مع أني لم أوتَ منطق الطير -ولا غيره من الكائنات- إلا أني أستطيع القول بكل ثقة إني بعد كل هذه السنوات التي أمضيتها في العمل أصبحت أتفهم الحمار كثيرًا، وأعرف يقينًا كيف ينظر إلى الحياة والكائنات في محيطه. بيني وبينه مشتركات كثيرة في الحياة العملية والمهنية، وهذا ليس أمراً سيئًا كما يبدو. بقليل من التعمق في المقارنة، سيبدو الأمر كأنه نوع من الإطراء والثناء على الذات.
لأن الرابط الأبرز في هذه المشتركات هو القناعة، والتصالح مع الذات. فالحمار لا يشتكي من قلة التقدير، ولا من كونه محل سخرية، ونطق اسمه وحده مجردًا شتيمة لا يتقبلها كائن آخر، رغم عظم وأهمية المجهود الذي يبذله، ورغم مهنيته العالية وصدقه وإخلاصه وتفانيه.
لك أن تتخيل أن الأسد ينام يوميًا أكثر من خمس عشرة ساعة، بينما ينام الحمار ثلاث ساعات فقط، ويقضي إحدى وعشرين ساعة في اليوم الواحد في ممارسة مهامه الوظيفية وإنجاز الأعمال المطلوبة منه، التي لا تخصه بشكل مباشر في أكثر الأحيان.
وحتى لو تجاهلنا عدد الساعات وظروف وبيئة العمل، فنحن في عالم الإنسان نحترم الأسد ونجله، ونسمي أبناءنا بأسمائه الكثيرة، مع أنه لا يقدم لنا أي خدمة أو عمل أو فائدة. بل إنه لا ينظر إلينا إلا باعتبارنا وجبة محتملة لن يتردد في الحصول عليها متى سنحت له الفرصة خلال ساعات يقظته القليلة. على العكس من الحمار الذي نضع اسمه في أعلى قائمة الشتائم التي نستخدمها لتحقير بعضنا البعض، مع أنه شريك حقيقي للإنسان منذ وجودهما سوية على كوكبهما المشترك.
عيب الحمار الوحيد هو صوته المنكر، ولكن -ومن باب الإنصاف- لو أخذنا جولة بين أصوات مطربي هذه الأيام، لاكتشفنا أن هذه مشكلة عامة لم تعد تخص الحمار وحده، وهذه إحدى معضلات الصورة النمطية التي يصعب تغييرها. ويُقال في المثل: «رّبط حميرك» للشخص الذي ينفعل دون مبرر، ولعله من المناسب أن نربّط حميرنا حين نُشبه بالحمار، فربما يكون أحق بالغضب منا، خاصة حين نتقبل فكرة تشبيهنا بحيوانات أخرى.

وفي السياق ذاته، كنت أحث ابني طالب المرحلة الثانوية على بذل المزيد من الجهد في الدراسة والتحصيل، فقال لي متأففًا: «أنا أكرف كرف الحمير». ولا أخفيكم أن أساريري تهللت وشعرت بشيء من الرضا، وقلت له وأنا أغالب دموع الفرح: ونعم القدوة، أنت على الطريق الصحيح أيها الابن البار. ولو قال لي إنه مثل الأسد -لا سمح الله- لكتبت للمدرسة معاتبًا إياهم على تركهم الطلاب ينامون أثناء الحصص الدراسية.
ومع كل هذا، فإني مؤمن أن الإنسان مهما كان ذكيًا ومجتهدًا وحمارًا أصيلًا، فإن هذا ليس وحده طريق النجاح. هناك عوامل أخرى لا تقل أهمية مثل التوفيق، والأقدار التي لا يعلم سرها إلا الله سبحانه. فلو كانت الأمور بالعمل والذكاء، لما رأينا «بايدن» رئيسًا لأمريكا، أم العالم، الذي يعتبر وجوده في منصبه إساءة بالغة القسوة للحمار في شعار الحزب الديموقراطي، ولما رأينا «ساوث غيت» مدربًا لمنتخب كرة القدم الإنقليزي. وهذان مثالان فقط، لأنه يستحيل حصر الحالات التي لا يزال فهم الطريقة التي أوصلت أمثالهما إلى المكان الذي يجلسون فيه، ولا يزال اكتشاف الطريق الذي سلكوه للوصول لغزًا حله بعيد المنال.