لماذا ينتحر المزارعون في الهند؟
على مدى السنوات الثلاث الماضية، شهدت الهند عدة مظاهرات زحف فيها عشرات الآلاف من المزارعين من شتى المناطق الريفية نحو العاصمة نيودلهي. لم تكن هذه مظاهرات...
على مدى السنوات الثلاث الماضية، شهدت الهند عدة مظاهرات زحف فيها عشرات الآلاف من المزارعين من شتى المناطق الريفية نحو العاصمة نيودلهي. لم تكن هذه مظاهرات عادية، حيث حمل الكثير من المزارعين بين أيديهم جماجم رفاقهم الذين أقدموا على الانتحار، أملاً في لفت الانتباه لعذاباتهم التي دامت لسنوات دون أن تلقى استجابة جادة من الحكومات المتعاقبة.
تتجاوز دلالة هذه المظاهرات حيزها المكاني والزماني لتحكي قصة أكبر عن تحيزات السياسيات الاقتصادية والتنموية وتبعاتها غير المحسوبة.
بدأت حالات الانتحار بين المزارعين في الهند بالارتفاع بشكل ملحوظ منذ منتصف التسعينيات. ففي الفترة بين 1997 وحتى 2012، أقدم ما يزيد عن ربع مليون مزارع هندي على الانتحار. وتجاوز عدد المزارعين الذين أقدموا على الانتحار في العام الماضي عشرة آلاف مزارع.
ورغم النمو الاقتصادي الملفت الذي شهدته الهند خلال العقود الماضية وتوسع قطاعي الصناعة والخدمات، لا يزال نصف السكان يعتمدون على الزراعة كمصدر أساسي للدخل.
يتفق أغلب دارسي هذه الظاهرة أن السبب المباشر لانتحار هذا العدد الكبير من المزارعين هو عبء الديون المتراكمة. حيث يعتمد الكثير منهم على الاقتراض لشراء البذور والأسمدة والمبيدات، أو لاستئجار مضخات للري. وفي حال فشل المحصول أو انخفاض سعره، يقترض المزارعون لتوفير لقمة العيش لعائلاتهم حتى الموسم القادم.
يقدم الباحث أنوب سادانادان في دراسته «الاقتصاد السياسي للانتحار» عدة أدلة على ارتباط ارتفاع حالات الانتحار بين المزارعين بسياسات الانفتاح الاقتصادي وتحديدًا المتعلقة بقطاع البنوك وسياسات التمويل.
تحرير الأسعار وتشجيع الاستثمار الأجنبي
في تسعينيات القرن الماضي، بدأت الهند كغيرها من الدول في تبني نهج اقتصادي يقوم على تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي وتحرير الأسعار ورفع القيود والعوائق عن التبادل التجاري وتشجيع الاستثمار الأجنبي.
فبعد عقود من التخطيط المركزي والسياسات الحمائية وسيطرة الدولة على القطاع البنكي عبر سياسات التأميم، قامت الحكومة الهندية بتخفيف القيود على حركة السلع ورؤس الأموال وفسح المجال أمام البنوك الخاصة والأجنبية.
ففي العقود التي سبقت الانفتاح الاقتصادي، كان للحكومة قدرة كبيرة على التحكم في سياسات الإقراض والتمويل وتوجيه رؤوس الأموال نحو قطاعات محددة. فعلى سبيل المثال، ألزمت الحكومة البنوك بالتوسع في المناطق الريفية عبر إجبارها على إنشاء أربعة فروع في الريف مقابل كل فرع جديد في المدن.
كما اشترطت تخصيص ما لا يقل عن 40٪ من القروض البنكية للقطاع الزراعي. ساهمت هذه السياسات في سهولة حصول المزارعين على قروض ميسرة وتقليل اعتمادهم على القروض غير الرسمية عالية الفوائد.
القروض المرتفعة تنهش المزارعين
تلاشت أغلب هذه القيود في عقد التسعينيات، حين سمحت الحكومة بإنشاء البنوك الأجنبية والخاصة، وألغت اشتراطات الإقراض للقطاع الزراعي. وأدى ذلك لتوجه التمويل لقطاعات ذات عائد أكبر كقطاع الخدمات والقروض السكنية، وأصبح من الصعب على صغار المزارعين الحصول على قروض بنكية لتغطية تكاليف مدخلات الإنتاج.
صاحب هذا التحول انخفاض الاستثمارات الحكومية في البنية التحتية في المناطق الريفية، خصوصًا الري، وتقلص الدعم الحكومي لأسعار الأسمدة والمبيدات التي يستخدمها المزارعون.
كما أدى رفع القيود على استيراد المنتجات الزراعية لانخفاض أسعار المحاصيل الزراعية المنتجة محليًا، وتوجب على المزارعين منافسة المنتجات الزراعية المستوردة المدعومة حكوميًا، وبشكل خاص المستوردة من الولايات المتحدة الأميركية.
ونتيجة لكل هذا، لجأ الكثير من المزارعين للاقتراض من مصادر غير رسمية كالتجار والموظفين الحكوميين، وبمعدل فائدة أعلى بكثير مما تقدمه البنوك.
لا يتمكن المزارعون في أغلب الحالات من سداد هذه القروض عالية الفوائد، وينتهي الأمر بالكثير منهم بخسارة أراضيهم أو محاصيلهم في سبيل تسديد ديونهم.
كما يحاول البعض تسديد ديونه عبر العمل بلا أجر لدى الدائن. وفي كل عام، يقرر ما يزيد عن عشرة آلاف مزارع أن هذا الحال لا يُطاق، وأن الموت خير من الحياة.
تهميش المزارعين في الاتحاد السوفيتي
بالرغم من وفرة الأدلة على ارتباط انتحار المزارعين بسياسات الانفتاح الاقتصادي، تتجاوز سياسات تهميش المزارعين والمناطق الريفية اقتصاديات السوق الحر، وتمتد لمختلف النظم الاقتصادية.
ففي أواخر عام 1929، قام الحزب الشيوعي بقيادة ستالين بإرسال خمس وعشرين ألفًا من أعضاء الحزب الشيوعي إلى الأرياف والمناطق الزراعية لجمع محاصيل الحبوب عنوةً ومصادرة الأراضي المملوكة للفلاحين وتحويلها لمزارع جماعية تديرها الدولة/الحزب.
كان هدف هذه السياسة دعم برامج التصنيع في الاتحاد السوفيتي، من خلال توفير إمدادات الغذاء للأعداد المتزايدة من العمال القاطنين في المدن وتوفير رأس المال للمشاريع الصناعية عبر تصدير الحبوب.
تصور قادة الحزب الشيوعي أن المزارع الجماعية ستؤدي لرفع كفاءة الإنتاج وتطوير تقنيات زراعية متقدمة تضمن زيادة الإنتاج ووفرة الغذاء.
فقام أعضاء الحزب بمصادرة أملاك المزارعين من أراض ومحاصيل ومواشي وإنشاء مزارع جماعية كبيرة يديرها أعضاء «ثقات» من الحزب لا خبرة لهم بالزراعة. وأُجبر المزارعون على العمل في هذه المزارع لقاء مقابل مالي ضئيل أو حفنة من الطعام، وكان النفي أو القتل مصير كل من حاول الرفض أو المقاومة. وفُرض على المزارع الجماعية حصصٌ إجبارية من المحاصيل تفوق ما يمكن إنتاجه ليتم جمعها قسرًا.
كما مُنع المزارعون من مغادرة المزارع أو الهجرة للمدن، وذلك عبر فرض جوازات سفر للتنقل بين الريف والمدن.
لم تحقق هذه «التجربة التحديثية» الأهداف التي روّج لها قادة الحزب من زيادة إنتاج المحاصيل أو تطوير تقنيات زراعية متقدمة، بل قادت لمجاعات في أرجاء الاتحاد السوفيتي راح ضحيتها ما يزيد عن ثلاثة ملايين إنسان.
التحيز الحضري
رغم اختلاف السياقات السياسية والاقتصادية ومضامين السياسات بين الاتحاد السوفيتي والهند، تعكس كلتا الحالتين نزعة هيمنت على التفكير الاقتصادي والتنموي في الكثير من الدول، يسميها الاقتصادي مايكل ليبتون «التحيز الحضري» (Urban Bias).
يدفع هذا التحيز صانعي السياسات لتركيز الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة والبنية التحتية في المدن الكبرى على حساب القرى والأرياف، وإلى خفض أسعار المنتجات الزراعية القادمة من الريف لضمان أسعار زهيدة لسكان المدن.
وبناء على هذه النزعة، تصبح غاية القطاع الزراعي والملايين الذين يعملون فيه توفير الغذاء والفوائض المالية لدعم مشاريع التصنيع والتحديث في المدن.
ووفقاً لليبتون، يساهم التحيز الحضري في استمرار الفقر رغم ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، خاصة وأن أغلبية الفقراء في الدول النامية يعيشون في المناطق الريفية.
كما تشترك الحالتان في ميل صناع القرار لتبني سياسات تنموية مبنية على وصفات أيديولوجية تبشر بالنمو والإنتاجية ورفع الكفاءة وتحقيق الرفاه للمجتمع، مرة باسم الدولة/الحزب وأخرى باسم السوق.
وتقوم هذه الوصفات الاقتصادية -سواء نبعت من أفكار منظري الحزب الشيوعي أو من توصيات المؤسسات المالية الدولية- على خليط من الأدلة المنقوصة والمصالح الذاتية والتفكير الرغبوي، إلا أنها تُقدم كخيارات عقلانية لا بديل لها.
صاحب تبني هذه السياسات ثقة مفرطة بأنها السبيل الوحيد للتنمية، وإيمان بحتمية نجاحها في بلوغ أهدافها. وأدت هذه الثقة لتبسيط مخل لواقع معقد وعزوف عن استشراف الآثار غير المتوقعة للسياسات التنموية.
كما ساعدت على تبرير أو تجاهل الآثار السلبية لهذه السياسات، ففي ظل القناعة بحتمية النجاح، تصبح معاناة الآلاف من البشر مؤقتة وضرورية.
الإنسان في مواجهة السياسات التنموية
تؤكد هذه الحالتان ضرورة التوجس من الوصفات التنموية النابعة من مسلمات أيديولوجية ثابتة والحاجة لتواضع معرفي يُقر بإمكانية ظهور نتائج غير متوقعة وشجاعة تسمح بالتراجع وإعادة التفكير.
إن الاتساق النظري والثبات على المبدأ محمود في عالم المثل والأخلاق، لا السياسات الاقتصادية والتنموية التي تتطلب الكثير من الانتقائية والبراغماتية المنعتقة من الالتزام الأيديولوجي.
يلخص الإقتصادي ألبرت هيرشمان في مقالته «البحث عن النماذج كعائق للفهم» (The Search for Paradigms as a Hindrance to Understanding) هذا الرأي حين ينصح المعنيين بمسائل التنمية الاقتصادية بالتقليل من اعتمادهم على النماذج النظرية الجاهزة واستبدال ذلك بنظرة قائمة على «احترام أكبر للحياة وتجنب تقييد المستقبل وإفساح مجال أكبر لحدوث غير المتوقع والتقليل من التفكير الرغبوي»