أن أقف أمام المرآة وأحب صورتي
كبُرت وبدأت علاقتي مع صورة جسدي في المرآة بالتغيّر، إما بسبب تحولات النمو التي لم أستطع تجاهلها أو بسبب الجوّ العام حولي
على مرآة الزينة الضخمة في غرفتي صورةٌ صغيرة عمرها ثلاثون سنة أقف فيها متزنة على قدم واحدة في رقصة ارتجالية.
علَّقتُ الصورة حتى تذكرني بعفوية هذه الطفلة وانطلاقها وحبّها لذاتها كيفما كانت. الطفلة في الصورة، في السابعة أو أكبر بقليل، كانت تأكل إذا جاعت وتنام في أي مكان تستلقي فيه. ترقص وتفرح وتغنّي وتعبر عن نفسها بصدق دونما خوف أو تردد. وهذا ما يعنيه أن تعيش في اتحاد جسدي وروحي.
أبعاد الصورة في المرآة ليست حقيقية
كبُرت وبدأت علاقتي مع صورة جسدي في المرآة بالتغيّر، إما بسبب تحولات النمو التي لم أستطع تجاهلها أو بسبب الجوّ العام حولي. فرفيقات المرحلة المتوسطة بدأن يتعرّفن على عالم الحِميات العجائبي، واقتحمته معهن على مضض لمجرد المشاركة. وإذ أستكشف للمرة الأولى أثر الحرمان والجوع على روحي قبل جسدي.
وأصبحت رحلات التسوق العائلية تضغط على صحتي العاطفية، وتنتهي غالبًا بالبكاء أو التوتّر، لأن والدتي ما كانت لتجد لي ملابس مناسبة في ممرات المراهقات أو السيدات. كنتُ ما زلت عالقة بين جسديْ الطفلة والمرأة، ورسّخ هذا التأرجح فكرة انفصالي عن جسدي والعيش بلا انتماء له لسنواتٍ قادمة.
واليوم، عندما أتأمَّل طفولتي، أتذكر أنه لم تكن في غرفتي مرآة كاملة أعيش أمامها عذاب الوقوف اليومي وتأمل الطارئ الجديد. ولا ميزان مضبوط أتابعه بقلق بينما يصعد مؤشره ويهبط.
لم تكن والدتي -المرأة الأولى في حياتي- مهووسة بوزنها أو بصورتها في المرآة. كانت تتجمل بالقدر الذي تتطلبه حياة سيدة في منتصف الثلاثينيات. أما ملاحظاتها التي تشاركها معي حول جسدي وقياساتي، فكانت نابعة من خوفها على صحتي. لكن تلك الملاحظات وغيرها من المؤثرات تجمعت في مكان ما وبدأت تنشب مخالبها في ثقتي واهتمامي بنفسي.
أيامي الجيدة والسيئة في علاقتي بالمرآة
حظيت بأيام جيدة كثيرة بعد مغادرة المرحلة الثانوية، وأظن السبب يعود إلى خليط من عدة أمور من بينها دائرة الصديقات الجديدة التي انضممت لها -مؤقتًا- وكنّ في تصالح وسلام كبيريْن مع أجسادهن. حينها توقفتُ عن تجربة الحميات وانشغلت كثيرًا بالتحصيل الأكاديمي الذي رفع معدل الحرق في جسدي، وبدأت القياسات بالتغير.
في أيامي الجيدة، وجدتني لا أفكر كثيرًا في ملابسي ولا أقضي ساعات الصباح في حيرة لاختيار ما أرتديه. ولا أعتذر فيها عن الخروج ورؤية الآخرين، ولا تؤثر فيّ أي تعليقات تخص مظهري.
أما أيامي السيئة، فكانت تلقي بي في هاوية بلا قاع، ومقياسي كان تجاهل انعكاسي في المرآة. إذ تضطرب علاقتي بجسدي لدرجة أني لا أعود أهتم بالتطلّع إليه أيامًا كثيرة، وعلى عجل أتزين في دقائق سريعة لا أنظر فيها لما هو أدنى من عنقي.
اختزلت علاقتي بجسدي برقم بطاقة المقاس، ولم أتعلم أي طريقة أخرى غيرها حينذاك. لستُ هنا للحديث عن علاقتي بالغذاء، فهذه قصة تُروى في وقتٍ آخر، لكن الطعام كان أحد منافذ الانتقام أو الاحتفاء، اعتمادًا على ما إذا كنت في سلام أو حرب مع صورتي.
الشرارة التي تطلق المواجهة
تمثلت شرارة أيامي السيئة في حضور المناسبات الكبيرة والأعياد وأي مواقف جديدة تتطلب التعرف على أشخاص جدد أو تجذبني بقوة خارج منطقة راحتي. العمل في وظيفة جديدة أو تقديم محاضرة أو السفر؛ كلّها كانت تضعني بمواجهة مع جسدي. وكأن تلك الأيام مصابيح مشعّة تلقي بضوئها فجأة على المنطقة المظلمة حيث أدفع بعيدًا بمشكلتي معه.
وتشمل قائمتي أيضًا منصات التواصل الاجتماعي. فتابعتُ فيها مئات الحسابات التي أشعلت بداخلي مشاعر المقارنة ولوم الذات، حتى تخففت مؤخرًا من متابعتها. وتوقفت عن الركض خلف الصور اللامعة المفلترة وقررت اختيار كلّ من ينقل صور حياته وعاداته اليومية العفوية والصادقة.
حتى الصديقات اللواتي أحطت نفسي بهن وقضيت جلّ وقتي معهن، لاحظت أثر حديثهن عليّ. كنا نتحدث دائمًا عما يمكننا تغييره في ملامحنا وأجسادنا والتقنيات الأحدث، لكن ما تحدثنا قط عن القبول والرضا والحبّ اللامشروط.
في اللحظة التي تقدح شرارة النقد الذاتي في رأسي، يبدأ الصوت الصغير بالحديث: لم تبذلي جهدًا كافيًا على نفسك، ضعي قيودًا أكثر، اتبعي نظام حرمان أشبه بالعقاب. ويقول الصوت أيضًا: ما دامت «سين» من الناس التي تتأفف من شكل جسدها وقررت اتباع حمية قاسية، فماذا عني أنا؟ وهنا تبدأ المشكلة، عندما أبدأ بتحوير أي حديث في المجموعة إلى سياق شخصي.
فن الإصغاء إلى جسدي
بدأت علاقتي بجسدي في التحسن عندما زاد تركيزي على ما يقوله لي. أصبحت أكثر تعاطفًا وانتباهًا لما يطلبه منّي. وإذا اخترت تناول الطعام حتى التخمة بكامل وعيي، لا أعود لأوجّه سهام غضبي نحوه، بل أقول: في المرة القادمة سنتصرف على نحو أفضل.
قادني هذا التواصل للامتنان لهذا الجسد الذي أعيش فيه، وينقلني من مكانٍ لآخر ويعالج نفسه وحواسه، وسيلتي في ممارسة الحياة. وهكذا بتُّ أقدّر جسدي بالتركيز على وظيفته لا شكله الخارجي.
كانت الخطة مجهدة في البدء: النظر لنفسي في المرآة والتركيز فقط على ما أحبه فيه، ومقاومة الالتفات تجاه ما يزعجني. لكن مع الممارسة، أصبحت أطيل النظر مع ابتسامة حب، وأراقب أفكاري ونظراتي قبل أن تطيش وتنطلق نحوه سهامًا ناقدة ولاذعة. Click To Tweet
إلى جسدي، مع كل الحب
ساعدتني قائمة كتبتها عن الأشياء التي أحبها في جسدي المادي والروحي على تقبل صورتي من جديد. أحب عينيّ، أحب طولي المتوسط، أحب تجعيدات شعري التي ورثتها عن جدتي، واستدارة كتفيْ والحركة المتوازنة لأقدامي -ما لم تكن مصابة- وأحب صبري وأحب فضولي الذي لا ينطفئ. تمتد القائمة وتزداد عناصرها كلّما فكرت في نفسي بطريقة مختلفة.
أصبحت تماريني الرياضية منسجمة مع ما يحبّه جسدي، فتارة أمارس المشي السريع أو الركض، وتارة أخرى الرقص. وأحيانًا أتمطى لساعات أستمع فيها إلى نبضي، فتهدأ أفكاري. وفي طريقي، تخلصت من خزانة مليئة بالملابس والتقليعات التي لم تعد تشبهني أو تلك التي بارتدائها تنطلق شرارة النقد بلا تحكم مني أو انتباه. وتقبلتُ مرونة التغيير واستمراريته وكونه جزءًا من الحياة والعمر والمرض والصحة والفقد والملل، وكلها ستترك أثرها عليّ.
اليوم؟ لا أؤجل الاحتفاء بهذا الجسد في انتظار تحوله إلى هيئة مختلفة، فارتداء الملابس الجميلة والتزيّن ينعشان الروح. ودائمًا ما أذكر نفسي أن لمشاعري نحو جسدي أن تتحسن حتى وإن لم يتغير فيه شيء، حتى وإن لم أفقد عدة كيلوقرامات.
أؤمن باختلاف البشر في صورهم وأحجامهم، فكلٌّ منا جميلٌ بصورة متفردة ولا داعي لأن نكون جميعًا نسخًا متطابقة من صورة واحدة. وأؤمن أيضًا بأن قبول الجسد لا يعني أني سأكون دائمًا راضية عن نفسي أو أنني سأتخلص من عدم الأمان والشكوك. لكني آمل أن أصل جسدي وأنا لنقطة تغلب فيها مشاعر الحب والثقة على التوتر والقلق بيننا.