الاجتماعية

صفات فكرة التقدم الثلاث

لن يجد المرء للتقدم مفهومًا واحدًا متماثلًا على مَرّ العصور، فلا بد للاختلافات أن تقع بتبدُّل الظرف الثقافي أو التاريخي. لكننا إذ نحدد هذه الفكرة كاعتقاد مميِّزٍ للحداثة الغربية، فلا ريب أنها تحوز سمات لم تظهر وتَتَشاكَل معًا إلا في هذه المرحلة التاريخية. 

فالعصور السالفة اختبرت تحسّنًا في مناحي حياتها وتبدّلًا في أخلاقها وتطورًا في قدراتها المادية. غير أن الحداثة الغربية مذ عصر النهضة لم تأخذ هذا «التحسن» و«التطور» على علّاتهما وكفى، إنما جعلتهما جزءًا من فكرة شاملة تُسحَب على التاريخ بأكمله. وبذا يصبح كل تحسّن تقدُّمًا ذا غاية وقيمة إيجابية فقط متى ما حمل معنى «الأفضلية» الغربية.

بناءً عليه، إذا ما أردنا تعريف فكرة التقدم لقلنا إنها سيرورة تراكمية تَعُدّ التاريخ مسارًا خطّيًّا من الأقدم إلى الأحدث. وفي هذا المسار كل حقبة متأخرة في الزمان أحسن من سابقتها وتفضُل عليها كيفيًّا. ما يعني أن التقدم في صلبه يحوي «حكمَ قيمة» يُؤَوِّل الجديد على أنه أفضل من سابقه، والحاضر أفضل من الماضي. 

وهكذا، فالتراكم الحاصل عبر التاريخ يُصَيِّر الماضي كله خطواتٍ نحو الحاضر، وما من شيء يُنجَز ويُكتَشَف إلا ويُحفَظ من أجل هذا الحاضر، الذي هو الاتجاه المُعطَى للتقدم.

وفقًا لهذه الصورة يمكن تمييز صفاتٍ ثلاث تَسِم فكرة التقدم كما يوردها آلان دو بنوا في مقاله «تاريخٌ موجز لفكرة التقدم» (Un Brève Histoire de l’idée de Progrès): مُوَجَّهٌ وضروري ولا يمكن عكسه.

فالتقدم موجّه لأن مسيرته نحو الأفضل، أي نحو الحاضر والمستقبل اللذين فيهما سيجد الإنسان كماله. وضروري لأن المتقدِّم لا يكفّ عن التقدم، فكأنه محمول بالضرورة نحو الحاضر ويحوي في باطنه غايةً تدفعه إلى الأمام. والتقدم لا يمكن عكسه لأن ما «كانَ» صار من الماضي، فلا تمكن الرُّجعى إلى الوراء أبدًا.

وتناقض الصفة الأخيرة النظرة الدورية إلى التاريخ التي تجعل مسيرة أي حضارة مقسّمة على مدى فصول كفصول السنة. وهكذا يغدو مجرى التاريخ بالضرورة تحسّنًا دائمًا لظروف البشرية مهما كانت العقبات.

المسلَّمات الثلاث في فهم التقدم 

بمحاولة تحليل فكرة التقدم إلى مكوّناتها الرئيسة والأكثر أولوية، نقع على مُسلَّمات ثلاث تجعل من فكرة التقدم «نسيجَ وَحْدِها» (sui generis): أي فكرة واحدة متكاملة ومتمايزة من غيرها من الأفكار. أولى تلك المسلّمات وَحدة البشرية أو الإنسانية. فالبشر من أصقاع الأرض كافة باختلاف مناشئهم وأصولهم وثقافاتهم مشمولون ضمن اسم معنوي واحد ندعوه «البشرية». وصفة هذه البشرية مواصلة التقدم طوال تاريخها.

الدافع وراء الشمل اعتقادٌ بأن البشر هُم هُم أنفسهم في كل مكان لا اختلاف جوهريًّا بينهم أيًّا يكن. وتعد فكرة الوحدة حديثة تاريخيًّا إذ لم تَشِع إلا مع عصر التنوير.

ثانية هذه المسلّمات فكرة خطّيّة التاريخ والزمان واتصاله. أنَّ لهذا المسار الخطي التقدمي الذي تسير عليه البشرية بأجمعها معنًى يجسد غاية الأمر كله، حتى لو كانت هذه الغاية كَمَال البشرية.

خذ مثلًا كتابًا تقليديًّا يؤرّخ للفلسفة. ستجده يبدأ بالعصور اليونانية منتقلًا إلى العصر الروماني فالمسيحي المبكر فالوسيط فالنهضة فالتنوير فالحداثة وما بعد الحداثة. كل هذه الفترات مراحلُ على خط تاريخي واحد من الأقدم إلى الأحدث، دون تمييز بين تبدّلات جوهرية تفصل عرى اللاحق عن السابق. وكذلك دون تمييز لثقافات مختلفة خارج الثقافة الغربية، فيبدو كأنما كل هذه المراحل تعود لإنسانية واحدة.

كيف فَجّر شوبنهاور حقيقة العالم فوق رؤوسنا؟

آرثر شوبنهاور فيلسوف ألماني، يشتهر عادة بتشاؤمه تجاه الحياة بوصفها “بندولًا يتأرجح بين الألم والملل”، وقد عاش شوبنهاور بالفعل وحيدًا ومغمورًا في الجزء الأكبر من

27 يناير، 2020

ثالثة هذه المسلّمات أن العالم والطبيعة من حولنا في قبضتنا، بمعنى أنهما قابِلَين لكل تغيير نجريه عليهما. فالإنسان مع ديكارت غدا سيدًا على الطبيعة بأكملها. ومع كانط صار الواقع نفسه معتمدًا على المُدرِك. فأصبح للإنسان أن يتخذ الواقع ملعبًا له يشكله كما يريد، ويبلغ فيه كماله الخاص دونما أي حدود يفرضها عليه الواقع و«نظام» الطبيعة.

وتعود جذور هذه المسلّمات في السياق الغربي إلى المسيحية. لكن مع قدوم عصري النهضة والتنوير، ومع صعود العلم والتكنولوجيا المترافق مع انتشار التفاؤل بمستقبل البشرية، نُزِعَت هذه الأفكار من سياقها اللاهوتي وعُلْمِنَت. فغدت بذلك جزءًا من التراث النظري الذي يُدّعى قيامه على قوانين العقل والواقع وحدهما. 

الإنسان الغربي سيد المعنى 

 لما صار الإنسان وحده سيد الطبيعة وفقًا لفكرة التقدم الغربيّ، باستخدام عقله سيعرف قوانين الطبيعة ويمتلك مفاتيحها. فالطبيعة لا تختلف بالنسبة إليه عن آلة محكومة بقوانين العلة والمعلول، بل الكون بأكمله صار مفهومًا من خلال هذه الاستعارة الميكانيكية. أما العالم بذاته فلا يحوي أي معنًى. فالمعنى من صنع وإرادة الإنسان، ويعبّر عنه بإعادة تشكيل الواقع كما يحلو له.

ثم مع مطلع القرن التاسع عشر، امتدت فكرة التقدم إلى المجالين الصناعي والعلمي. كما امتدت إلى النظريات التطورية باختلاف أشكالها، وإلى المذاهب التاريخية التي حاولت تقديم صورة كاملة لمسيرة البشرية التقدمية. وفي هذه المرحلة بالذات ظهرت فكرة تمدين المجتمعات كافة، وجعلها تتبع مثالًا واحدًا لأنه يُعَدّ أفضل الأمثلة وأرقاها، ألا وهو مثال المجتمعات الغربية. 

وجدير بالذكر هنا أن أوربا طوال القرون الثلاثة الأخيرة لم تخلُ من الحروب والنزاعات الدموية. لكن مع قدوم القرن العشرين بكل حوادثه، تَلَقَّت فكرة التقدم ضربةً قاسية. فالحرب العالمية الأولى ظُنّ أنها ستكون «الحرب التي تُنهي كل الحروب». ومع الحرب العالمية الثانية تصوَّر الغرب أنَّ بقهر ألمانيا تُحَرر أوربا فتنتهي كل الشرور.

أوهن مآل الحربين تفاؤلية الغرب التقدمية المفرطة في سذاجتها، وأشعر الناس بافتقار الحياة إلى أي معنًى حقيقي وموثوق يمكن بلوغه في المستقبل. ففي سنين معدودة شهد هؤلاء الناس سحق الملايين منهم وإجاعة ملايين أخرى حتى الموت.

صمود فكرة التقدم رغم مثالبها 

هكذا ترجَّحَت مكانة فكرة التقدم بين المفكرين وتخلخل الإيمان القويم بها. لكن مع هذا ما زالت تحتل مكانًا دائمًا في حديث السياسيين، وتحولت إلى نوع من الاعتقاد العام الذي يصدق به الجميع أكانوا واعين بهذا أم لا. 

إذ دائمًا ما تترك مفردة «التقدم» على الأسماع وقعًا إيجابيًّا حتى لو جهل المرء معناها أو الغرض منها. بل يحدث أحيانًا أن يكفّ المرء عن الاعتقاد بهذه الفكرة، لكن يستمر بتفسير التاريخ وبالنظر إلى واقعه عبرها، لا سيما مع غياب فكرة أخرى يفسّر بها.

وهكذا:

مهما ساء الحاضر، يظل الماضي في نظره أسوأ وأقلَّ إشراقًا من الحاضر، بخاصة عندما يأخذ في الحسبان ما وفرته له التكنولوجيا المعاصرة. ويظلُّ مقتنعًا بقدرة البشرية اليوم على إنشاء عالم أفضل من أي عالم عاش فيه البشر من قبل. Click To Tweet

وكي يبرر لنفسه مثل هذا الاعتقاد، يشوّه صورة الماضي بأكملها ويحصرها في جوانب قليلة اعْتِيدَ التركيز عليها وتفسيرها بطريقة سطحية. 

إزاء هذا لا بد أن يسأل المرء نفسه، ولو مرةً واحدة، ولو لم يَحْرَ جوابًا: من أين لي مثل هذا الاعتقاد الواثق والراسخ، وعلامَ أَقَمْتُه، وكيف أبرره؟

نعلم جيدًا اليوم، مثلما عَلِم السابقون وعلّمونا، أن نشاطَ البشرية في عمومه ليس تراكميًّا. فلا شيء يضمن تمامًا انتقال معرفة السابقين إلى اللاحقين، مثلما لا يوجد شيء يحملنا على الوثوق تمام الثقة بأن هذه المعرفة ستُستَخدَم في المجالات الإنسانية من أجل خير الناس -بافتراض معرفتنا خير الناس الحقيقي- وصَوْن وجودهم بأعمّ المعاني. 

المصير بين الكمال والتدمير الذاتي 

في السنوات الأخيرة بتنا نعلم كيف لمضاعفة قوة الإنسان وامتداد هيمنته على الطبيعة أن زادت من قدرته على تدميرها. فانتشار التمدين في مناحي الحياة كافة كثيرًا ما يجيء على حساب الطبيعة لتتصاعد معه مشكلات جديدة على النوع البشري. وبذا أصبح إنزال الدمار بالإنسان اليوم أسهل من أي وقت مضى. 

وإن نظرنا مثلًا إلى برامج التنمية التقدمية سنجدها في غالبها تعني إعادة بناء المجتمعات على أساسين فقط: الإنتاج والاستهلاك، كأن عَيْش الإنسان كله يُلَخّص في هذين الأساسين. صحيح أن حوائج البشر ورغباتهم تظل متماثلة عبر القرون مهما تغيرت الظروف المحيطة، لكن نمط حياتنا المعاصر زاد من حدة هذه الحوائج والرغبات حتى غدا تحقيقها أصعبَ ونَيْلُها أَحْمَلَ للعواقب السيئة.

أما انتشار الرخاء وسهولة حصول البشر على موارد عيشهم فيعني زيادة أعدادهم بأضعاف أصبحت أخطر على حياة النوع البشري أكثر من أي شيء آخر. بل الرخاء نفسه آخذٌ في إضعاف أجساد البشر أمام الأمراض. 

ولعل أسوأ ما رافق فكرة التقدم ظنُّ الإنسان أنه قادرٌ تمام القدرة على خلق عالم خاص به وحده، بقوانينه الخاصة وبأي صورة يريدها. ولن يقع تقدّمه هذا إلا باستئصال نفسه من الطبيعة وعَدّ نفسه مستقلًّا تمامًا عنها. كأنّما التحضُّر في رأي الإنسان لا يتصاعد إلا كلما اتسعت المسافة بينه وبين الطبيعة والعالم الحيواني. 

بمثل هذا الظن يغدو الإنسان عدوّ نفسه أولًا، فينظر إلى كل ما يَحُدُّه عن بلوغ الكمال قيدًا ينبغي تحطيمه. وفي عملية التحطيم هذه يتنبه فجأةً لحقيقة أنه كان يساهم أيضًا في دمار نفسه.

التاريخالحضاراتالمجتمعالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية