الأغنية المكبلهة وأسطورة الستينيات طلال مداح
كانت الأغنية السعودية في الأربعينيات أغنية تراثية بسيطة، يعتمد مطربوها لتلحينها على «أسلوب اللحن الواحد». بخلاف الأغنية المصرية المكبلهة..
كانت الأغنية السعودية في الأربعينيات والخمسينيات أغنية تراثية بسيطة، يعتمد مطربوها لتلحينها على «أسلوب اللحن الواحد». بخلاف الأغنية المصرية المكبلهة التي أسسها سيد درويش في مصر، وغزت العالم العربي بأصوات أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ.
تأثر العالم العربي من الخليج إلى المحيط بالأغنية المصرية. وحاول الكثير من المطربين العرب مجاراة هذا القالب الغنائي المميز في العراق ولبنان والمغرب، مع التغيير في الألحان والكلمات لتتناسب مع هوية البلد الثقافية والاجتماعية.
كان للأغنية السعودية نصيبها من هذا التأثر أيضًا. وكان الفنان طلال مداح من أوائل الفنانين السعوديين الذين قدموا الأغنية السعودية بصورتها الحديثة «الأغنية المكبلهة» في نهاية الخمسينيات. ليتغير شكل قالب الأغنية السعودية بعد أغنية طلال مداح الأولى «وردك يا زارع الورد» عام 1959، التي تتكون من مقاطع مختلفة الوزن والقافية، كتب كلماتها عبدالكريم خزام ولحنها طلال.
دفعت تجربة طلال الأولى الكثير من الفنانين السعوديين نحو تغيير الأغنية ذات اللحن الواحد بالأغنية المكبلهة الحديثة، والتي لاقت رواجًا في أواسط الجماهير السعودية. وكانت تجربة طلال الأولى تجربة متوقعة، إذ كان مستمعًا جيدًا لكثيرٍ من الأنماط الموسيقية المتنوعة والمختلفة خليجيًا وعربيًا.
وأتت الأغنية المكبلهة ثمرة تعاونات وألوان لحنية مختلفة، قدمها طلال طوال فترة الأربعينيات والخمسينيات، كالأغنية الحجازية الشعبية والسامري وغير ذلك.
جميل محمود على شاشة تلفزيون أرامكو
لم يكن طلال وحده من ساهم في تطوير الأغنية السعودية. إذ مثلت الستينيات والسبعينيات نقطة انطلاق الكثير من الأصوات السعودية التي ساهمت في تطور الأغنية، كمحمد عبده وسعد إبراهيم وعودة سعيد وعبادي الجوهر وابتسام لطفي وعتاب. إذ ساهم الحراك الفني في إثراء المنافسة بين الفنانين لصناعة الأفضل.
ويجدر بالذكر أن الموسيقار والشاعر جميل محمود كان أول فنان سعودي يغني على شاشة تلفزيون أرامكو عام 1959. إذ قدم جميل الكثير من الألحان للفنانين السعوديين والعرب خلال مسيرته، منهم رجاء بلمليح ووديع الصافي والفنانة اللبنانية هيام يونس، التي قدمت واحدة من أجمل ألحانه في أغنية «سمراء».
قدم جميل برنامجًا تلفزيونيًا ناجحًا باسم «وتر وسمر» في التلفزيون السعودي عام1981، الذي استمر بعدها لأكثر من ست سنوات.
انتشار الأغنية السعودية عربيًا
الأغنية السعودية انتشرت كثيرًا في الآونة الأخيرة بفضل الفنان طلال مداح. – صباح
انتشرت القومية العربية كما انتشرت الأغنية المصرية المكبلهة. وتطلّع الجميع إلى مصر بوصفها البلد العربي الأفضل في شتى المجالات. فأصبحت أمنية أي شاعر عربي أن تغني أشعاره مطرب أو مطربة مصرية.
إذ وضعت الحالة السياسية والفنية التي عاشتها مصر في عهد جمال عبدالناصر الدولة في رأس الدول العربية. هذا بالإضافة إلى انتشار الراديو الذي عزز حضور الأغنية في المنازل والمقاهي وأماكن العمل.
فانتشرت بذلك الأغنية السعودية شعرًا ولحنًا عبر الشعراء والملحنين السعوديين. حيث انتقل الشعر السعودي مبكرًا، لتغنيه حناجر مصرية وعربية مميزة. إذ لحّن رياض السنباطي للشاعر عبدالله الفيصل أغنية «ثورة الشك» و«من أجل عينيك». وتغنى آخرون بكلمات عبدالله الفيصل الفصيحة والنبطية مثل نجاة الصغيرة وعبدالحليم حافظ وفايزة أحمد وعبدالكريم عبدالقادر لاحقًا.
ومن خلال ما كتبه الفيصل والنجاح التي حققته الأغنية السعودية على مستوى الشعر. نجحت لحنًا وغناءً من خلال طارق عبدالحكيم وطلال مداح وجميل محمود. فغنى الكثير من المطربين والمطربات العرب ألحانهم أمثال وردة الجزائرية ورجاء بلمليح ونجاح سلام وفايزة أحمد، ولاحقًا سميرة توفيق ووديع الصافي وعتاب ورباب وسميرة سعيد وغيرهم. تلا ذلك الكثير من التعاونات العربية التي ساعدت في وصول الأغنية السعودية إلى المستمع العربي.
الأغنية السعودية في السبعينيات
«كانت السبعينيات هي الفترة الذهبية للأغنية السعودية، بعدما نضجت بفعل التطوير الذي طاول تركيبة الأغنية في الخمسينيات والستينيات، لتتألق لاحقًا في السبعينيات، ما ساهم في رفع دائرة انتشارها في العالم العربي بأكمله.»
وشكل طلال في السبعينيات ثنائية مع الملحن سراج عمر، فغنى الأول من ألحانه «ما تقول لنا صاحب» و«أغراب» و«مقادير». ويقول عبدالله المزروع عن ألحان سراج: «كانت نجاحات كبيرة، هذه الثنائية صنعت أغنية ناضجة، راكزة المعنى، جميلة التفاصيل».
وبالإضافة إلى تجربته التلحينية متعددة الألوان، غنى طلال خلال مشواره للكثير من الملحنين العرب أمثال: محمد عبدالوهاب في أغنية «ماذا أقول»، وبليغ حمدي في «يا قمرنا»، ومحمد الموجي في «ضايع في المحبة» و«ولي طلب».
محمد عبده، النجم الصاعد
كانت بداية مسيرة محمد عبده في الستينيات، بغناء قصائد شعراء كطاهر زمخشري «خاصمت عيني من سنين» وعبدالله الفيصل «يا بو شعر ثاير»، وإبراهيم خفاجي وطارق عبدالحكيم ومحمد شفيق كملحنين «لنا الله» و«أشوفك كل يوم» و«الساعات الحلوة» و«الله يمسيك بالخير». لكن نجاحه الباهر لم يأتِ إلا في السبعينيات، حين قدم محمد عبده نفسه على مسارح عدة بلدان خليجية وعربية.
تغنى عبده بكلمات مجموعة من الشعراء من أمثال: خالد الفيصل في «يا صاح، أيوه، سافر وترجع» وفائق عبدالجليل في «أبعاد»، وبدر بن عبدالمحسن في «الرسايل».
كما تعاون مع الملحن سامي إحسان في «سهر» و«أنت محبوبي» و«مالي ومال الناس» وغنى «ضناني الشوق» من كلمات محمد ناجي وألحان مهدي حمدون. كما ساعدت ألحان يوسف المهنا في تكريس صوت عبده في أغنيات شهيرة مثل «ماكو فكه» و«بعاد» و«الجو غيم».
ويؤكد عبدالله المزروع على تميز ألحان محمد شفيق مع محمد عبده بقوله: «كانت ألحان شفيق عاطفية تتماهى مع الكلمة الشعرية. استطاع شفيق أن يلحن ردة الأفعال البشرية كالدهشة والحزن والفرح والفخر والحماسة.»
لم يكن محمد عبده النجم الوحيد، إذ تألقت في فترة السبعينيات الكثير من الأصوات الواعدة كعلي عبدالكريم ومحمد عمر وعبادي الجوهر.
وفي دورة الخليج الرابعة التي أقامتها قطر عام 1976، غنى عبادي الجوهر أشهر أغنياته وقتها وهي «رحال» و«الله معك» و«بنت الضحى»؛ لينطلق بعدها الجوهر فنانًا وملحنًا. حيث لحن عام 1978 أغنية «طويلة يا دروب العاشقين»، إحدى أشهر أغاني طلال مداح، التي كتب كلماتها بدر بن عبدالمحسن.
الأغنية الرومانسية السعودية
يرى الكاتب أحمد الواصل في كتابه سحارة الخليج أن شكل الأغنية الرومانسية في السبعينيات اختلف عن الأغنية الرومانسية القديمة التي تدور مواضيعها حول الطبيعة والمشاعر التوحدية. وتقدّمت نحو رومانسية جديدة تطورت فيها الطريقة التصويرية والحوارية في الأغنية.
فنلاحظ أن الوصف في أغاني بدر مختلف عن الوصف السائد الغارق في القصة، الذي لا يلج إلى التفاصيل المربوطة بالمكان والزمان وحتى الأشخاص.
وليلة، وليلة، وليلة كانت الفرقا
وقالت لي في أمان الله
وليلة، وليلة ذكرها يبقى
على جرحي ولا أنساه
وخصلة من جدايلها
وتديني جواباتي.. بقايا عمر بسماتي
أثرت الرومانسية الجديدة على رواد الأغنية العربية أمثال عبدالكريم عبدالقادر في الكويت، وعبدالحليم ووردة في مصر ما بعد النكسة عام 1967. ويعود الفضل في نشأة الأغنية الرومانسية السعودية إلى بدر بن عبدالمحسن وطلال مداح والملحن سراج عمر وتعاوناتهم الفنية. حيث تمثلت هذه المرحلة في أغنيات مثل: «يا طفلة تحت المطر» و«قصت ضفايرها» و«وعدك متى» و«مرت .. ولا حتى تلفت».
وفي السياق ذاته، يذكر الناقد يحيى زريقان أن طلال مداح كان متواجدًا في مصر في عام 1973 لحفلة أقامها هناك، ثم توجه بعدها لمنزل الملحن بليغ حمدي في حضور الكاتب محمد حمزة. عندها غنى طلال أغنية بدر بن عبدالمحسن «نام الطريق». ليخرج محمد حمزة تلك الليلة ويكتب من وحي أغنية طلال لعبدالحليم «ماشي في طريق».
شعراء الأغنية السعودية
تطورت الأغنية السعودية عمومًا -وأغنية طلال مداح بشكل خاص- بفضل شعراء استطاعوا تغيير شكل الكتابة الشعرية الغنائية أمثال: إبراهيم خفاجي وبدر بن عبدالمحسن ومحمد العبدالله الفيصل، وملحنين أمثال فوزي محسون وسراج عمر وعمر كدرس ومحمد شفيق وسامي إحسان.
إذ تميز قالب الأغنية السعودية في الستينيات والسبعينيات باتصاله التاريخي بالموروث الشعبي والفني. ويظهر هذا التنوع جليًا على أعمال الملحنين، الأمر الذي أثر على شكل وقالب الأغنية السعودية.
استطاعت الأغنية السعودية التمدد والتوسع لتشكل أغنية منفردة في المنطقة. إذ كانت اللغة الشعرية العذبة سهلة الوصول للمستمع السعودي والعربي. كما لعبت ثقافة الملحن والمغني دورًا مهمًا انعكس على الأغنية وقالبها.
ارتبط قالب وشكل الأغنية ارتباطًا وثيقًا بمؤثرات المرحلة والذوق العام للشارع. ومع ذلك، تميز الجيل الأول بطلال مداح ومحمد عبده وآخرين في صناعة أغنية سعودية خلّدها التاريخ؛ بدأت مسيرتها من الأغنية المكبلهة التي شهدتها المنطقة من خلال مصر ولبنان والعراق، وانتهت بأغنية حديثة فريدة تعكس الفن السعودي.
يختم الناقد محمد سلامة متحدثًا عن الفترة الذهبية للأغنية السعودية: «كانت السبعينيات هي الفترة الذهبية للأغنية السعودية، بعدما نضجت بفعل التطوير الذي طاول تركيبة الأغنية في الخمسينيات والستينيات، لتتألق لاحقًا في السبعينيات، ما ساهم في رفع دائرة انتشارها في العالم العربي بأكمله».