كيف أصبح كل شيء قصة
يعجز إنسان اليوم عن تشكيل تصور متماسك ومتسق عن ذاته بفعل التشظي الذي طال الفرديّ والجماعيّ، فتنشأ «السرديات الذريَّة»....
شهد الوقت الراهن، بفضل العولمة التقنية، عودةً غير متوقعة للشفاهية. إذ دفعت مساهمة التقنية في التاريخ الثقافي البشري معلّقين، مثل والتر أونق، إلى وصف العودة بما أسموه «شفاهية ثانوية»، أي عودة الشفاهية بوصفها وسيط التواصل البشري البدائي بعد بضعة قرون من تسيّد الكتابة والطباعة. لكن بأي صيغة عادت؟
اندثار «الحكّاء» الإنسانيّ
كان المفكر الألماني والتر بنيامين قد نعى في أعقاب الحرب العالمية الأولى الحكايةَ بوصفها الشكل النموذجي لما هو شفهي. وذلك حين قابل بين اندثار الحكاية وصعود الرواية في مقالته الشهيرة «الحكّاء»، التي ركزت على تغيّر جذري في أشكال التواصل الاجتماعي.
وجادل فيها بأن الحكاية وثيقة الصلة بالنزعة إلى مشاركة الخبرة البشرية، نزعةً لاحظ بنيامين آنذاك أنها آفلة، وبدأ يحلّ محلها عصر المعلومات والفردانية.
هكذا إذن، أعقب السياقَ الجمعيَّ الذي حدثت فيه الحكاية سياقٌ آخر فائق الفردانية، أخذت فيه أشكال الأدب والفن الحديثة دور الحكاية. وفُقدت الفورية والمباشَرة اللتان اتسمت بهما تجربة الحكاية، حيث لا يُعزل الحكاء عن المستمع، بل إنّ واحدهما يصبح الآخر في أية لحظة، على خلاف العلاقة بين الروائي والقارئ.
لكن الشفاهي عاد، على عكس ما طرح بنيامين، وإن كان الإدراك المتماسك والمتسق للذات وما سواها قد ضاع مع إنسان اليوم. وختمت عودة الشفاهية، في نظر أونق وغيره من المعلقين، فصلًا من فصول «اغتراب الإنسانية عن وسيطها». بيد أن الحال تغيّر كثيرًا وبتسارع، إذ ظهرت أشكالٌ من التواصل جديدة تسترعي الاهتمام.
منها أن القصة أصبحت الشكل المفضّل للتواصل القائم على تسريد الذات أمام الآخرين. لقد هيمنت القصة على التعبير حتى غدا كل شيء قصة. ففي الإعلام، استُبدل الخبر بالقصة، وكذلك في الإعلان والتسويق، والشيء نفسه يحدث فيما يخصّ منشورات الوسائط الاجتماعية مثل فيسبوك وانستقرام وسناب شات وغيرها.
يمكن القول إن هذه الهيمنة أخذت ثلاثة مناحٍ شديدة الصلة ببعضها البعض. أول تلك المناحي أن كل ما ينتجه الفرد اليوم ويعبّر عنه، لا سيما عبر الوسائط الاجتماعية، أصبح قصة قابلة للمشاركة مع الآخرين. وثانيها، أن الفرد أصبح قادرًا على إنتاج قصص ومشاركتها الآخرين على مدار الساعة.
أما ثالثها، فأن الغرض من الحكاية لم يعد -في الأغلب- تمرير خبرة إنسانية من طرف إلى آخر، بل أصبحت أغلب القصص تصبّ في قنوات السوق، بعد أن اقتصر تركيزها على وظيفتها النفعية التسويقية.
ليس هناك ما هو خارج القصة
لعل أهم ما حدث في هذا الشأن يمسّ مفهوم القصة ذاته. إذ استُبدل بالتصور التقليدي للقصة تصورٌ جديد أشمل، تغدو في ضوئه كل نشاطات الفرد سرديات صغيرة.
فمن جهة اتسع مفهوم القصة وما عاد يتطلب الركيزة الأساسية في القصّ، أي السردية الناجمة عن تعاقب أكثر من حدث. وكان من نتائج هذا الاستغناء استنطاق الجماد، من مثل الصور الجامدة والإيموجيات، وبثُّ روح جديدة فيها تجعل منها قصة محتملة.
واليوم، أكثر من أي وقت مضى، نرى كيف أُسبغ وصف القصة على كل شيء وخُلع عليه قالبها. وإن كان جاك دريدا قد قال «ليس هناك ما هو خارج النص،» ففي وسعنا القول إنه لم يعد هناك ما هو خارج القصة.
يمكن وصف هذا التغيّر بأنه «تذرير» لتجربة الفرد عمومًا، وللشخصية الحكّاءة على وجه الخصوص. إذ أدى التسريد المفرط لحسّ الفرد وحركته إلى وفرة سردية فائضة عن الحاجة، كاشفًا عن مفارقة جديدة في السياق المعاصر. يعجز إنسان اليوم عن تشكيل تصور متماسك ومتسق عن ذاته بفعل التشظي الذي طال الفرديّ والجماعيّ، فتنشأ «السرديات الذرية».
كيف يمكن فهم هذا التشبث بالقصة وتبريره؟ أرى أنها محاولة الفرد إيهام نفسه بأن كل ما يقوم به له معنى ويستحق أن يروى. في هذا السياق تناط بالسرديات الذريَّة الوفيرة مهمة إضفاء قيمة الاتساق على الفرد، وإنْ كانت واهية.
قصص على مدار الساعة
لم يقتصر التحول في مفهوم الحكاية والقصة على اتساعه وشموله أوجه النشاط البشري فحسب، بل كشف فوق ذلك عن علاقةٍ جديدةٍ مع الزمن. فلئن كانت القصة في شكلها التقليدي تحدث وتُؤدَّى في إطار مستقطَع من الحياة اليومية يمكّننا من فهم هذا النشاط وتحليله، فإنها مع تحولها لنموذج «السرديات الذريَّة» اليوم تخلّت تمامًا عن الحاجة إلى ذلك الإطار.
ويعود السبب إلى أن الزمن مُطّ حتى أمسى كل زمنٍ هو زمن القصة. وبذلك فُرّغ الزمن، الذي طالما كنّا نستوعبه من خلال السرد، من محتواه. ابتلعته القصة بالكليّة واستحال الفرد ساردًا في كل لحظة.
ويذكرنا وجود سارد قادر على القصّ على مدار الساعة بما طرحه جوناثن كرَيري في كتابه «24/7: الرأسمالية المتأخرة ونهاية النوم» (24/7 Late Capitalism and the End of Sleep) حين جادل أن الرأسمالية المتأخرة أوجدت مستهلكًا مستعدًا للاستهلاك أربعًا وعشرين ساعة في اليوم.
لم تعدْ عمليات البيع والشراء محدودة بوقت معين، فلا محلات تجاريةً تُقفل كما كان الحال سابقًا، بل أمسى السوق يعمل على مدار الساعة. هذا المستهلك هو صنيعةُ سعيٍ حثيثٍ من الرأسمالية للقضاء على الوقت وتدمير الحياة اليومية بتدمير أشكال المجتمع وفرص التعبير السياسي لتكون الاستهلاكية هي السلوك الطاغي.
في هذا السياق، حيث تآكل الفرق بين الليل والنهار، والضوء والظلام، والعمل والراحة، نجد الفرد صانع القصص لا يكلّ ولا يملّ. فهو من جانبه مستعد لسرد ذاته أمام الآخرين في أية لحظة من اليوم، والآخرون من جانبهم موجودون على الدوام لاستقبال ما يسرد.
سياسة التحريض على السرد
وهكذا أصبح الفرد محرّكا سرديًا لا ينطفئ، تستدرجه كل فرص التواصل مع الآخرين التي توفرها التقنيات الجديدة إلى سرد ذاته. تحرضه علامة الـ«أونلاين» على تواصل مع الآخر هو في الواقع سردٌ لا ينقطع للذات. وما يثير الاهتمام أن أكثر ما يسمى قصة في الوسائط الاجتماعية زائلٌ وعابر ويدمّر نفسه بعد أربع وعشرين ساعة من مشاركته.
وتحرض سرعة الزوال هذه على سرد المزيد من القصص. وتساهم مع ثنائية السرية والخصوصية من جهة، والكشف والفضح من جهة أخرى، في خلق جدلية إيروسية تستثير ما تُحْجِم الذات عن الالتفات إليه في سياقات أخرى.
تلك الجدلية محسوبة بدقة من شركات الوسائط الاجتماعية التي تعمد إلى الإبقاء على الحماية ضعيفة من أجل تشجيع تبادل المعلومات. ولهذا لا يخلو سلوك الأفراد، حين يعرضون أنفسهم على الوسائط الاجتماعية، من مخاطرة: أدناها النميمة والتواصل غير المرحب به، وليس أقصاها التنمر وإلحاق الضرر بالسمعة.
قصص بغرض الترويج الذاتي
بعد أن تمحورت الغاية الأساسية من الحكاية حول التجربة الإنسانية في الغالب، أصبحت السرديات الذريَّة متمحورةً حول الذات. وهنا أيضًا مفارقة لا تخلو من طرافة، إذ كلما انكشف الفرد على الآخرين بإنتاج قصصٍ ومشاركتها على مدار الساعة انكفأ اهتمامه وتمحور نشاطه حول ذاته.
أطلقت التقنيات الجديدة العنانَ للنزعات النرجسية، والتي بدورها تدفع الفرد إلى اللهاث خلف سرد «الاعتراف». هذا التمحور حول الذات لا يقتصر على التعبير الذاتي بل يتعداه إلى تسخير السرديات الذريَّة للترويج الذاتي.
وتضافر هذا الميل إلى تصوير الذات تصويرًا إيجابيًا على الدوام، من خلال الاعتناء بالبروفايل الشخصي والقصص المنتَجة، مع شيوع اتجاه سوقي يحكم المواجهات البشرية في الحياة اليومية. وبهذا تكون القصة قد رضيت بأن تصبح ذراعًا يمنى لخدمة السوق وفاعليها الباحثين عن موظفين.
وقد لا يكون من المبالغة القول إن الحكاية أصبحت تنتهي، مثاليًّا، بعملية اقتصادية فيها ما يُباع ويُشترى، فمنطق السوق آخذٌ في إملاء سلوك الأفراد في الوسائط الاجتماعية. من ذلك مطالبة الفرد بأن يكون قادرًا على خلق قصة شخصية مكثفة (Elevator Pitch) يستطيع سردها أمام مديرٍ في مصعد وإقناعه بأنه يستحق التوظيف.
فقد سارعت الشركات ومنظمات أخرى إلى الإفادة مما أتاحته التقنيات الجديدة، لا سيما الوسائط الاجتماعية، وأعادت سريعًا تشكيل النشاط التسويقي. من ذلك أنها حثت الأفراد من مستخدمي تلك الوسائط على الإكثار من إنتاج قصص تسويقية الطابع ومشاركتها ملايين المستخدمين/المستهلكين.
وهكذا، صار شيئًا شديد الذاتية مثل «السَّلْفي» أبرز نماذج التسويق المتبعة اليوم. وأضحى المشاهير، بنشاطهم المحرض على الشراء، وكالات تسويقية تكاد تكون مستقلة بفعل حجم تأثيرها الكبير.
وذلك بسبب دورهم في ترسيخ ثقافة استهلاكية قادرة على توجيه السلوك الاستهلاكي لدى جمهور من الزبائن المحتملين. وما يزيد من فعالية سردياتهم الدعائية كونها تبدو واقعية باستعارتها أدوات كتلك التي يستخدمها تلفزيون الواقع.
جعلت هذه الظروف من الفرد حَكِيًّا مهذارًا يبدد ذاته المتشظية أصلًا في كل مناسبة يتقاطع فيها مع الآخرين. فنراه يعرض نفسه، على نحو يثير الشفقة، على شكل قصص طازجة متلاحقة.
السرديات الذريَّة: عرض الذات على خشبة المسرح
أخيرًا، يحيلنا موقع الفرد السارد لذاته على الدوام من المجتمع إلى أطروحة عالم الاجتماع إرفينق قافمان التي قدمها في كتاب «عرض الذات في الحياة اليومية» (The Presentation of the Self in Everyday Life). ويستعير قافمان في أطروحته أدوات التحليل المسرحي أو الدرامي لفهم بنية المواجهات الاجتماعية في الحياة اليومية.
جادل قافمان بأن السلوك الإنساني في تلك المواجهات محكوم عادة بما يشبه التفاوض بين المشاركين في المواجهة. فبينما يحاول الفرد من جهة التصرف بناء على انطباعات الآخرين عنه، إمّا ليعززها أو ينقضها، يحاول الآخرون الحصول على معلومات عن الفرد وتكوين انطباع عنه من خلال سلوكه.
وهكذا يشبه تعمُّد الفرد «تعديل» سلوكه قُبيل المواجهة، من مثل تعديل جلسته ومظهره وهيئته، استعداد الممثل المسرحي لأداء دوره. ووِفق تصور قافمان يكون سلوك الذات في الحياة مشابهًا لأداء الممثل على خشبة المسرح، فسلوكها في حضور الآخرين ليس سوى عرض. وهنا تكون الذات ناتج العرض المؤدَّى.
ولأن أطروحة قافمان قُدمت في منتصف القرن المنصرم لم تشمل بالطبع أشكال التواصل البشري التي سمحت بها الوسائط الاجتماعية، إلا أنها أداة تصلح لفهمها.
ما من اختلاف على جاذبية الحكاية وقدرتها الاستثنائية على جذب اهتمام المتلقي، ومساعدة كلّ من الحكاء والمستمع على تصور ذاته وموقعه من العالم من خلال تجربة بشرية ذات مغزى. Click To Tweet
لكن ما يحدث للقصة في الوسائط الاجتماعية تحديدًا، من سحبها على كل ما يقوم به الفرد، وتوسيعها لتستحوذ على الزمن وتفرّغه، ومحورتها حول الذات بغرض المنفعة التسويقية، كل هذه التغيرات تضحّي بقيمة الذات وهي تفرط في عرض نفسها أمام الآخرين.
إن ما نعاه بنيامين من خبرةٍ إنسانيةٍ مندثرةٍ لم يعد بعودة الشفاهية. والسبب أن الحكاية والقصة لم تصبحا شيئًا ذا بال عندما أصبحتا كل شيءٍ وفي كل وقت.