هل المنتصر هو من يكتب التاريخ؟

يشوب فهمنا للتاريخ مغالطات نقتنع بها، يمر الكاتب حسين الإسماعيل على مفهوم التاريخ، ومن يكتبه؟ وكيف يكتب؟ والأهم في ذلك كله، كيف نفهمه؟

تحتل عبارة “التاريخ يكتبه المنتصرون” مركزًا متقدمًا على قائمة الكليشيهات الدارجة في أوساطنا الثقافية. لا شك أن المنافسة محتدمة بينها والكليشيهات الأخرى، كـ “الغرب عقلاني والشرق أسطوري”، أو “الموسيقا لا تقتل أحدًا”، أو حتى رفيقتها التاريخية الأخرى “التاريخ يعيد نفسه”.

تبدو العبارة واضحة ومباشرة؛ ليس التاريخ سوى ما يسطره المنتصرون، ما يدونه المهيمنون، ما تريده السلطة. لا سبيل للحقيقة وسط كل هذا التزوير والتحريف، بل إن معرفة ما حدث بالفعل أمرٌ محجوب عنا، وليس لنا إلا تجاوز هذا التاريخ وتركه وراءنا.

أزعم أن هذه الفكرة مغلوطة. كغيرها من الكليشيهات، ترسم عبارة “التاريخ يكتبه المنتصرون” صورة منقوصة عن الواقع، وترفع إلى درجة الحقائق والبديهيات ما لا يتعدى كونه وجهة نظرٍ محكومةٍ بظروفها وأغراضها. وبالإضافة لذلك، تبرر العبارة تقاعس الأفراد عن مقاربة واقعهم مقاربةً فكرية حقيقية تنطلق من إدراك تاريخانية ذلك الواقع.

سأحاول في السطور القادمة إثبات صحة زعمي عبر ثلاث محاور رئيسية. أولًا، سأستعرض بعض مفاهيم التاريخ المغايرة لما تفترضه هذه الكليشيه. ثانيًا، سأتحدث بشكل موجز عن عملية التأريخ بحد ذاتها متناولًا بعض الأمثلة التي تعقّد –بنظري- مفهوم التاريخ ذاته. وأخيرًا، سأطرح بعض الأفكار حول علاقتنا بالتاريخ.

تتشكل أبعاد الحياة اليومية نتيجة للصراعات السياسية

أبدأ إذن بمفهوم التاريخ عبر الإمعان في الكليشيه. يتضح أن العبارة تتضمن افتراضين مثيرين للجدل: أن التاريخ صنيعة السلطة السياسية المهيمنة في زمن ما (سواءً بشكل مباشر أم لا)، وأنه متعلق بتوثيق الأحداث من وجهة نظر تلك السلطة.

يختزلُ هذا المفهومُ التاريخَ في الكتابات حول تعاقب الأنظمة السياسية وما يرتبط بها، حيث يصبح التاريخ تسلسلًا لصعود وسقوط الحضارات، ومسرحًا لأباطرة وقادة الجيوش العظام، وإطارًا يصنف المجتمعات البشرية وفق علاقاتها مع القوى السياسية القائمة.

تتمثل إحدى نتائج هذا المنظور في التحقيب الكلاسيكي لما يسمى بالتاريخ الإسلامي (العصر الجاهلي، الدولة الأموية، الدولة العباسية، إلخ). بحسب هذا المنظور، تتشكل أبعاد الحياة اليومية نتيجة للصراعات السياسية. يمكن أن نجد مثالًا على ذلك عند محمد الجابري.

تكوين العقل العربي

في الفصل الثاني من تكوين العقل العربي، يشير الجابري إلى أن المثقف العربي اليوم ما زال “كما كان منذ (العصر الأموي) يستهلك معارف قديمة على أنها جديدة”. [تكوين العقل العربي، ص 45].

في هذا الاقتباس، يتحدث الجابري كما لو أن الظروف السياسية هي التي شكلت حالة الثقافة في ذلك العصر (يطرح فكرة شبيهة في الفصل الخامس أيضًا حين يتناول علاقة الثقافة الإسلامية والفقه وعلم الكلام بالسلطة السياسية).

ما الإشكال في مفهوم التاريخ السلطوي هذا؟ أوليست الحياة اليومية مرهونة فعلًا بالظروف السياسية؟ ألم يكن التاريخ على مر العصور أداة بيد الأنظمة السياسية لشرعنة وجودها وسياساتها وبالتالي خاضعًا لها؟ ألا يمكن القول أن هذا النوع من التأريخ يتطرق بالضرورة لكل الجوانب الحياتية المهمة في زمن ما؟

في الحقيقة، لا يمكن الإجابة على هذه الأسئلة بسهولة، ولو أردت التفصيل في كل واحد منها لخرجتُ عن أطروحة هذا المقال. لكني أعتقد أن التعريج على مفهوم (أو مفاهيم) التاريخ كفيلٌ بأن يوضح قصور هذا النوع من التاريخ وكونه جزءًا من صورة أكبر. بعبارة أخرى، أزعم أن جزءًا من مغلوطية “التاريخ يكتبه المنتصرون” يكمن في أنها تختزل مفهوم التاريخ في أحد أبعاده.

إذن، ما هو التاريخ؟

من الصعوبة بمكان وضع تعريفٍ شامل. ولذا، لا مناص من استعراض تعاريف وصفية مختلفة لعلنا نقاربه من زوايا مختلفة. يستفتتح هيرودوتوس أقدم كتب التاريخ المتوفرة قائلًا أن بحثه هذا توثيقٌ كيلا “تتلاشى الأحداث البشرية بفعل الزمن” [The Histories, p 3].

أي أن تأريخه مرتبط بتدوين ما جرى لكي تستفيد منه الأجيال القادمة. يمكن القول أن التاريخ هنا مرادف للماضي. يقدم ابن خلدون مفهومًا آخر. فالتاريخ بالنسبة إليه فنٌّ ظاهره أخبار الأيام والدول وباطنه علم بكيفيات الوقائع. [مقدمة ابن خلدون، ص 9-10]. أما عند هيغل، “فتاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية” [العقل في التاريخ، ص 88].

أي أن له اتجاهًا وإطارًا تدور الأحداث في فلكه. ويمكن أخيرًا الإشارة لما ذكره العروي، حيث يشير إلى أن لمفردة التاريخ معنيين اثنين، “مجموع أحوال الكون في زمان غابر ومجموع معلوماتنا حول تلك الأحوال”. [مفهوم التاريخ، ص 33].

هل رفعت هذه التعاريف بعض اللبس؟

هل رفعت هذه التعاريف بعض اللبس؟ بصراحة، لا أعتقد ذلك، بل لعلها زادت الأمر سوءًا. يجعل مفهوم هيرودوتوس التوثيقي الأحداثَ محور التأريخ، مجردًا إياها من أي تفسير أو ما شابه. يقوم ابن خلدون بالشيء نفسه تقريبًا، سوى أنه يضيف الفوائد والعبر كجزء من التاريخ.

يجعل مفهوم هيغل الغائي من التاريخ عملية لها مصيرها –إن صح التعبير-، حيث تُفسر الأحداث كجزء من تحقيق تلك الغاية (إدراك الحرية) دون أن يبدو أن للأفراد فاعلية حقيقة فيه. أما ما أورده العروي فقد أضاف إلى الحيرة بعدًا جديدًا؛ هل يمكن أن تكون هناك أحوالٌ كونية دون أن نمتلك معلومات عنها؟ (سأعلق على هذه المعضلة لاحقًا).

من الجلي أننا بحاجة لصورة أوضح عن مفهوم التاريخ، وهو ما سأحاوله الآن. المفهوم الذي سأتحدث عنه متعلقٌ بالتاريخ لا كمجموع أحوال الماضي، بل كصنعة، كفن، كمنهجيّة. هذا الاستثناء ضروري للممايزة بين أمرين: الحدث الموضوعي، والتاريخ الذاتي. هذه الممايزة تعني أن كل تاريخ بالضرورة ذاتي، وأنه لا يوجد نقل موضوعي للأحداث. أشير لهذه الفكرة من باب التشديد على أن التاريخ ينطلق دومًا من وجهة نظر معينة للموضوع المؤرخ له.

على كل حال، فيما يتعلق بالتاريخ كصنعة، كنت أميل شخصيًا لتعريف مارك بلوك له بوصفه “علم البشر عبر الزمن”[The Historian’s Craft, p 27]

أي أن موضوعه هو المجتمعات البشرية من خلال منظور زمني. لكنه –كغيره- يثير بعض الإشكالات: هل تأريخ الفلسفة جزء من مفهوم التاريخ هذا؟ ماذا عن نشأة الكون؟ عن تأريخ تطور العلوم؟ بالإضافة لذلك، من يحدد نقاط الابتداء والانتهاء؟

مفهوم التاريخ

للوهلة الأولى، يمكن القول أن هذه الأمور خارجة عن مفهوم التاريخ ومرتبطة بمجالات أخرى (تأريخ الفلسفة للفلاسفة، نشأة الكون لعلماء الفلك، وهكذا). بعبارة أخرى، يقتصر التاريخ على المجتمعات البشرية والتغير الظاهري فيها –إن صح التعبير- دون أن يتطرق لتفاصيل المجالات العلمية.

ولكننا بهذا الافتراض ندور في حلقة مفرغة: أليست العلوم جزءًا من المجتمعات البشرية؟ لم لا تكون موضوعًا للتاريخ؟ وإذا ما افترضنا أن هذا ممكن عبر ردّ تأريخ كل مجال للمتخصصين فيه، ما الذي سيتبقى للمؤرخين حينها؟ هل يمكنهم القيام بعملهم بمعزل عن السياسة والاقتصاد والفلسفة والدين وما إلى ذلك؟

لتجنب هذه الإشكالات، أو لمحاولة تجنبها على الأقل، أعتقد أن من اللازم طرح مفهوم يسهل مقاربة كل هذه الأسئلة بشكل متسق. ولذا، أطرح هذا المفهوم: التاريخ هو علم تغير البُنى البشرية. أعني بالبنى البشرية كل ما ينتجه وعي الأفراد، سواء كان هذا المنتج ماديًا أم متخيلًا.

بشكل عام، كل ما نعتقده عما حولنا نتاج وعينا. مهما كان مبحث التاريخ، فهو في نهاية المطاف عبارة عن وعيّ بشري بذاك الشيء. هذا يعني أن التاريخ يبحث دومًا في علاقة البشر بالموضوع المؤرخ له مع الأخذ بعين الاعتبار أنهما لا يوجدان مستقلين عن بعضهما. سأؤجل هذه النقطة لحين أتطرق لكون التاريخ بحد ذاته بنية بشرية، أما الآن فسأعود للتاريخ بوصفه علم تغير البنى البشرية.

يقوم هذا التعريف على ثلاثة أفكار رئيسية:

  • التاريخ علم، أي أنه محكوم ببحث ومنهجية وقصد.

  • التاريخ متعلق بالتغير، إذ أن التغير يشمل الزمن كإطار تدور فيه الأحداث، ويشمله كقوة من شأنها أن تتسبب في إحداث فارق –إن صح التعبير-.

  • يتمحور التاريخ حول البنى البشرية بتعريفها العام، سواء كانت هذه البنى ملموسة أو متخيلة.

أدرك أن المفهوم لا يزال غامضًا. وأدرك أيضًا أن التوغل في الأفكار المجردة لن يجعله أكثر وضوحًا. لذا، سأقوم الآن بالتعريج بشكل بسيط على عملية التأريخ نفسها لتقريب الصورة للأذهان.

هل تساءلت يومًا عمّن يكتب التاريخ؟

إذا لم تتساءل يومًا، عزيزي القارئ، عن كيفية كتابة التاريخ، فلعل الوقت مناسبٌ الآن لذلك. فلنحاول التساؤل حوله معًا. لو أردتَ كتابة تأريخ قريتك أو مدينتك، كيف ستباشر ذلك؟ ستبدأ البحث بالطبع عن المواد التاريخية التي كتبت عن منطقتك.

لكن هناك مشكلتان رئيسيتان: أولًا، قد لا يكون هناك مصادر تاريخية متعلقة بما ترغب الكتابة عنه، وثانيًا، إذا وجدتَ العديد من المصادر، ما الحاجة لكتابة تأريخ جديد؟ الإجابة على المشكلة الثانية أمر سهل: قد يكون لديك هاجس شخصي تود البحث عن إجابة عنه ومن ثم مشاركة الآخرين جوابك. لربما تود كتابة تأريخ مجتمعك قبل هيمنة التكنولوجيا وبعده، وهو موضوع يهمك لأنك عايشت الفترتين.

ولكن لجعل هذا العمل أكثر شمولًا، قد تقرر إجراء مقابلات مع كبار السن للتعرف على أسلوب حياتهم في السابق مقارنة بالوقت الحالي. لكنك في مرحلة ما ستتساءل ما إذا كانوا يخبرونك بالحقيقة كلها، أو ما إذا بدأت ذاكرتهم تخونهم وتخلط الأزمنة والأحداث. سيدفعك هذا التساؤل للمقارنة بين السرديات المختلفة ولمحاولة تفكيك أفكار أصحابها، أي أنك ستقارن شهادة فلان بعلان، وفاحصًا إمكانية إيجاد نقاط التقاء بينها.

المصادر والوثائق

بالإضافة لذلك، سيدفعك التساؤل للبحث عن وثائق قد تساعدك في استكشاف عالمهم عن كثب. فلو قال شخص ما أن أسعار الخبز كانت أقل بكثير مقارنة بالوقت الحالي، لا شك أن فاتورة –أو ما شابه- تحمل سعر الخبز ستكون ذات قيمة كبيرة بالنسبة إليك. ومن أجل التحقق من مسألة السعر مثلًا، لربما تحاول إجراء مقارنة بين قيمة العملة في الوقت الحالي وما كانت عليه في السابق.

ستكتشف ربما أن حربًا مع دولة مجاورة تسببت في ارتفاع أسعار الخبز، مما يثير فضولك للبحث عن الآثار الأخرى لهذه الحرب على مجتمعك والمجتمعات المحيطة به. ولحسن حظك، توصلت إلى ديوان شعريّ لشاعر مغمور، يتحدث في إحدى قصائده عن الأزمة الأهلية التي سببتها هذه الحرب في القرية، إذ بدا وكأن “النخب” اصطفت إلى جانب العدو المفترض.

ماذا كانت ردة فعل السلطات على هذا الاصطفاف؟ لا شك وأن الصحف الرسمية تحمل بعضًا من ردة الفعل هذه. قد ترميهم السلطة بالخيانة، أو العمالة، وقد تزعم أنهم ليسوا منتمين أصلًا للشعب الأبي، حيث أنهم نزحوا إلى المنطقة مؤخرًا أو ما إلى ذلك. أظن أن هذا المثال كافٍ لما أرغب بقوله. السؤال الذي أطرحه هنا: كم نوعًا من المصادر والوثائق تم توظيفها من أجل كتابة التاريخ في هذا المثال؟

لا يمكن التقليل من شأن المصادر التاريخية

صحيحٌ أنه لم يكن سوى مقاربةٍ بسيطة لما قد أتبعه شخصيًا، ولكنه يسلط الضوء على العديد من المصادر. ومن المهم الأخذ بعين الاعتبار أن هاجسي لكتابة هذا التأريخ مختلف بلا شك عن هواجس الآخرين، مما يعني أن المصادر التي سيلجؤون إليها قد تكون مختلفة تمامًا.

لا يمكن التقليل من شأن المصادر التاريخية. بشكل عام، يمكن القول أن المصادر تُقسم إلى ثلاثة أقسام:

  • مصادر أولية، وهي الوثائق التي أُنتجت في الزمن المراد التأريخ له (مفردة الوثيقة هنا عامة جدًا، وتشمل أي منتج بشري)

  • مصادر ثانوية، وهي كل ما كُتب أو أنتج باستخدام المصادر الأولية (ككتب التاريخ بشتى أنواعها)

  • ومصادر ثالثوية، وهي التي كتبت باستخدام المصادر الثانوية. [A pocket Guide to Writing in History, p 6-9].

هذا ما يتعلق بأقسام المصادر. أما في حال تناول أنواع المصادر نفسها، نجد أنفسنا أمام أنواع متعددة. فهناك السرديات والمذكرات، وهناك الأوراق الرسمية والصحف، وهناك المراسلات، والسجلات البيروقراطية، والأوراق الخاصة، والأعمال الأدبية، والعديد غيرها مما يمكن توظيفه بشكل أو بآخر في كتابة تأريخ معيّن. [The pursuit of History].

التاريخ ليس أحاديّ أو ثنائي الاتجاه

أخيرًا، وليس آخرًا، لا يمكن إغفال منظورين مهمين في مسألة التاريخ، وهما اللذان أسمتهما سارة مازا بنموذجي “من الأعلى للأسفل” و “من الأسفل للأعلى”. بشكل مختصر، يعني النموذج الأول أن عملية التأريخ تبدأ من الطبقات العليا (الحاكمة غالبًا) كما لو أنها ترسم اتجاه التاريخ. أما النموذج الثاني فهو على النقيض من ذلك، إذ أنه ينطلق من فرضية أن التغير في البنية البشرية يبدأ من الطبقات المسحوقة دائمًا قبل أن ينتهي بالسياسة. [Thinking about History, p13-15].

صحيحٌ أن سارة تتناول الإشكال الطبقي في هذين النموذجين وترفضهما، ولكنها تسلط الضوء عليهما لإثبات أن التاريخ ليس أحاديّ أو ثنائي الاتجاه، بل هو متشعب ومتداخل أكثر مما ندرك حتى وإن قصرناه على السياسة.

وقتما قررنا الخروج من إطار التاريخ-السياسة هذا، نجد أننا أمام العديد من الأعمال التي تساهم في رسم صورة أعمق عن المجتمع والبنى البشرية، مما يساعد في توسيع مداركنا. يقول بيتر ماندلر أن قيمة التاريخ الأخلاقية لا تكمن في أنه يعطينا دروسًا أو عبرًا، بل في إثراء مخيلاتنا بتجربات (أو خبرات) عن أسئلة وأجوبة معقدة في ظروف مغايرة لظروفنا. [History and National life, p145-147].

تتيح هذه الفكرة لي أن أذكّر بما قلته في المقدمة: قراءة الواقع تتطلب إدراك تاريخانيته، وفهم التاريخ يتطلب إدراك تاريخانية بُناه البشرية.

التاريخ كله من صنع المؤرخ

كنت أهدف من وراء كل هذا الاستطراد في مفهوم التاريخ وعملية التأريخ أن أبرهن على أن الموضوع يتعدى بساطة تصويره من منظور السياسة وحسب. إذا كان التاريخ متعلقًا بالتغير في البنى البشرية، فذلك يعني بالضرورة أن أي تاريخ ليس إلا منتجًا بشريًا عن موقف (أو وجهة نظر) بشرية.

تاريخ نشأة الكون هو في جوهره تاريخ موقف البشر مما يسمونه الكون. تاريخ فكرة ما هو في جوهره تاريخ وعي معين بظاهرة بشرية. قرأت مؤخرًا كتابًا رائعًا اسمه حقوق العزّل لسوزان بيرسون، وهو يؤرخ لتطور فكرة حقوق الحيوانات والأطفال في العصر المذهب بأميركا مبرهنًا على أن فكرة الحقوق هذه مرتبطة بالتغيرات في علاقة البشر بالحيوانات وعلاقة البشر ببعضهم عن طريق المؤسسات الاجتماعية كالعائلة والمنظمات الحقوقية وما إلى ذلك. لا مفر هنا من اقتباس العروي: التاريخ كله من صنع المؤرخ، والتاريخ “حقًا هو تاريخ البشر للبشر وبالبشر” [مفهوم التاريخ، ص 18-38].

لا يوجد تاريخ بلا مؤرخ، ولا يوجد موضوع تاريخ بلا أفراد، ولا توجد بنى بشرية بلا وعي. هل يمكن الآن العودة للأطروحة الرئيسية؟ أظن ذلك. بل في الحقيقة، أظن أن من الممكن الختام بإجابة على السؤال الرئيسي: هل يكتب التاريخ المنتصر؟ نعم ولا. أجيب بلا لأن التاريخ أكبر وأعقد وأكثر تشعبًا من أن يستطيع أي أحد مهما كان السيطرة عليه أو توجيهه.

المنتصر هو من يكتب التاريخ ولكن!

وأجيب بنعم لأن المنتصر بالفعل سيكتب تاريخًا، ولكن المهزوم سيكتب كذلك، وسيكتبه من لم يشارك في المعركة، ومن لا يعرف بحدوثها، ومن أراد التعبير عن ذاته، ومن كان يدون قائمة مشترياته المنزلية، وهكذا.

كما ذكرتُ في مقدمة المقال، قراءة الواقع تتطلب إدراك تاريخانيته، أي كونه استمرارًا لماضٍ ما في ذات الوقت الذي يكون فيه جزءًا لمستقبل على وشك الحدوث. كل ظاهرةٍ بشرية معقدةٌ، محاولة فهمها بمعزل عن الظروف التي نشأت وتطورت فيها أمر مستحيل.

أحد أبعاد التاريخ الرئيسية هو أنه محاولة لفهم الحاضر عبر فهم الماضي، أنه محاولة لإثبات أن ما نأخذه اليوم كمسلّمة كان غير موجود نهائيًا فيما سبق. لا يمكن فهم التاريخانية فعلًا دون امتلاك مخيلة تاريخية. أحد أسس هذه المخيلة إدراك أن التاريخ “يكتبه” الجميع، سواء كانوا واعين بذلك أم لا. وفي الختام أتساءل: هل يمكن كتابة ما لم نفهمه؟

الإنسانالتاريخالثقافةالسياسةالسلطة
مقالات حرةمقالات حرة