التجرد: موضة أم تصميم مساحة خالية من التوترات؟

في عام 2009، أسس الصديقان الأميركيان جوشوا ميلبورن وريان نيكوديماس حركة «التجرد» (Minimalism) التي تهدف إلى التخفّف من كل جوانب الحياة. لكن جذور التجرد...

لا تخفى الثقافة الاستهلاكية المعاصرة على أحد، بدءًا بالإعلانات المصمّمة خصّيصًا للضرب على الوتر النفسي الحسّاس، مرورًا بإنتاج مواد استهلاكية رديئة الجودة أو مُستلزِمة لملحقات مكمّلة لعملها، وانتهاءً بالحركات التسويقية التي تهدف إلى جذب المستهلكين للشراء أكثر فأكثر تحت إغراء الخصومات!

فيلجأ البعض إلى ملء الفراغ في حياتهم -سواءً كان ماديًّا أو نفسيًّا- بالاستهلاك أكثر، مصمّمين بيوتهم بغرف زائدة عن الحاجة، مع مقتنيات منسيّة لا يتم استخدامها، وأجهزة مليئة بالتطبيقات والمستندات الفائضة، بالإضافة إلى الدخول في علاقات اجتماعية سطحية لا تضيف شيئًا فقط لتفادي الشعور بالوحدة؛ مما يرسم صورة حياة مشتتة مليئة بالضغوط والاستهلاك القهري. 

ويظهر تأثير هذا الحمل المادي جليًّا على النفس، لا في تكدّس زوايا البيت فقط أو امتلاء ذاكرة الأجهزة الإلكترونية، وإنما كمصدر ضغط نفسي وتشتيت ذهني وعجز اقتصادي أيضًا! يقول الكاتب تايلر دوردن: «ما نملكه سيتملّكنا في نهاية المطاف».

نشأت في الستينيات حركة «الفن التجريدي» التي تهدف إلى تقليل استهلاك المواد المستخدمة في إنتاج الأعمال الفنية كالأعمال التشكيلية والموسيقية. تبعها بعد ذلك اتباع الأسلوب التجريدي في العمارة والتصميم الداخلي، بحيث يقتصر التصميم والديكور المنزلي على ما هو ضروري وجوهري بجودته وقيمته.

وفي عام 2009، أسس الصديقان الأميركيان جوشوا ميلبورن وريان نيكوديماس حركة «التجرد» (Minimalism) التي تهدف إلى التخفّف من كل جوانب الحياة. لكن جذور التجرد كفكرةٍ ونمط عيشٍ ظهرت قبل ذلك بكثير، وتعود لأصول دينية تتمثل في الزهد كاتّجاه روحاني يعفّ النفس عن الرفاهية غير الضروريّة.

الخفة كأسلوب حياة 

تقول قاعدة الاكتناز الذهبية: «كل ما لم تستخدمه في السنة الفائتة لا تحتاجه». فلمَ لا تبيع أو تتبرع بما لم تعد بحاجته؟ والقاعدة الذهبية في الشراء هي أن تسأل نفسك: هل أحتاج هذا المنتج أم أرغب به؟ فالتفريق بين الحاجة الملحّة ونزوة الرغبة مهم أثناء الشراء. وليس ذلك فحسب، بل انتقِ ما تشتريه بعناية وقارن بين المنتجات واختر أفضلها جودةً وسِعرًا.

لا يعني مبدأ التجرد امتلاك القليل فقط، بل هو حالة ذهنية تنتهج الخفّة. فبدلًا من حياة تخنقها الضغوط والمشتّتات، ينتهج الفرد حياة بسيطة ومُنتقاة بعناية.

يمكن للفرد تطبيق المبدأ على الأغراض الشخصية كالملابس والحقائب والأحذية، والكماليات كالإكسسوارات والساعات والعطور، والأجهزة كتطبيقات وصور ومستندات وجهات الاتصال على الهاتف المحمول والحاسوب الشخصي، والمنزل كالأثاث والغرف غير المستخدمة، والعلاقات الاجتماعية السطحية التي لا ترابط ولا عمق فيها ولا تجدي نفعًا.

كما يعتمد أسلوب الديكور المتجرّد على البساطة والضرورة، ممّا يوفر بيئة مريحة لأفراد المنزل بلا مشتتات ذهنية أو أعباء إضافية، فيحتوي المنزل على ما هو ضروري فقط.

نشرت مجلة وول ستريت دراسة على مدى أربع سنوات (2014-2017) لاثنين وثلاثين عائلة أميركية لرصد الأماكن التي يقضي فيها الأفراد معظم وقتهم. وأظهرت النتائج أن المساحة المستخدمة في البيت لا تتجاوز 40%.

إضافةً إلى ذلك، تقضي العائلة 68% من وقتها في المطبخ وغرفة العائلة، أما غرف الطعام والمعيشة والشرفة فاستخدامها شبه معدوم. لتعادل نسبة الخسارة المالية 60% المتبقية من مساحة البيت غير المستخدمة!

ثقافة التجرد عند العرب

تطغى الاستهلاكية على ثقافة المجتمع الشرقي. حيث يركز تصميم البيوت -الخليجية بشكل خاص- على مجلس الضيوف بشقيه المخصص للرجال والنساء، فيطغى بمساحته على أي غرفة أخرى. كما تخصص أطباق وكؤوس لا تستخدم إلا في المناسبات الكبيرة. 

وصحيحٌ أن هذه الممارسات وُجدت لعكس شيمة الكرم عند العرب في الضيافة. ولكن هل يعد اللجوء إلى كل هذه المبالغات المنزلية والاقتصادية ضروريًّا؟ 

أسست مصممة الديكور سوسن هبر الحركة التقليلية المنزلية في لبنان، والتي تهدف إلى تصميم المنازل بطريقة عملية واقتصادية، مع الحفاظ على جمال التصميم واتساعه للضيوف. منها: تقليل محتويات الغرفة إلى أقل حد ممكن، دون اللجوء إلى حشو الغرفة بقطع غير ضرورية أو زيادة أقسام فائضة عن الحاجة، مع التخزين بطريقة ذكية وعملية كالتخزين الخفي والأثاث متعدد الاستخدام.

أما بخصوص عادات الزواج، فأسست السيدة رانيا يحيى حملة «بلاها نيش وحاجات ما تلزمنيش» في مصر، والتي تهدف إلى تقليل مستلزمات واحتياجات الزواج إلى الحد الأدنى بحكمة وتخطيط، بدلًا من دفع مبالغ طائلة لا داعي لها قد تدخل الزوجين في دوامة من الديون والقروض. 

وفي مجال الأزياء، أسست المصممة المصرية جيلان عاطف حملة تقليلية تهدف إلى تخفيف محتويات خزانة الملابس والصرف على اللبس باللجوء إلى تصميم الأزياء بطريقة عملية -حتى الرسمي منها- بحيث تتماشى مع أحدث صيحات الموضة، وبنفس الوقت يمكن ارتداؤها أكثر من مرة بطريقة مختلفة، بالإضافة إلى إعادة تدوير الملابس القديمة إن أمكن أو التبرع بها.

أسلوب حياة صديق للبيئة

يمتد أسلوب التجرد المنزلي ليشمل أيضًا مخلّفات المنزل. ففي عام 2000، قامت في الولايات المتحدة حركة تخففية للتشجيع على ترشيد إنتاج النفايات وإعادة تدوير كل ما يمكن تدويره، ثم انتشرت في عدة دول أخرى في أوربا وآسيا.

تهدف الحركة إلى العيش بلا بلاستيك ولا أغلفة ولا قمامة، أو بعبارة أخرى: «حياة خالية من النفايات» لتقليل الأثر السلبي للنفايات على البيئة كمصدر لغاز الميثان السام وتلوث التربة وتسببها في زيادة الاحتباس الحراري.

وتركز كذلك على اللجوء إلى اقتناء الأشياء المستعملة وإعادة تدويرها أو استخدامها، بدل شراء الأغراض الجديدة، مع تسليط الضوء على أهمية تقصي أخلاقيات الماركات والشركات ومحاسبتها إذا ما ثبت عنها إخلالها بالقيم الأخلاقية والبيئية.

الآثار الصحية لحياة التجرد

إنّ التجرد لا يقتصر فقط على فوضى مادية أقل، بل يؤثر على الضوضاء التي تشغل أذهاننا أيضًا. فبضبط الضوضاء الخارجية، يُشحذ التركيز على ما هو مهم وفعّال في بيئة أكثر راحة وأقل توترًا.

إذ تحفّز الإشارات البصرية الأعضاء الحسية للتفكير والمعالجة الذهنية لما يقع عليه بصرك. سيمنحك التنظيم والتجرد مساحة أكبر مع شعور بالراحة والسلام، على عكس البيئة المزدحمة التي تعدّ مصدر ضيق وارتباك.

إضافةً إلى ذلك، يصبح الاعتماد على الماديات كمصدر للسعادة شبه معدوم؛ ويقابله استمتاع أكبر بالتجارب. كما يوفّر تقليل الشراء أو تحكيم هذه العملية المال ويحقق الجودة. 

وجدت الباحثة والأخصائية النفسية نيكول كيث في دراسة أجرتها على حوالي الألف أميركي أن التجرد المنزلي يساعد الجسد والذهن على الاسترخاء، من خلال توفر البيئة المنظمة ذات التصميمات الداخلية البسيطة المدروسة. فربطت الصفاء الذهني للأفراد بتنظيم المنازل، مما يجعل الفرد أكثر إنتاجية وإبداعًا.

وفي دراسة أخرى، توصل الباحثون إلى أنّ الفوضى والازدحام المادي لممتلكات المنزل يسبب الإجهاد، كونه يستمر في تحفيز الذهن بالانشغال بكل ما ترسله هذه الماديات من إشارات عصبية للحواس؛ ممّا يخلق ضوضاء في الدماغ أيضًا.

ويتأثر بهذه الضوضاء أكثر أولئك الذين يقضون اليوم بأكمله في العمل، ويضطرون إلى مواصلة مهامهم بعد العودة إلى المنزل. فيطغى شعور نفسي بأن عمل المرء لم يتم بعد، لأن الأشياء من حوله بحاجة إلى التنظيم. والخلاصة أن كثرة الممتلكات في المنزل تلعب دور المنبهات العصبية للدماغ وتتسبب في التوتر والإرهاق النفسي والجسدي لاحقًا.

لا تشنّ هذه المقالة حربًا على المُمتلكات الماديّة أو وفرة العلاقات الاجتماعية، وإنّما تمثّل محاولة لترتيب الأولويّات والإبقاء على ما هو ذو قيمة حقيقيّة. ستتيح ممارسة التخفّف لك المزيد من الوقت وفرصة بناء المزيد من العلاقات العميقة والنمو والعطاء. أما الاستهلاك فهو إدمان يكرّر نفسه دومًا، ويشتت ذهنك عمّا هو جوهري وضروري بالفعل. 

الاستهلاكيةالتصميمالحياةالمجتمعالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية