في المراحل المبكرة من حياتي كنت أشعر بأني ضائع ومشتت -لم يتغير هذا الأمر في المراحل المتأخرة- ولهذا كانت تستهويني فكرة الانتماء إلى أي شيء. وفي تلك الأيام كانت الصحوة مغريةً، والتحق كثير من الرفاق بذلك القطار، ولطالما حدثوني عن الرحلات والاجتماعات و«الكشتات» لإغرائي. ويحثونني على الالتحاق بالركب، لكني لم أستطع، ولم أستسغ تقبل أن أكون شيئًا لا يشبهني.
الالتزام بلباس وشكل معين فكرة تخالف إعداداتي، وستعرض كامل النظام الذي يعمل به عقلي -على افتراض وجوده- إلى الانهيار. فضلًا عن أن مجرد التفكير أن عيسى الأحسائي وأم كلثوم سيختفيان من يومياتي يبدو مخيفًا ويقتل الفكرة في مهدها. وحين أطرح هذا التخوف لمن يحاول إقناعي كان الأمر يزداد سوءًا، وزاد الطين بلة أني كنت أملك كاميرا في وقت كان امتلاكها ترفًا وسفهًا وضلالًا مبينًا.
تجنبني الرفاق، لأني في نظرهم حينها بقعة سوداء تفسد ثوب الالتزام الأبيض الذي كانوا يرتدونه؛ ما جعل الضياع والتشتت أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.
ومضت الأيام واستطعت أن أحتفظ بأشرطة الكاسيت ولم أكسرها كما كان رائجًا، وما زلت أحتفظ حتى اليوم بكثير منها، وحين يراها أبنائي يعتقدون أنها أدوات استخدمت في بناء الأهرامات. وما زلت أحتفظ بصور لتلك المرحلة من حياتي، وعند العودة إلى تلك الصور بين الحين والآخر أكتشف أن شيئًا لم يتغير، أنظر إلى حياتي نفسها فأجد أنها لا تختلف عن الصورة، واقفة في المكان نفسه، لا يتحرك فيها شيء مهما أطلت النظر إليها والتفكير فيها.
وحين أتفكر وأتدبر الآن لا أشعر بالندم على شيء، وأني لم أكن يومًا إلا أنا، آخذ من الجميع وأرد من الجميع. لكني لا أخفي سعادتي بأنه لم تكن هناك منظمات تهتم بالتغير المناخي، ولم أسمع حينها بأصحاب نظرية الأرض المسطحة، ولم يكن هناك نباتيون في محيطي، باستثناء غنم والدي وبقرة جارتنا وثلة من الحمير السائبة في ضواحي قريتنا.
ومنبع هذه السعادة أني لا أضمن الآن أنها لو كانت موجودة حينها لكنت واحدًا من كبار أصحاب نظرية الأرض المسطحة، أو مقاتلًا شرسًا من أجل محاربة التغير المناخي، لأن هذه المنظمات لا تؤثر على الأشياء التي أحبها ولا أريد التخلي عنها. وهذا ما كنت أبحث عنه، وأعني الانتماء الذي لا يكلفني التضحية بأي شيء. نجوت بأعجوبة وشاء الله ألا أعلم بوجود هذه الأشياء إلا بعد أن وصلت إلى مرحلة لا أريد فيها الانتماء حتى إلى نفسي.
أما النباتيون فلم تكن الفكرة واردة حينها حتى ولو علمت بوجودهم، لأننا كنا في كثير من المناسبات نتعاطى «المفطحات» في وجبة الإفطار، وترويج فكرة النباتيين في مجتمع كهذا تشبه فكرة الاحتفال بالأهداف في ملعب الخصم. ثم إن أي نظرية أخلاقية أو فلسفية أو اجتماعية تؤدي إلى إقصاء المندي والحنيذ ستكون نظرية متهافتة لا يعتد بها، ولا يُتسمع إلى من يؤمن بصحتها.

يصير النباتي نباتيًا لأن لديه خياراته، ويملك ترف الاختيار، أما الجائع فإنه يأكل أي شيء. والذين يظنون أن الكوكب الذي تحمل الإنسان سيغص بعلبة بلاستيك، يسيئون الظن في قدرة تحمل الأرض الصابرة المحتسبة التي ستتحمل الإنسان حتى يُنفخ في الصور. فالكوكب الذي تحمل النباتيين، ومؤيدي نظرية الأرض المسطحة، ودجالي الطاقة ومشجعي بعض الأندية لن يقضي عليه أي شيء آخر.
والاعتقاد بأن الإنسان سينقذ كوكب الأرض فكرة هوليودية، لأن للأرض طريقتها في معالجة الأمراض التي تصيبها دون أن تحتاج إلى تدخل استعراضي من البطل الأبيض الخارق، الذي سيهزم الانبعاث الكربوني والغازات الدفيئة في آخر الفلم.
أنا سعيد بأني لم أحرق صوري، ولم أكسر أشرطة الكاسيت مساهمة في الحفاظ على كوكب الأرض وحمايته من الاحتباس الحراري، والانبعاثات الكربونية، وسعيد من أجل الأرض، وأثق بقدرتها على مواجهة مشكلاتها، وأنا على ثقة أيضًا بأنها سعيدة هي الأخرى لأنها نجت من كارثة أكبر من الاحتباس الحراري، ماذا لو كنت مدافعًا عن نظرية الأرض المسطحة، أو منتميًا إلى حزب الإخوان النباتيين.