كيف يتجذر العنف في تعريف ذواتنا؟

يطرح سلاڤوي چيچك في كتابه «العنف: ست تأملات فرعية» (Violence: Six Sideways Reflections) تنظيره حول المستويات الثلاثة المتداخلة والآنية

في آخر دقائق فلم (Us) الذي يحبس الأنفاس، تسترجع آديلايد (أو آدي) مجددًا ذكرى الحدث الصادم الذي تعرضت له في طفولتها.

كانت عام 1986 في كرنفالٍ على شاطئ سانتا كروز بصحبة والديها. وبينما انشغل أبوها بإحدى الألعاب، استغلت آدي الفرصة للتجول وحدها كما تشاء. دخلت آدي بيت الرعب المليء بالمرايا، وأخذت تستكشف تفاصيله ببطء: أضواء خافتة وأصوات غريبة ومفاجآت لإخافة السائرين. 

فجأة انقطعت الكهرباء، ووجدت آدي نفسها في مكان شبه مظلم خلا بعض الأنوار المتسللة للداخل والإشعاع الأحمر للوحة باب الخروج. أخذت آدي تصفّر لتهدئة نفسها، وهي تخطو حذرة وشعور الخوف المتسلل لم يغادرها بأن ثمة خطب ما. ببطءٍ استدارت، لتكتشف أن ما خالته في بادئ الأمر انعكاسًا لصورتها في المرايا الكثيرة لم يكن كذلك، بل كان نسخة أخرى منها. 

قبيل هذا المشهد الختامي، سبق واستحضرت البطلة هذه الذكرى مرارًا، وبدا للمشاهد أنه ملمٌّ بعواقب ما حدث وبآثار الصدمة التي تعيشها آدي حتى الحاضر. غير أن الجزء المكبوت من الذكرى لم ينفرج إلا في نهاية الفلم. ويتضح أن من اعتقدناها آدي عبر كل الأحداث الدموية، لم تكن إلا النسخة التي تمكنت من خطف آدي الأصلية حين تلاقتا في بيت الرعب. ثم حبستها في دهاليز العالم السفلي الذي كانت النسخة تعيش فيه.

طيات هذا المشهد كفيلة بأن يعيد المشاهد حساباته فيما يتعلق بتفسير أحداث الفلم والمعاني المستبطنة برمزياته. بل أنَّ لا مناص من إعادة الحسابات، خصوصًا مع تركيز الفلم منذ مشاهده الأولى على فكرة أنّ ما قد يبدو لنا صدفةً، قد لا يكون كذلك فعلًا. 

بين العالمين السفلي والعلوي

كانت الحكومة قد أجرت تجربة استنساخ شبه فاشلة. هدفت إلى استنساخ الأفراد لخلق طبقةٍ تخترق نسيج المجتمع الأميركي وتُمكّن الحكومة من إدارته والتحكم فيه بشكلٍ أفضل. وإذ نجحت التجربة في استنساخ أجساد الأفراد، فقد باءت محاولة استنساخ أرواحهم بالفشل. والنتيجة جسدان مختلفان يشتركان في روح واحدة. 

عطفًا على فشل التجربة، زجت الحكومة بالنسخ في أنفاقٍ تحت الأرض، وامتنعت عن استخدامها في التحكم بالمواطنين كما اعتزمت أساسًا. صارت النسخ تعيش إذن عالمًا سفليًا ينفصل فضاؤه الفعلي عن العالم العلوي. لكن اشتراك الروح بين الأصليين والنسخ ظل على حاله، مما جعل القاطنين تحت الأرض خاضعين في تحركاتهم وتصرفاتهم بما تُمليه عليهم أجساد الأصليين. 

هذا يعني أن النسخ لم تمتلك حرية الإرادة في تصرفاتها إطلاقًا. بل كانت تحاكي أولئك الذين بالأعلى دون أدنى سلطة أو قدرة على الخروج من هذا النطاق في بادئ الأمر. ومن هنا يمكن فهم تسمية النسخ بـ«المربوطين» في سياق الفلم.

ظل كل شيءٍ على ما هو عليه حتى لحظة الاستبدال. اللحظة التي قابلت فيها آدي النسخة آدي الأصل، وتمكنت من خطفها وحبسها تحت الأرض ومن ثم الصعود للعالم العلوي وعيش حياةٍ جديدة. للمرة الأولى، تمكنت نسخةٌ من الاستقلال عن أصلها، وعاشت حياةً «طبيعية» في عالمٍ لم تكن تنتمي له.

في الوقت نفسه، ظلت آدي الأصلية تراكم أحقادها على مدى ثلاثين عامًا لأجل الثورة والانتقام والعودة لتقلد نصاب حياتها في الأعلى. وقد استعانت آدي في ثورتها بالمربوطين وقدراتهم وبما تجمع في قلوبهم من حقد على الآخرين.

وهكذا يسير الفلم حتى الحاضر الذي تتحقق فيه نبوءة الانتقام. تنبثق النسخ من أنفاقها وعالمها السفلي بغية فك الارتباط، بغية قص حبل الإخضاع الروحي حرفيًا ومجازيًا. نتتبع عبر المشاهد ملحمةً من الرعب تلاحق فيها آدي الأصل وعائلتها المنسوخة نظراءهم من قاطني العالم العلوي.

مستويات العنف الثلاثة

يطرح سلاڤوي چيچك في كتابه «العنف: ست تأملات فرعية» (Violence: Six Sideways Reflections) تنظيره حول المستويات الثلاثة المتداخلة والآنية من العنف. ثمة أولًا ما يمكن تسميته بالعنف الذاتي: العنف الصادر عن فاعلٍ يمكن تمييزه وتحديده. أي حينما يُقدم شخصٌ على قتل آخر، فهذا عنفٌ ذاتي يمكن تحديد فاعله.

سلاڤوي چيچك / Doro Spiro

وثمة مستوى ثانٍ يمكن تسميته بالعنف اللغوي أو الرمزي: عنفٌ مرتبط باللغة والنظم الرمزية عمومًا. ويمكن إدراج التصنيفات العرقية أو حتى الممايزة بين كون فردٍ ما شهيدًا أو قتيلًا ضمن إطار العنف الرمزي. إذ يُبنى على الرمز المستخدم في التوصيف عواقب تُغيّر من علاقتنا مع ما يُمارس عليه العنف. 

أما المستوى الثالث والأهم لأغراض هذه المقالة فهو العنف النظامي أو العنف الموضوعي. يمكن تعريف هذا المستوى بكونه العنف الناجم عن طبيعة عمل الأنظمة الاقتصادية والسياسية بشكلٍ رئيس. بعبارةٍ أخرى: يتولد العنف «طبيعيًا» بحكم آلية عمل هذه الأنظمة، أي أن الأنظمة تولد الظروف التي تجعل من العنف حتميًّا إن صح التعبير

يقول چيچك إن آلية عمل المنظومة الرأسمالية نفسها تولد عنفًا لا يمكن فعليًا الإشارة للذوات الفاعلة من ورائه. فمن المسؤول عن إفقار الشعوب أو تدمير المعيشة أو خلق طبقاتٍ متصارعة ومتناحرة؟ في كل محاولة للإجابة على هذه الأسئلة، ندرك غياب الفاعل الذاتي الجليّ. ونرتكز في الوقت نفسه على تفسيرات تحاول تبيان دور المنظومة نفسها في خلق ظروفٍ تؤدي لكلٍّ من العنفين الذاتي والرمزي. 

التقاطعية في بنيوية العنف

يؤكد چيچك بأننا حين نتمكن من تمييز أحد أنواع العنف المذكورة، قد نغفل عن تمييز ما يكتنفه المشهد من تداخلات وتعقيدات. ولذا علينا ألا ننجر وراء محاولات القوى المختلفة لقولبة أمرٍ ما ضمن مستوى من العنف وتجاهل تقاطعات المستويين الآخرين. فكما يشير چيچك أيضًا، اختزال المشهد في مستوى محدد من العنف يعني تبني منظورٍ يُضلنا عن فهم الواقع.

يمكن إعادة صياغة هذه الفكرة على ضوء ما يطرحه تشارلز رايت ميلز في كتابه «المخيال علم-الاجتماعي». من جانبٍ أول، يؤكد ميلز على ضرورة امتلاك الباحث الاجتماعي مخيالًا يمكّنه من الخروج من ضيق أفق اليوميّات تجاه قراءة الظواهر الاجتماعية.

إذ بينما تبدو اشتغالاتنا المختلفة نتيجةَ قراراتنا وتطلعاتنا المباشرة، يشير ميلز إلى كون هذه القرارات والتطلعات بحد ذاتها جزءًا من منظومة اجتماعية. وهذه المنظومة تصيغ لنا أبعاد ما هو متاح، دون أن نستشعر بالضرورة أثرها.

يستحيل إذن فهم حياة الأفراد دون الإلمام بالأبعاد الاجتماعية، كما يستحيل فهم بنية وتاريخ المجتمع دون تقصي ما يعيشه أفراده. ومن هنا تأتي أهمية تحليل حوادث العنف من زاوية تغلغلها في بنية النظام القائم ما دامت متفشية ومنتشرة على نطاقٍ واسع. وفي حالة فلم (Us)، لا يمكن نسب الجرائم لرغبات النسخ الفردية في القضاء على الأصليين كما لو أنها مجردة مما أفرزته ظروف تشكّلها وانتشارها.

كيف يتولَّد العنف   

ما الذي يعنيه كل ذلك بالنسبة لفلم «Us»؟ أو كيف يمكن لنا توظيف تحليل العنف الآنف ذكره في فهم حبكته ومعانيه؟ ثمة ثلاث نقاط رئيسة تجعل من هذا التحليل مجديًا. أولًا، شكلت الحكومة طبقة المربوطين بدوافع سياسية في المقام الأول. أي أن هذه الطبقة المعدمة نتاجٌ مباشر للنظام السياسي. 

إضافة لذلك، فظروف المربوطين الحياتية والوجودية ليست بأيديهم إطلاقًا، إذ يفتقرون فعليًا لأي مقومات تمكنهم من التصرف بدافع ذاتي وحرية بسيطة. وبالتالي لا يمكن افتراض أن مشاعر الحقد والكراهية المتولدة لديهم (والتي أدت لانفجار العنف والقتل) معزولةٌ عن الحيثيات التي وجدوا أنفسهم فيها، وبمعزلٍ عن الطبقة المسؤولة عن وجودهم وعن سوء أحوالهم. 

بعبارةٍ أخرى: تولّد المنظومة بحد ذاتها عنفًا ذاتيًا لا يمكن فهمه دون تتبع جذوره في آلية عملها.

ثانيًا، بتطرّفٍ، يجسد الفلم شكل الحياة حين تعيش طبقةٌ ما دون أن تعبأ بتبعات نمط حياتها على الطبقات الأخرى. تعيش طبقة المربوطين في فضاءات زمانية ومكانية تقررها طبقةٌ تتبوأ منزلة أعلى منهم على السلم الاجتماعي. من جانبٍ أول، يسهم هذا التقرير في اتساع الفجوة بين الطبقتين بمرور الزمن. ومن جانبٍ ثانٍ، تجد النسخ حريتها في فك هذا التقرير والارتباط معًا.

«الآخر» هو «أنا» 

تتعلق النقطة الثالثة والأخيرة بالعنف الرمزي الماثل في الممايزة بين الذات والآخر، وهي الثيمة التي أبدع مخرج الفلم جوردان بيل في تجسيدها. صحيحٌ أنه تطرق مرارًا لكون الفلم نوعًا من النقد لحالة المجتمع الأميركي وبنيته المستندة إلى التمييز العرقي، لكن ما يحتويه من نقدٍ لتشكيل صورة الآخر يتجاوز نطاق المجتمع الأميركي وحده. 

ذلك أن جوردان قدم نقده لمقاربة الذات-الآخر على أساس اعتباطية الممايزة بينهما. أو على أساس تأصّل هذه الممايزة في كونها «مبنى اجتماعيًا» (social construct) له سياقاته الاجتماعية والاقتصادية.

كل تعريفٍ للآخر هو في الآن نفسه تعريفٌ للذات، إذ لا يوجد أي من المفهومين بمعزلٍ عن الآخر. أي في اللحظة التي أصيغ فيها ماهية الآخر، فأنا أصيغ في الوقت نفسه ماهيّة الذات. Click To Tweet

وليست هذه الفكرة إشكاليّة تمامًا، بل قد تكون بديهية لدى العديد منا. لكنها في الفلم تخضع لتمحيصٍ من زاوية مغايرة بعض الشي: الآخر هنا ليس «آخرًا» بالتصور الشائع ضمن الثنائية المذكورة، بل فعليًّا هو «أنا». 

تكمن أهمية تجسيد بيل لانفصال الجسدين وتشارك الروح بينهما في هذه الإشكالية. فمن خلال الأحداث، يجبر المشاهد على التساؤل عن جوهر التمييز وحيثياته بحكم أن الذات والآخر مرتبطان روحيًا.

تبعات طبعنة التفرقة

تجدر هنا الإشارة للمحةٍ أخيرة حول ثنائية الذات والآخر في الفلم. بعد اكتشاف أن آدي التي كنا نتتبع الأحداث من منظورها طوال الفلم نسخةٌ وليست أصلًا، فلا مناص من استحضار العديد من تفاصيل الفلم التي هيأت لنا عكس ذلك. فعلى سبيل المثال، تستطيع آدي النسخة الحديث بطلاقة، على خلاف النسخ الأخرى غير القادرة إلا على إطلاق أصوات حيوانية أو بدائية. 

ويتضح أيضًا من خلال الفلم أن النسخة قادرةٌ على عيش حياتها بشكلٍ طبيعي كأنها لم تنتم يومًا للعالم السفلي وظروفه المزرية. كل هذا دافعٌ للتأمل حول تبعات الظروف الاجتماعية التي نعيش في كنفها أولًا، ودليلٌ على ضخامة الدور الذي يلعبه التكييف الاجتماعي في تحديد آفاق تطلعاتنا ومقدراتنا.

يقدم بيل حياة النسخة «الطبيعية» دليلًا على مغلوطية التصور الذي يرى أن الفرق بيننا وبين الآخر فرقٌ جوهري، وبذا يبرر الظروف المعيشية السيئة للجماعات الأخرى. ما دام واقع البشر يُربط بجوهرٍ بيولوجي كامن في طبيعتهم، أو بثقافةٍ يزعم أنها تحتّم أشكالًا محددة لكره الحياة أو ما شابه، فالنتيجة دومًا تعني الانتصار لسلطةٍ تمكنت من إخفاء نظاميّة عنفها. 

قبيل انتهاء الفلم بثوانٍ، ما إن تنته آدي من استحضار الذكرى كاملةً بلا كبت، نجدها وابنها جايسون يحدقان في بعضهما البعض. عندئذ قرر جايسون أن يلبس قناع الوحش الذي كان معلقًا على رأسه أغلب أوقات الفلم وكأنه يخبئ ناظريه عن أمه. 

ويمكننا من خلال هذا المشهد القصير افتراض أن جايسون اكتشف كون والدته نسخةً وليست أصلًا. لكنه يدفعنا أيضًا للتأمل فيما إذا كان اختباؤه نابعًا من إدراكه أن العنف متجذّر، وسيظل يلاحقهم جميعًا بشكلٍ أو بآخر، ما دامت المنظومة على ما هي عليه.

العنفمراجعات الأفلامالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية