بين جولات الاستحواذ، أين ينتهي صراع تطبيقات التوصيل؟
تطبيقات التوصيل في المنطقة العربية والخليجية في جولات استحواذ لا تنتهي، فهل هي نتيجة ثقافة ريادية ضيقة في المنطقة؟
في السنوات القليلة الماضية، فتح ارتفاع الطلب على سوق المطاعم في السعودية المجال أمام الرياديين لإطلاق تطبيقات التوصيل من المطاعم. وعززت عوامل من قبيل انتشار الهواتف الذكية والبنية التحتية الجيّدة للتقنية، ثم اعتماد المستهلكين المتزايد على الإنترنت في كل شيء، من احتمالات نجاح هذا النموذج الجديد من العمل. ورغم امتلاء الساحة، لا زال السوق في حاجة لإشباع الرغبة وإضافة المزيد من التطبيقات. ولكن، ما سر هذه التخمة في تطبيقات التوصيل؟ ومن هو المستفيد الحقيقي منها؟
قبل الدخول في مستقبل تطبيقات التوصيل من المطاعم، يلزم علينا أولًا إلقاء نظرة فاحصة على أعمال شركة «روكيت إنترنت» (Rocket Internet) الألمانية في المنطقة العربية، حتى نفهم كيف تسير الأمور في هذا القطاع.
شركة «روكيت إنترنت»: مصنع نسخ الشركات
أُنشئت شركة «روكيت إنترنت» عام 2007 في ألمانيا، وانطوى نموذج عملها على نسخ الشركات وإعادة بيعها. ونتيجة هذا النموذج القائم على النسخ وقتل الإبداع، ما كان على شركات السيليكون فالي إلا أن تُكن لها الكراهية وفي أحيان كثيرة، رفعت دعاوى قضائية كثيرة ضدها.
وعلى أية حال، دخلت شركة «روكيت إنترنت» -والتي انتشرت سلفًا في إفريقيا وأوربا ومناطق أخرى حول العالم- منطقة الشرق الأوسط في 2011، بعد إنشاء «مجموعة ميدل إيست إنترنت» (Middle East Internet Group) في دبي، بهدف بحث فرص الاستثمار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وسعت المجموعة إلى تنظيم عمليات استثمارات أو نسخ نماذج أعمال كثيرة من شركات عالمية.
وكان موقع «نمشي» الذي أطلقته عام 2011 والمستنسخ عن موقع «زابوس» (Zappos) أول مشاريع الشركة. تخصّص «نمشي» في البداية في بيع الأحذية، ليتحول لاحقًا إلى متجر للأزياء. وشارك في تأسيسه مجموعة من رواد الأعمال منهم حسام عرب، لتستحوذ عليه لاحقًا شركة «إعمار مولز» بشكل كامل في العام 2019.
«روكيت إنترنت» تتوسع
لم تتوقف «روكيت إنترنت» عند هذا الحد، فسرعان ما أطلقت مشروعها الثاني المتمثل في شركة «لامودي» (Lamudi) للعقارات، وهي منصّة عقارية إلكترونية. كما أطلقت في بداية أكتوبر 2013 ثلاث شركات متفرعة عنها في السعودية، تلا ذلك إنشاء واحدة أخرى في الأردن والإمارات. وتساعد المنصة الأفراد على إيجاد المنزل المثالي أو الأرض أو العقار التجاري. وفي عام 2019، باعت «روكيت إنترنت» الشركة إلى «بيوت.كوم».
من جهة أخرى، أطلق ثلاثة رواد أعمال من باكستان والهند في عام 2015، موقع «وادي.كوم» بالتعاون مع شركة «إم تي إن» (MTN) للاتصالات الجنوب إفريقية، وبدعم من «روكيت إنترنت»، وهو موقع للتسوق عبر الإنترنت شبيه بموقع «سوق.كوم». إلا أنه تعثر، ثم تحوّل لاحقًا إلى متجر بقالة إلكتروني. وشارك الموقع هذا الخبر منتصف عام 2019 بتغريدة على تويتر تحمل عبارة النهاية، في إشارة إلى استحواذ متاجر «كارفور» على التطبيق.
لا تنحصر قصص «روكيت إنترنت» على هذه الأمثلة، فهناك العديد من الاستحواذات المشابهة في منطقتنا العربية، كشركة إعلانات السيارات المبوبة «كارمودي» (Carmudi)، أو شركة التاكسي تحت الطلب «إيزي تاكسي» (EasyTaxi)، وموقع «ميزادو» (Mizado) المستنسخ عن أمازون.
ولكن مغامرات «روكيت إنترنت» في الاستنساخ -خصوصًا في قطاع التسوق- لم تكن هي نفسها في قطاع المطاعم. إذ يبدو أنها تحوّلت من الاستنساخ والبيع إلى الاحتكار شبه الكامل لقطاع تطبيقات التوصيل. ولكن، لأي غرض؟
بداية جولات الاحتكار
بدأت «روكيت إنترنت» بجولات احتكار تطبيقات التوصيل من المطاعم في منطقة الشرق الأوسط عام 2015، بدايةً في الخليج ونهايةً بمصر. وهدفت لبناء منصة إنترنت متكاملة تغطي المنطقة، ونموذج مشابه للنموذج الصيني في بناء تطبيقات شاملة، أو ما يسمى «سوبر آب».
كانت البداية في أوجها، وسرعان ما أكملت الاستحواذ على الموقع المصري لطلب الطعام، «أطلب.كوم». إذ يعد الموقع الذي أسسه أيمن راشد عام 1999، من أقدم مواقع طلب الطعام العربية. واستحوذ عليه نجيب سويرس في بداية الألفية، واستمر في تشغيله حتى عام 2015؛ لينتهي أخيرًا ببيعه للشركة الألمانية.
وفي الكويت، استحوذ رائد الأعمال الكويتي محمد جعفر على «طلبات.كوم»، وأعاد تطويره، ثم باعه لشركة «فودباندا» (Foodpanda) التي تعود ملكيتها إلى «روكيت إنترنت».
الاستحواذ على هنقرستيشن
منذ عام 2014 وشركتا «هلوفود» (hellofood) -التي تعود ملكيتها للشركة الألمانية «فود باندا»- والشركة التركية «فود أون كلك» (foodonclick) -التي تعود ملكيتها لشركة «يميكسيبيتي» (Yemeksepeti)- تراقبان السوق السعودي ضخم الحجم بنِيّة دخوله. وكان هدفهما الاستحواذ على تطبيق «هنقرستيشن» (Hungerstation) السعودي.
ومثّل السوق السعودي المربح جدًا ساحة معركة بين الشركات الألمانية والتركية التي حاولت الاستحواذ على أبرز الشركات الناشئة، وفي الأخير نجح الألمان في الاستحواذ عليها كلّها.
ففي العام 2015، استحوذت «دليفيري هيرو» (Delivery Hero) على الشركة التركية مقابل 589 مليون، لتقتل أكبر منافس لها في المنطقة. ثم استحوذت في العام 2016 على «فود باندا»، لتتم جولاتها الاستحواذية لذاك العام بالاستحواذ على «هنقرستيشن».
وبالعودة للخط الزمني لشركة «طلبات» الكويتية و«أطلب» المصرية، نجد أن القصة تكررت. حيث باع المؤسسون الشركة لمستثمر محلي، وأعادوا تطوير المنتج وتحديثه ثم بيعه مجددًا للمستثمر الأجنبي «روكيت إنترنت».
من المستثمر المحلي للمستثمر الأجنبي
أكملت «دليفيري هيرو» خطتها في المنطقة، واستحوذت على التطبيق الكويتي «تراي كاريدج» (Try Carriage) في العام 2017. أما اليوم، فما يزال نفوذ «روكيت إنترنت» آخذًا بالتوسع، إذ تسعى لإطلاق تطبيق «طلبات» في العراق أوائل عام 2021.
ووفق كل هذه السلسلة من الاستحواذات، يتوضح لنا أن تطبيقات التوصيل من المطاعم في منطقتنا العربية تعود إلى ملكية مستثمر أجنبي، يهدر إمكانات شركات جيّدة، ويحوّلها إلى كيان واحد لا نعلم كيف سيكون مستقبله وما المنتظر منه!
وقبل أن نسأل أنفسنا، كيف تحوّلت شركة دخيلة على الثقافة والسوق إلى أكبر لاعب في المنطقة، ينبغي علينا إعادة صياغة ثقافتنا الريادية. فهل ينبثق هدفنا من بناء الشركات في تقديمها للمستثمر الأجنبي؟ وهل تعدّ عمليات التخارج أكبر هدف للرياديين في المنطقة؟
ماذا عن فكرة بناء شركة والاستمرار في بنائها، أيعقل أن ثقافة الريادية نفسها محدودة جدًا ومحصورة فقط عند عمليات التخارج؟
وبالعودة لكافة الاستحواذات، تنطوي المحصلة النهائية في امتلاك الشركة الألمانية «روكيت إنترنت» السوق والخبرات والمهارات، ويمكنها إغلاق كل شيء ونقله معها، فهل هناك من مفرّ للشركات المحلية؟
مستقبل تطبيقات التوصيل من المطاعم
انتشر في الأعوام الأخيرة مصطلح المطابخ السحابية، وهي المطابخ التي ترتكز على خدمة عملاء التوصيل من خلال التطبيقات. قد يمثل هذا النموذج خطة هروب الشركات المحلية الناشئة التي تبحث عن خلق نموذج عمل جديد بعيدًا عن الاحتكار. لكن المقلق أن الألمان يتحركون في ذات المجال أيضًا. حيث استثمرت شركة «ديلفيري هيرو» في شركة «سويتهارت كيتشين» (Sweetheart Kitchen)، -وهي مطبخ سحابي- بقيمة 60% في الإمارات والكويت وسنغافورة، و100% من ذات الشركة في السعودية.
لا شكّ أن «روكيت إنترنت»، أكبر شركة طعام في العالم، شركةٌ لا يمكن هزيمتها بسهولة. إذ تمتلك 39% من «ديليفيري هيرو»، في الوقت الذي تنشط فيه في عدة أسواق حول العالم، وتتميز كذلك بسرعة تحركها في مجال المطابخ السحابية أو التطبيقات الشاملة.
ليس سرًا أن السوق السعودي هو الأكبر في الشرق الأوسط، ويمكن للشركات المحلية النماء والازدهار في هذا السوق دون التفكير في بقية أسواق المنطقة العربية. لكن حتى نحمي المنطقة من الاحتكارات القادمة من الخارج، علينا أن نؤسس كيانات كبرى يمكنها السيطرة على عدة أسواق. لا نلحظ أمثلة كثيرة لهذا النموذج من العمل اليوم. ولكن شركة «حسوب» تعمل على هذا النموذج التوسعي من خلال تنظيمها لثقافة العمل عن بعد وتوظيف مستقلين عرب.
إن إطلاق شركة «فودكس» لتكنولوجيا إدارة المطاعم أعمالها في السوق المصرية قرارٌ في غاية الحكمة؛ فخروج شركاتنا الناشئة السعودية من سوقنا المحلي للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط هدفٌ استراتيجيٌّ لا بد من دعمه.
من يقلب الطاولة؟
لم تنته قصة تطبيقات التوصيل من المطاعم بعد، فهناك لاعبون محليون كبار مثل شركة مرسول وجاهز و«ذا تشيفز» (The Chefz) ونعناع قد يقلبون الطاولة في أي لحظة. وقد تُفاجئنا هذه الشركات بإعلان كما فعلت شركة نون هذه السنة، حين دخلت في خط تطبيقات توصيل المطاعم من خلال خدمتها الجديدة «نون فود» (Noon Food).
حيث وضّحت الشركة في منشور لها على موقع لينكد إن عدم رضاها عن نسبة التوصيل التي تقوم تطبيقات التوصيل باقتطاعها من المطاعم، والتي تتراوح ما بين 30% إلى 35%، فيما تكون نسبة نون منها 5% فقط. مما يُلمح إلى حرب أسعار قادمة ستكون في مصلحة المطاعم.
إذ أبدى المستثمر الريادي المعروف فادي غندور رغبةً شديدة في الاستثمار في هذا القطاع. كما يمكن أن يكون خروج تطبيق «أوبر إيتس» (Uber Eats) من السعودية عاملًا مؤثرًا في الدفع في هذا الاتجاه. إذ يعلم المراقب للسوق جيدًا بحالة عدم الرضا بين مُلاك المطاعم و تطبيقات التوصيل. ويمكن لهذا الخلاف أن يكون الشرارة لإطلاق شركات جديدة أو إصلاح السوق، بالعودة للطريقة التقليدية التي تتولى فيها المطاعم مهمة التوصيل.
ورغم اكتظاظه بالتطبيقات والخدمات، لا يزال القطاع مربحًا وعالي الطلب؛ وسيشهد جولات من الصراع على غرار المسلسل الشهير «لعبة العروش». ولكن يا ترى، من سيكون الرابح؟