حرّية السفه!

مما يمتاز به سفهاء هذا العصر أن لديهم هوسًا غريبًا بإذلال من يعطونه، فالمنّ والأذى يتبع عطاءهم، ليس إلى مَن أعطوه فقط.

دعونا نتفق -مع أنه ذلك ليس مهمًا- أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا قال في محكم التنزيل: «وأما بنعمة ربك فحدِّّث»، فإن «الحديث» المأمور به هنا هو الحديث عن تلك النعم بالشكر والامتنان لواهبها -عزّ وجل-، ثم إن «نعمة ربك» عبارة شاملة جامعة كل نِعَمِه التي لا تُعَدّ ولا تُحصى، وقد يكون المال أحدها، وقد لا يكون؛ لأن المال قد يكون نقمة ووبالًا على صاحبه وجامِعه ومُنفِقه. ولكن هذا المعنى الشامل ليس ما يروِّج له ويفهمه السفهاء الذين بدا لي أنهم يظنون أن المعنى في الآية ينصرف إلى الاستعراض «القارونيّ» القبيح المستفز. 

والسفه قديم قِدَم الإنسان، لكنه مَثَله مَثَل أي ظاهرة أو سلوك بشري آخر. وَضَعْ تحت مجهر وسائل التواصل الاجتماعي التي تُظهر كائنات لم تكن لتُرى بالعين المجردة لولا تلك الوسائط. 

ومربط الحمار في هذه الظاهرة أن الإنسان السويّ حين ينتقدها ويدفع الأذى عن نفسه وعن عينه وعقله، فإن يُتّهم بالحسد والغيرة. وهذه مَنحَسة لا تقل أذى عن السفه ذاته. وفيها يُستخدم أيضًا تأويل آيات القرآن، ومحاولة تسويغ السفه، فسيتدلون بقول المعطي الوهاب: «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله»، مع أن الفضل المشار إليه هنا أكبر من أن يكون مالًا، فالذين عنَتْهم الآية لم يحسدوا الرسول الكريم ولا صحابته على سياراتهم الفارهة، ولا على نوعية الحياة الباذخة التي كانوا يعيشونها، ولا على أنهم يشترون أشياء سخيفة بمبالغ باهظة ثم يستعرضون بها أمام الخلق، غنيِّهم وفقيرهم، سائلهم ومحرومهم. 

ومما يمتاز به سفهاء هذا العصر أن لديهم هوسًا غريبًا بإذلال من يعطونه، فالمنّ والأذى يتبع عطاءهم، ليس إلى مَن أعطوه فقط، بل إنهم يتفننون في إخبار كل سكان الأرض والكواكب المجاورة -إن هم استطاعوا إلى ذلك سبيلًا- بما أعطَوا. ويشهّرون بمن أعطوه حتى يكره اليوم الذي قَبِل فيه تلك الأعطية والأيام التي تلته إن كان لديه ولو نفحة يسيرة من كرامة أو عزة نفس. ولست أفهم كثيرًا، ولا قليلًا، الفكرة من أن يُهدي أحدهم إلى آخر شيئًا ثم يُخبِر الثقلين بأنه أعطى فلانًا من الناس، ولماذا يفعل ذلك، حتى وإن كان الذي يمن عليه هو والدَه أو والدته أو أيّ أحد من أهله الأقربين!

Giphy 56
بذلت كلّ أموالي / Giphy

وقد يقول قائل أو يعترض معترض فيقول: وما الذي يجبرك على تتبّع أخبار هؤلاء، وأنت لم تر منهم إلا كل ما يفسد الحياة، ولم تعرف عنهم إلا أنهم من سقَط متاع الدنيا، أغنياء في المال فقراء في ما عداه؟ وهو سؤال لا يخلو من وجاهة، لولا أن الهرب لم يعد متاحًا والعزلة لم تعد خيارًا، فلم يعد باستطاعة إنسان هذا العصر أن يتصعلك مثل الشنفرى ويسيح في الأرض هربًا مما يكره رؤيته معتمدًا على إيمانه بأن «في الأَرض مَنأى للكريم عن الأَذى». فأينما ولّى وجهه فسيجد السفاهة والسفهاء يحيطون به من كل اتجاه. 

فمهما أشحت بوجهك، وحاولت جهدك أن تتجاهل وجودهم فإنك حتماً ستجد أحدهم يخرج لك من حيث لا تحتسب، يُهدي نفسه سيارة فاخرة، أو يمنّ على أحدهم وقد أهداه هدية أو مد له يد المساعدة منتظرًا لسان الثناء، أو تجد آخر يبدد أموالًا لا تستطيع نطق رقمها على أشياء لا معنى لها إلا اتباع «سنة قارون» في النظر إلى الأموال والاستعراض بها أمام مَن لا يعرفونها. 

والسؤال الذي يبدو وكأنه معضلة مع أنه ليس كذلك، هل كون المال الذي يبدده السفيه هو ملكه يعني أنه حرّ فيما يفعل؟ والإجابة قطعًا هي: لا. فحرّيته في صرف أمواله ليست مطلقة، وقد يؤخذ ويُردّ في هذا القول، ولكن الذي لا جدال فيه أنه ليس حرًا في استفزاز المعدمين الذين يكادون لا يجدون قوت يومهم حين يخرج عليهم متفاخرًا بشراء حذاء أو سروال بمبلغ قد يموتون رعبًا لو رأوه بأعينهم. وهذا ليس من باب التحدّث بالنعمة، ولا تبرير له إلا السفه وقلّة تقدير النعم. 

ولا أخفيكم أيها السيدات والسادة أني أرغب في إجراء بعض الأبحاث على حياة هؤلاء، وأحتاج إلى أموال تساعدني على فهم مشاعرهم حين يبدّدون الملايين وينفقونها فيما لا ينفعهم ولا ينفع الناس ولا ينفع أي مخلوق. وأحتاج إلى «سفيه جادّ»، يرعى هذه الأبحاث ويدعمها.

وعلى أي حال فإن حديثي هنا حديث عام، لا أعني به أحدًا بعينه، وكل من يجد في نفسه شيئًا من هذه الرذائل المذمومة التي يستحقرها العرب والعجم، وتنبذها كل الأمم، فلا يعتب عليّ؛ لأن التشابه غير مقصود وقع مصادفة لم يُخطَّط لها. 

الإنسانالمالوسائل التواصل الاجتماعيالرأي
نشرة الساخرنشرة الساخرالحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!