لماذا نكره الرسائل في الأفلام؟ 🤨📮
تعيش السينما السعودية اليوم نفورًا شديدًا من الرمزية المبهمة والأفلام العصية على الفهم والتأويل.
لماذا نكره الرسائل في الأفلام؟
حسين الضو
كل ما يمكن النظر إليه واستخراج المعاني منه يُعد نصًّا، والأفلام بوصفها لغة مكثفة بالدلالات البصرية والسمعية هي نصوصٌ بلا شك، والنصوص بلا متلقٍّ نصوص محتملة، ميتة، تعود إلى الحياة باستنطاقها. يكمن مفهوم النصية في التقاء اللغة بالمتلقي، واستنطاق الأخير هذه اللغة لتشكيل المعاني منها. وبما أن اللغة لا تحمل معاني ثابتة كما هو مشهور في النظرية التفكيكية لجاك ديريدا، فإن سبحة المعاني تنفرط إلى ما لانهاية له وتتشظى إلى معان كثيرة.
يعود سبب التوليد اللانهائي للمعاني في اللغة إلى عدة أمور، جذرها هو عدم وجود رابطة مباشرة بين الدال (اللفظ أو الصورة التي نراها) والمدلول (ما يعنيه هذا اللفظ أو تعنيه تلك الصورة). ففي المثال المشهور حين نقول «قط» يفهم المتلقون معنى المفردة ولكنّ صورًا مختلفة ترتسم في أذهانهم، فيتخيل البعض قطًّا ودودًا والبعض الآخر قطًّا بغيضًا، أو قططًا بألوان مختلفة. تستطيع التجربة الجمعية المشتركة أن تقلّص هذه الاختلافات؛ فالأسرة التي تربي قطًّا من المرجح أن ترتسم في أذهانهم صورة ذلك القط حين يسمعون المفردة.
يزداد الأمر تعقيدًا في حال السينما؛ لأننا نتعامل مع نص معقّد جدًّا تشتبك فيه الحبكة وتوالي الأحداث بعدد من الشخصيات ذات الخلفيات الدرامية المختلفة والمعقدة، في وتيرة غير ثابتة، داخل إطارات ثابتة ومتحركة تُظهِر وتُخفي صورًا ورموزًا عديدة جدًّا.
ما الذي يجعل هذه المقدمة الفلسفية الطويلة مهمة لك؟
يكثر الحديث من وقتٍ إلى آخر حول «الرساليّة» في الأفلام السعودية؛ تُساوَى أحيانًا بالوعظية، وأحيانًا تتسع الدائرة لتشمل كل معنى ثقافي سواء أكان أيديولوجيًا أم لا، وكل ذلك مما يوجب تسقيط الفلم وركنه في خانة الرداءة.
فأتساءل: هل يمكن أن يخلو أي فلم من الرسائل؟ إن كان غياب الرسائل عن الأفلام متعذرًا فثمة أمر آخر يقصده المشاهدون حينما يصفون الفلم بالرسالية بشكل ازدرائي؛ هل يقصدون بروز المواقف الأيديولوجية المتباينة وتوزيعها على الشخصيات وتفضيل إحداها على أخرى؟ أم يقصدون انزياح الفلم من فضاء الجماليات إلى فضاء الفكر؟ أم يزعجهم تبني صناع الفلم لرأي أو موقف دون الآخر؟ أم لأن الرسالة فُضحت لدى المتلقي! ومِن ثَم أصبحت منفّرة، ولو كانت مخفيَّة لاحتفظ الفلم برصانته.
أحاول الإجابة عن هذا السؤال كي لا تتحول هذه الفكرة إلى عقيدة راسخة يكررها الجميع فيما يشبه التواطؤ الجمعي دون تمحيص ومساءلة لها، وهذا ديدن كثير من الأفكار والآراء والرؤى في هذا الوسط تحديدًا.
فلم «ذا بلاتفورم» والتمترس خلف الإيهام بعمق الفكرة
أنتجت نتفلكس في عام 2019 فلمًا بعنوان «ذا بلاتفورم» (The Platform)، وتدور أحداث الفلم في سجن بأدوار عديدة، كل طابق عبارة عن زنزانة لشخصين في وسطها فتحة كبيرة تُمرَّر مائدة الطعام من خلالها ابتداء من الدور الأعلى، فإذا كنت في دور أو طبقة متدنية فلن يبقى لك سوى فُتات تلك المائدة. أتذكر أنني نفرت من الفلم، ولم يكن السبب بعض المشاهد المقززة بل المقاربة المباشرة للفلم وفجاجة النقد على الرغم من توافقي معه.
لا يتطلب الأمر حنكة لملاحظة أن الفلم في صوره وحبكته وثيماته يندرج ضمن التعليق والنقد السياسي، ويستخدم أسلوب المبالغة في إيصال فكرته أو رسالته حول حتمية انسلاخ المجتمع من أخلاقياته الأساسية في ظل اتساع الهوة بين طبقات المجتمع بسبب تبنيه أولوية الفرد على حساب المصلحة العامة ومشروعية الانتفاع الذاتي بكل الطرائق البراقماتية الممكنة دون رادع. التوازي البصري كذلك بارز بين أدوار السجن وطبقات المجتمع، ويُبرِز تجاهل حاجات الآخرين إلى الطعام مثل ما فعل البقية حين كانوا في الطبقات العليا التي هي أقصى درجات الفردية. وأخيرًا: بدا أن الثورة على النظام برمته هي الحل الأخير كما تشير الأدبيات الماركسية.
لا أود الإطالة في مراجعة الفلم، ولكني رغبت في الإشارة إلى «رسالية» هذا الفلم إن صح هذا الوصف؛ وأنَّ نفوري منه، على الرغم من ميلي الواضح إلى موقفه الفكري والأيديولوجي، كان بسبب وضوحه المباشر، وبسبب رسم خطوط واضحة ومتصلة بين كل فكرة وتحويلها إلى صورة سينمائية.
أُعجِب الكثير ممن يستخدم حجة «الرسالية» بهذا الفلم على الرغم من وضوحها؛ إذ لا يقدم الفلم مجرد ترميز فكري في قالب سينمائي ولا حتى في شكل معضلة أخلاقية محيرة، بل هو أقرب إلى الوعظ من حيث اتخاذه صيغة «افعل ولا تفعل». فتساءلتُ إن كان السبب في عدم نعتهم الفلم بالرسالي ناتجًا من توافقهم مع رسالة الفلم، أم لأسباب أخرى أجهلها.
قد يتمترس الفلم خلف الإيهام بـ«عمق الفكرة»، وعندها يكون إعجابك بالفلم إعلانًا لعمقك الفكري لأنك فهمت الفلم، ومن لم يُعجَب بالفلم فهو من عوام الناس ممن لا يملكون فكرًا ولا ثقافة. وقد يندرج الإعجاب بالفلم تحت «وشهد شاهدٌ من أهلها»؛ حيث ينتقد الغرب منظومته الحياتية وما تنتجه من قيم، ويكون انتصارًا مبطنًا وغير مباشر لقيمنا نحن العرب الذين نحمل قيمًا وسطية وتسامحية وتكافلية مقتبسة من تعاليم ديننا الحنيف.
إلا أن كل ذلك لا ينقذ الفلم من تهمة الرسالية إلا إذا كان لهذه الكلمة معنًى آخر. ولا ننسى أيضًا أننا نتحدث عن نتفلكس، المنصة الأشد بروزًا في تبنيها أحد الأطياف الفكرية والسياسية -اليسار أو اليسار المتطرف- ونحن أنفسنا الذين نرفض بشكل قاطع تجلي بعض تلك القيم ضمن رسائل مبطنة في بعض أفلامها. وعليه فإن حجة الرسالية كما يستخدمها البعض غير ثابتة وغير متسقة.
لماذا جذبتني الرساليّة في فلم «فايت كلوب»؟
ولكن قد أكون منافقًا في نقد فلم «ذا بلاتفورم» لأنني من أشد المعجبين بفلم «فايت كلوب» (Fight Club) للمخرج ديفيد فينشر! وليس جائرًا القول إن الفلم يمثل نقدًا لاذعًا لقيم الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية، أي إنه يؤدي الدور ذاته الذي يؤديه فلم «ذا بلاتفورم»، فلماذا أنفر هناك وأنجذب هنا؟
قد نجد الإجابة في الفقرة الأولى من هذه المقالة. أزعم أن «فايت كلوب» يخفي رسالته بشكل أكثر تعقيدًا وتحت عدة طبقات، أولاها أنه أخذنا في رحلة بعيدة عن موضوع رسالته في شكلها الظاهر إلى المصارعة والقتال، حيث لا نرى ترابطًا مباشرًا بينها وبين رسالة الفلم. ثانيتها انجذابنا إلى شخصيات العمل بخلفياتها الدرامية التي تنسينا موضوع الفلم المبطن. ثالثتها تضليلنا من خلال التغيّر غير المتوقع في الأحداث (البلوت تويست)، على الرغم من النهاية المشابهة لفلم «ذا بلاتفورم» المتمثلة في الثورة.
ولكن من خلال هذه المراجعة السريعة نرى أيضًا ما ذكرناه في الفقرة الأولى، حيث إن هناك احتمالية أكبر لتعدد القراءات في هذا الفلم، ومن ثم تكون مساحة تشظي المعاني أوسع ومساحة الإجابات الواضحة والمباشرة أضيق، وهنا أستنتج أن مشكلتي ليست في «رسالية» الفلم بل في صراحته ومباشرته.
ولكن هل نشير جميعًا إلى المعنى نفسه حين نتحدث عن الرسائل في الأفلام؟
لماذا الرساليّة في السينما السعودية أكثر تعقيدًا
من خلال الحديث السابق أستنتج أن النقاش قد يقع في فخ الدلالات (Semantics)، حيث تستخدم مجموعة ما مصطلحًا واحدًا لقصد أشياء مختلفة. ولكن هذا التعارض في المعاني والمدلولات بين متلقي الأفلام يلقي بظلاله على الصنّاع، ويشكل آراءً لديهم تحدد رؤاهم في صناعة الأفلام. إذ نجد أحيانًا من يحاول أن يصنع فلمًا يخلو تمامًا من الرسائل بسبب تأثره بالأصوات التي تعلو ضد الرسائل، وبحسب فهمه فإنَّ غياب الرسائل يعني غياب المادة الثقافية؛ وبهذا يتحول فلمه إلى حكاية خاوية بلا معنى، تنتهي بنهاية المشهد الأخير.
ندرك أن الأمر فيما يخص السينما السعودية أكثر تعقيدًا، لسببين: الأول هو صعوبة الحديث بشكل نقدي حول الذات لما في ذلك من حساسية ومكاشفة. والثاني هو سهولة اكتشاف الرسائل في الأفلام التي تخص ثقافتي، بخلاف الأفلام المنتجة في بيئات ثقافية مختلفة مثل كوريا الجنوبية وإيران وفرنسا والبرازيل.
فأنا لا أملك خلفية ثقافية قوية فيما يخص الرأي العام البرازيلي، ولا أعلم ما أحزابهم السياسية، ولا ما يدور من نقاشات حول الموضوعات الخلافية عندهم. أعلم أن البرازيل من دول العشرين! أي أنها ذات اقتصاد قوي، ولكن لا أعرف كيف ينعكس ذلك على طبقات المجتمع وفئاته، بل لا أعرف حتى ما تلك الفئات، هل هي دينية طائفية أو سياسية بحتة أو عرقية أو مناطقية؟
وعليه، حين أشاهد فلم «The City of God» فأنا أقرأ هذا النص أو الفلم بحسب ما أملك من قيم عالمية عن الفقر والمعاناة والسلطة المتمثلة في حيازة السلاح والبلطجة والأموال، أو قيم أخرى تخص دور المرأة في المجتمع لأفهم النساء في الفلم. ولكن في المجمل لن أكون قادرًا على رؤية رسائل في الفلم مثلما يفعل البرازيلي؛ فهو يمتلك السياق الثقافي برمته، وقادر على رؤية كثير مما يدور «تحت النص»، وهو الأقدر على رسم خطوط فئوية بين العصابات، وربما ربطها بمناطق أو أعراق أو ديانات، وهو الأقدر على فك الكثير من رموز الفلم.
لهذا السبب قد نظن أن كل أفلامنا رسالية؛ لأننا أكفأ لفك رموز أفلامنا ومسلسلاتنا، ونستطيع أن نفهم بشكل مباشر جميع السياقات الثقافية في أفلامنا إن وُجدت، وأقول: إن وُجدت. لأنها قد تُغيَّب للسبب الأول الذي ذكرته آنفًا وهو الخوف من مواجهة الذات.
فمن السهل أن أرى الشيعي والبدوي والجنوبي والثري والنصراوي والمولّع والدرباوي وغيرها من فئات المجتمع، وأفهم جميع ما تحويه هذه الكلمات والتوصيفات من عوالم للمعنى تحت النص، وأستطيع أن أرى مباشرةً إحالات حول التطرف الديني وإن كانت تلميحات قصيرة وسريعة. مشاهدة ذواتنا تجعلنا متلقين شديدي الحساسية تجاه ما قد يكون مبطنًا، بخلاف أنفسنا حين نشاهد فلما من خارج ثقافتنا. بل إن «سنسر» الحساسية يشتعل فورًا حين نلمح ما قد يتقاطع معنا حين نشاهد فلما أجنبيًا، ويختلف تركيزنا مباشرة لأن الأمر بات يعنينا الآن.
كيف نجح فلم «أحلام العصر» في تجاوز فخ الرساليَّة؟
حين نتناول فلم «أحلام العصر» مثلًا، لا يمكن القول إنه يخلو تمامًا من الرسائل، ولكن ما الرسالة أو تلك الرسائل الذي يقدمها؟ أهي معنى الشهرة بين الجيل السابق والجيل الحالي وطرائق الوصول إليها، ونقد مشاهير التواصل الاجتماعي عبر إبراز العالم السفلي منه؟ أم حكاية أب يعاني من اكتئاب ما بعد الشهرة ونرى العلاقة النفعية المسمومة بينه وبين ابنته؟ أم أن هناك رسائل نقدية حول تدني ثقافة اللاعب السعودي؟ أم استغلال الهوامير فضاءات التواصل الاجتماعي للتكسب غير المشروع؟
ينجح «أحلام العصر» في تجاوز فخ الرساليَّة، ليس من خلال محوها بالكامل من الفلم، إذ إن ذلك مستحيل، وإنما من طريق خلق مستويات متعددة من المعاني تتولد من خلال تعقيدات الحبكة والشخصيات وعناصر السينما الأخرى. وذلك ما يجعلها رسائل غير مباشرة، إضافة إلى قابلية توليد المعاني من المتلقي حين تكون هناك شبكة معقدة من الرموز والدلالات الثقافية. فما يبدو أنه نقد للرسالية والوعظية إنما هو نقد للمباشرة والوضوح.
هناك ما يثير الاهتمام أيضًا.
تعيش السينما السعودية اليوم نفورًا شديدًا من الرمزية المبهمة والأفلام العصية على الفهم والتأويل، بل حتى ما يوصف بأفلام المهرجانات ليست رائجة اليوم. أذكر هذا النوع من الأفلام السريالية والعبثية وحتى الشعرية لأنها تأتي كأسلوب مقاومة لأي شكل من أشكال الرسالية والمواعظية، وإذا كان المشاهد يرغب في أفلام بلا رسائل وبلا مواعظ وبلا أي شكل من أشكال التبطين الثقافي فلماذا ينفر من هذه الأفلام؟
المشاهد بطبيعته يبحث عن المعنى في النصوص، بل يشكّلها ويتخذ سبلًا كثيرة للوصول إلى معنى يقنعه؛ فتارة يعود إلى ذكرياته وتجاربه الخاصة كي يفهم ما يشاهده ويتلمس المعاني، وتارة أخرى يستخدم معرفته حول صنّاع العمل كي يربط الفلم برؤى صنّاعه. ردة فعل الجمهور حول أفلام «ناقة» و«الهامور ح. ع.» و«مندوب الليل» على تقارب مواعيد صدورها ليست متعلقة بالفن كنص منفصل عن صاحبه، بل إن صانع العمل يتم تنصيصه عبر دمجه بالفلم لينتج نصًا توليفيًا يجمع الفلم بصانعه، وتؤخذ أقواله السابقة وآراؤه في الحسبان في عملية تشكيل المعنى لدى المتلقي. وهذا ما قد يبرر تفاوت تقبُّل الناس الثيمات نفسها من فلم إلى آخر.
هناك كثيرٌ يقال حول التلقي عامة وتلقي الأفلام بخاصة؛ فطرائق التلقي تكشف الكثير عن أنفسنا وما مررنا به في حياتنا. نحن نركّز أحيانًا في أدق التفاصيل في فلم ما، وأحيانًا أخرى نقرر أن نتجرع الفلم كتلة واحدة اختزالية وعامة، ومن ثم نطلق حكم السطحية عليها، وكأنما لا بد للفلم من أن يعقد اتفاقًا ضمنيًا معنا في أوله ليفوز بتركيزنا، وليحظى بقبولنا دعوته كي ندخل عوالمه ونضفي المعاني على أشيائه وتفاصيله الدقيقة ودعمه في سجالات الجمال والفن والعمق والفرجة الممتعة.
أخيرًا: لا ينبغي أن نأخذ أفكارنا وتأملاتنا حول السينما -والسعودية منها تحديدًا- كمسلّمات موضوعية، بل هي مساحات للأخذ والرد. دعنا نتخلّ عن هاجس التنوير وكتابة السطر الأخير وإعطاء الرد الجامع المانع. فنحن نتحدث عن فن، وهذا الفن تحديدًا على قدر كبير من السيولة والذاتية التي تُثرَى من خلال قدرة المنخرطين في المجال على صياغة أفكارهم ورؤاهم بوضوح وشفافية وذاتية، وليس من خلال ادعاء الموضوعية والمنهجية والإتيان بالقول الفصل.
فاصل ⏸️
اليوم نقول أكشن في هذا المشهد الافتتاحي الطويل من الفلم الأرجنتيني «Wild Tales» الصادر عام 2014. يسرد الفلم ست قصص قصيرة منفصلة حول التطرف السلوكي الذي قد يندفع إليه الإنسان متى وجد نفسه في كرب.
يبدأ المشهد مع لقطة مقربة «كلوز-أب» على عارضة الأزياء «إيزابيل» وهي تستكمل إجراءات السفر، وتسأل إن كان بإمكانها نيل أميال إضافية على التذكرة المدفوعة من شركة.
تواصل الكاميرا متابعة «إيزابيل» دونًا عن جميع ركّاب الطائرة. وفي لقطة عريضة واسعة، يتطور نقاش التعارف بينها وبين الناقد الموسيقي «سالجادو» الجالس بجوارها. يدرك الطرفان أن هنالك شخص يجمعهما - «قابرييل باسترناك» - حبيب عارضة الأزياء السابق والطالب الذي قدَّم أطروحته لمسابقة موسيقية كان الناقد «سالجادو» رئيسًا للجنة التحكيم ورفضها.
تتسع اللقطة مع انضمام الراكبة الجالسة أمام «سالجادو» إلى المحادثة لنكتشف أنها المعلمة التي تسببت في رسوب «باسترناك» عندما كان في السابعة من عمره. ليقف «سالجادو» معلنًا: أهنالك أحد آخر يعرف قابرييل باسترناك؟
وكالقنبلة الانشطارية يدرك جميع الركّاب أنَّ باسترناك هو الرابط بينهم. وبينما تركيز عدسة الكاميرا على المعلمة وهي تشرح كيف حصلت على تذكرتها المدفوعة، لا نتنبَّه إلى المضيفة خلفها وهي تظهر بشكل جزئي مغبش عند باب قائد الطائرة، بعدها تلتفت المضيفة وتدخل في تركيز عدسة الكاميرا التي ستنتقل إليها وهي تشارك الركّاب أن «باستيرناك» هو مساعد الكابتن وقد أقفل على نفسه حجرة الطيّار.
تنتقل الكاميرا في لقطة مقربة إلى رجل يطرق باب الحجرة بقوة، لنكتشف أنه طبيب «باسترناك» النفسي الذي ظل يعالجه لسنوات، لكن بعدما رفع أجره ما عاد «باسترناك» يذهب إليه. وبينما يصرخ الطبيب متهمًا والدي «باسترناك» بأنهما سبب كل ما يعانيه نفسيًّا، تنتقل الكاميرا إلى زوجين مسنين جالسين في حديقة بيتهما بهدوء، ومن خلفهما تقترب الطائرة في سقوطها. وينتهي المشهد الانتقامي بلقطة جامدة على الزوجين المسنين قبيل اصطدام الطائرة بهما.
يتلاعب المخرج داميان زوران في هذا المشهد بآلية «الشخصية المحركة للأحداث»، إذ نتوهم في البداية أنَّ «إيزابيل» هي بطلة القصة، لنكتشف بعدها أنَّ الشخصية الفعلية المحركة للأحداث هي شخصية لا تظهر أبدًا أمام الكاميرا، لكنها المحرّكة للكاميرا في تنقلاتها بين الجميع.
ولعل قرار زوران عدم إظهار شخصية «باسترناك» دلالة على الشخصية العاطفية الهشَّة التي لا تنسى جراح الآخرين ومع ذلك تظل عاجزة عن مواجهتهم. وقد تحمل أيضًا رسالة مبطنة حول رؤية الشخصية الهشّة إلى نفسها على أنها ضحية الجميع، والتي ترمز إليها لقطة المجلة التي تتصفحها «إيزابيل» وتقف عند صورة لغزال يطارده قطيع من النمور.
بعد عرض الفلم بأقل من عام، وقعت حادثة انتحار مساعد كابتن الطائرة الألمانية «جيرمان ونقز» عام 2015 وتعمده قتل ركابها المئة والخمسين، وسرت شكوك بأنَّ الحادث كان صدىً للفلم. وبالفعل واجه عرض الفلم في لندن موجات غضب تطالب بإزالته من دور السينما.
فاز الفلم بجائزة البافتا «لأفضل فلم غير ناطق باللغة الإنقليزية» كما ترشح لجائزة الأوسكار عن فئة «أفضل فلم أجنبي»، وترشح لجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان. ورغم شبهة وصول رسالة خاطئة إلى مساعد كابتن الطائرة الألمانية، فالفلم يستحق كل الترشيحات والجوائز... بجدارة.
ذكر حسين الضو أهمية فهمنا سياقات أفلام أمريكا الجنوبية حتى نقدر «نلقط» رسائلها 🫤 ولأنه ذكر فلم من البرازيل قررنا نروح على الأرجنتين، وعمومًا ما في فرق بما أنَّ كثير منّا -خارج سوالف ميسي ونيمار- ما عنده معرفة كافية لا بسياق البرازيل ولا سياق الأرجنتين. 🫠
توصيتنا لك هذا الأسبوع فلم الإثارة الدرامي الأرجنتيني «The Secret In Their Eyes» الصادر عام 2009، واللي نجح في إثارة اهتمام الجمهور خارج أمريكا الجنوبية وإمتاعهم بسينما ساحرة، وفاز بأوسكار أفضل فلم أجنبي.
بعد تقاعد الوكيل القضائي «بنيامين» من سلك القضاء، يقرر يكتب رواية مبنية على جريمة قتل واغتصاب امرأة وقعت في بوينس آيريس قبل عشرين سنة ظلت تشغل باله؛ يرتجي من فعلته سلامة الطوية، ورافض فكرة اليأس اللي يقول عنها العرب: أحد الراحتين.
وحتى يحقق هدفه، يلتقي «بنيامين» بالقاضية «أيرين» اللي كان يعمل تحت إشرافها بصفته محقق جنائي (وكان منجذب لها) ويبلغها عن رغبته في توثيق الجريمة أدبيًّا. بعدها نتابع خطين زمنيين في الفلم، خط يرجعنا للماضي في 1976 وقت وقوع الجريمة والتحقيق اللي جرى وقتها، وخط الحاضر بعد اقتناع «بنيامين» أنَّ الجاني الحقيقي لا يزال حر طليق ويطالب بفتح الملف رسميًّا وملاحقته.
الفلم نال إعجاب الجمهور والنقاد لأنه يجمع بين الغموض والرومنسية والكوميديا ويعطيك نهاية من أعظم النهايات. وحتى إذا ما عرفت أبسط حقيقة عن تاريخ الأرجنتين الحديث، تحديدًا نقطة التحول السياسي اللي صارت في 1976 وتوابعها، واعتمدت فقط على السياق السياسي والاجتماعي اللي قدمه الفلم من غير تعمق تاريخي، لن تتأثر متعتك أو تحس إنه في رسالة فاتتك (على عكس ميسي اللي رح يلقطها، واللي ممكن نيمار يلقطها أيضًا بحكم الجيرة👀.)
تحذير 🚨
لا تظلم نفسك وتشوف النسخة الأمريكية من الفلم 😑.
إذا صار عندك فضول تشاهد الفلم البرازيلي «The City of God»، فهذا الفلم وصفه مخرجه فرناندو ميريليس: «البرازيل كأنها دولتين، برازيل لأصحاب الطبقة المتوسطة وبرازيل الفقراء؛ والبرازيل الفقيرة التي يسيطر عليها تجار المخدرات هي التي يتمحور حولها الفلم.» وهذي أول معلومة لك اليوم في دريت ولا ما دريت. 🇧🇷👦🏽
على الرغم من أن فلم العصابات جرى تصوير بعضه في ريو دي جانيرو، إلا أن المخرج اعترف بأن الأحياء الفقيرة الفعلية في «مدينة الرب» كانت محفوفة بالمخاطر بحيث يستحيل تصوير مشاهد فيها. ولهذا السبب جرى تصوير الفلم في المناطق المجاورة الأقل خطورة.
لتحقيق أقصى قدر من الأصالة في الفلم استعان ميريليس بممثلين غير محترفين من أولاد ينتمون إلى البيئة نفسها، من ضمنهم لياندرو فيرمينو الذي أدى دور «لِل زي» ويقيم في ضاحية «سيداد دي ديوس»(مدينة الرب الحقيقية).
لياندرو فيرمينو لم يكترث لاختبار أداء الفلم ولا كانت لديه أي رغبة في التمثيل. هو فقط حضر الاختبار لدعم صديق، وفورًا تلقَّى فيرمينو عرضًا يأداء أحد الدورين الرئيسين!
نعرف من الفلم الوثائقي «مدينة الرب - بعد 10 سنوات» أنَّ الممثليْن الرئيسيْن المبتدئين عُرض عليهما الاختيار ما بين الحصول على نحو 10 آلاف ريال برازيلي (3 آلاف دولار أمريكي) مقدمًا أو نسبة مئوية من إيرادات شباك التذاكر. اختار كلا الممثلين الحصول على الدفع مقدمًا. (لو وافقوا على نسبة 1% كانوا سيحصلون على 25 ضعف المبلغ اللي استلموه مقدمًا. لكن قبل ما تلومهم على عدم أخذ المخاطرة تذكّر البيئة الفقيرة اللي ينتمون لها، ويقينًا صنّاع الفلم كانوا مدركين أنَّ على الأغلب الخيار الأول سيؤخذ.)
الحوار اللي جمع بين الشخصيتين روكيت (ألكسندر رودريقز) ومارينا (قرازيلا موريتو)، حين يقول روكيت إنَّ لم يسبق أن استحم بماء ساخن، ليس ضمن سيناريو الفلم. الحوار كان حقيقي بين الممثليْن وسجلته الكاميرا وقت الاستراحة، وفعلًا لم يسبق لألكسندر رودريقز الاستحمام بماء ساخن في حياته.
اللقطة التي صورت وفاة «لل زي» كانت من تصوير ألكسندر رودريقز؛ لأنَّ مدير التصوير الفوتوغرافي سيزار شارلون أصر على أن يصور رودريقز اللقطة بنفسه، وأصر على تعليم رودريقز كيفية تشغيل الكاميرا. وشارك شارلون هذا الإصرار مع ميريليس الذي اتفق معه.
تدرَّب نحو 100 من الشباب البرازيليين المحليين غير الممثلين في ورشة عمل للتمثيل المنهجي لعدة أشهر قبل بدء التصوير. مارسوا في الورشة محاكاة حروب الشوارع الجريئة، ومعارك الأسلحة والعصي، مما أدى إلى أداء جماعي شبه واقعي.
لتجسيد الضغينة بين «دادينيو» و«ماريكو»، طلبت المدربة بالوكالة من الممثل ريناتو دي سوزا (ماريكو) أن يتنمر على دوقلاس سيلفا (دادينيو) لأكثر من أسبوعين. وحين صفع ماريكو دادينيو في الفلم، كانت ردة فعل سيلفا الغاضبة ودموعه حقيقية 100%. واستاء سيلفا للغاية وكاد يغادر تصوير الفلم.
الكثير من مشاهد الفلم ارتجالية. على سبيل المثال، المشهد الذي يصلي فيه رجال العصابات قبل المعركة ليس مكتوبًا في النص. بدلاً من ذلك، سأل صبي محلي صغير المخرج ميريليس عما إذا كانوا سيصلون قبل المواجهة المميتة مع الخصوم كما كان معتادًا في ريو. واستجاب ميريليس بالسماح للصبي بقيادة حفل الصلاة، وهكذا أصبح الصبي جزءًا من الفلم.
ميم النشرة
مقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.