ختم المغادرة

ودعت عائلتي في دمشق بعد شهر من احتفالنا بالعام الجديد على وقع أزيز الرصاص. قطعت الحدود وتنقَّلت وتزوجت وصرت أبًا، ونسيت طبع ختم المغادرة.

بضعُ دقائق وندخل عام 2013. غيومٌ بيضاء ورمادية مكدسة تعلو سماء دمشق. بعد قليل سيهطل الثلج. عند منتصف الليل، وبدلًا من سماع أصوات أناسَ تصرخ فرحًا وأصوات ألعاب نارية، كان صوت الرصاص الحي القادم من الحواجز العسكرية البعيدة والقريبة، ينهال نحو السماء احتفالًا بالعام الجديد. 

خلد والداي وإخوتي إلى النوم جميعًا عند الساعة التاسعة ليلًا، بعد أن انقطع تيار الكهرباء في أغلب أحياء منطقة المزة بدمشق منذ الساعة السابعة أو الثامنة تقريبًا. ولم يصحوا على صوت الرصاص الحي، أو أنهم سمعوه وهم غارقون في النوم، مستسلمون لقدرهم ومصيرهم. وبالتأكيد أنهم وأثناء نومهم، لم يفكروا أن هذا الرصاص كان احتفالًا بالسنة الجديدة، بل استمرارًا للمعارك المشتعلة هنا وهناك. 

لكن تيار الكهرباء كان قد عاد عند الساعة العاشرة ليلًا. وكنت قد انتهزت فرصة عودته، في مشاهدة فيلم «فيرتيقو» لألفريد هيتشكوك على جهاز الكومبيوتر. في حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، غلّف صمت مطبق مدينة دمشق. تساقط الثلج بكثافة. وصعدت إلى سطح البيت لأجد أسطح البيوت وقد كساها البياض. 

وداعًا سوريا 

كانت هذه آخر ليلة رأس سنة أقضيها في سوريا. أمضيت أيام شهر يناير وأنا أتهيأ للسفر. أنزل وسط المدينة وأشتري بعض الأشياء الضرورية، وأحاول لقاء من تبقى من الأصدقاء في المدينة لوداعهم. وأحيانًا أجوب شوارعها كلها سيرًا على الأقدام. 

في حوالي الساعة العاشرة صباحًا من اليوم التاسع والعشرين من شهر يناير، كانت سيارة الأجرة التي أحضرها جارنا كي تأخذني إلى قراج السومرية تنتظرني أمام البيت، ومن هناك ستنقلني سيارة أجرة أخرى إلى بيروت.

في ذلك الصباح لم يتواجد أيٌّ من إخوتي وأخواتي في البيت، غادروا من الصباح الباكر إلى المدرسة. فرافقني والداي إلى التاكسي. في الليلة الفائتة، تراهنّا أمي وأنا عمّا إذا كان أبي سيبكي عند وداعي. أخبرتها أنه لن يبكي ورجوتها ألّا تفعل هي أيضًا. قالت وهي تضحك بأنها لن تبكي فلا داعي لذلك إلا أنها أكدت لي أن والدي سيفعل. أما عنّي فلم أرغب في ذرف أي دموع أمامهم. ودعتهم، ركبت بجانب السائق وانطلقنا. 

في الطريق إلى قراج السومرية، اتصلت بأخي الذي يصغرني بأربع سنوات وودعنا بعضنا البعض بكلام موجز فيه الكثير من المشاعر المكتومة. وحالما أنهيت مكالمتي السريعة معه، وصلتني رسالة من أختي الأصغر، وأكبر أخواتها، تعتذر عن عجزها عن توديعي وتتمنى لي التوفيق في رحلتي. 

سوريا-بيروت 

لم أكن سأذهب إلى بيروت لو أن مطار دمشق الدولي كان يعمل في ذلك الوقت. أرسل لي صديقي السوري المقيم في سلطنة عمان دعوة لمدينة مسقط، وكانت الخطة أن أسافر إلى بيروت قبل أسبوع من موعد سفري إلى مسقط. إذ جاء الاقتراح من أحد الأصدقاء اللبنانيين الذي عرض علي القدوم وقضاء أسبوع أو عشر أيام عنده وأسافر من بعدها إلى مسقط عبر مطار رفيق الحريري. 

في الطريق من دمشق إلى بيروت، ارتكبت خطأً. كنت في حالة نفسية سيئة وذهنٍ مشوش، تتأرجح ذاكرتي ما بين مراجعة ما حدث خلال العامين الماضيين في سوريا والتفكير في مستقبل مجهول. أما هذه اللحظة الآنية، فقد كنت أحاول الإفلات منها قدر الإمكان. ونتيجة ذلك، غادرتُ الحدود السورية مُدليًا بطاقتي الشخصية فحسب، بدلًا من جواز السفر الذي ينبغي ختمه في مكتب الهجرة والجوازات، وحسب الاتفاقات الرسمية بين سوريا ولبنان، في حال كنت مسافرًا إلى لبنان في زيارة وتنوي العودة إلى دمشق، ليس من الضروري الدخول بجواز السفر، إذ تكفيك البطاقة الشخصية. أما في حال كنت مسافرًا إلى لبنان بنيّة السفر عبر مطار رفيق الحريري لبلد آخر، يلزمك استخدام جواز السفر عند الحدود السورية اللبنانية . 

سقطت هذه المعلومة مني سهوًا من كثرة شرودي على الطريق. وربما كان السبب الآخر ثرثرة السائق المستمرة الذي كنت أحاول قطع أي حديث جانبي يرغب في مفاتحتي به.ولذلك، لمّا بلغنا الحدود السورية اللبنانية وسألني: أأنت ذاهب إلى المدينة – بيروت أم إلى المطار؟ أجبته: إلى المدينة. ليشير لي بإخراج البطاقة الشخصية ودخول مكتب الهجرة والجوازات لاستخراج ورقة الخروج.

وأنا بالفعل كنت ذاهبًا إلى المدينة. لكنني في نفس الوقت سأغادر عبر مطار رفيق الحريري بعد أسبوع ولن أعود إلى دمشق. و استمر شرود ذهني حتى بعد أن تجاوزنا «مركز المصنع الحدودي» على الحدود اللبنانية السورية، ووقوفي لساعة في طابور طويل من السوريين الذين ينتظرون تأشيرة دخول لبنان. 

بيروت-البربير

بلغت منزل صديقي في منطقة البربير-بيروت حوالي الساعة السادسة مساءً. وعلى التاسعة، اقترح علي صديقي الخروج لتناول العشاء في مطعم «أم نزيه» في الجمّيزة صحبة بعض أصدقائه. ورغم أنني لم أكن في مزاج يسمح بالتعرّف على أناس جدد ولا الانخراط في نقاشات طويلة في أول يوم لي خارج سوريا، إلا أنني كنت محتاجًا لتجديد شعوري بالحد الأدنى من الحياة اليومية العادية دون سماع الرصاص ولا الوقوف على الحواجز الأمنية والعسكرية التي قطَّعت أوصال مدينة دمشق. 

في صباح اليوم التالي، استيقظت باكرًا، تناولت الإفطار مع عائلة صديقي، ومن ثم نزلت لأتمشَّى وسط المدينة. رغم هذا القرب الشديد بين بيروت ودمشق وآلاف السوريين المقيمين والعاملين فيها، إلا أنها أكثر مدينة تتملّكني اتجاهها مشاعرُ متناقضة. لا أحبها ولا أكرهها، لي أصدقاء لبنانيون لا أتعامل معهم إلا بوصفهم سوريين حينما يزورونني بدمشق. ولكن ما إن تطأ قدمي هذه المدينة حتى أشعر أنني في بلد أجنبي، كما لو كنت سائحًا.

الأصدقاء السوريون كثر هنا، نصفهم مقيم بشكل مؤقت بانتظار الحصول على لجوء سياسي أو إنساني في فرنسا أو ألمانيا أو كندا، أي بلد قادر على منحهم حياةً كريمة. 

بيروت-شارع الحمراء

كتبت منشورًا في الأمس على فيسبوك أخبر فيه الأصدقاء أنني وصلت بيروت. لم ينتبه لهذا المنشور سوى صديقي دلير، الذي تواصل معي على الفور. التقيت به مساءً في مطعم «مزيان» في شارع الحمراء. يحب دلير بيروت جدًا، سافر لأشهر قليلة إلى ألمانيا ولم يطق العيش هناك فعاد مجددًا إلى بيروت. (لاحقًا سيعود دلير إلى ألمانيا، ويستقر هناك بشكل نهائي)

ولكي أثبت لنفسي أني بالفعل سائحٌ في بيروت، دخلت مقهى الحمراء بالشارع الذي يحمل نفس الإسم، واخترت طاولة قريبة ومطلة على الشارع. طلبت فنجان قهوة، وفتحت حقيبتي مخرجًا علبة سجائر ودفترًا صغيرًا لتسجيل بعض الملاحظات، كتبت: 

الأربعاء 30/1/2013. بيروت- شارع الحمراء. 

وصلت إلى بيروت في الأمس. كان الطريق متعبًا وشاقًا وبالغ الكآبة.

نازح من حمص

مرّت ربع ساعة من جلوسي في المقهى، دخل رجل يبدو في الأربعين من عمره برفقة زوجته التي ترتدي حجابًا ومعطفًا وتحمل طفلًا رضيعًا، وخلفها تقف فتاة في السادسة من عمرها تقريبًا. وجَّه الرجل نظرات سريعة تجاهي، ثم حوّل نظره للرجلين اللذين يجلسان على الطاولة التي على يميني والتي تبعد مترًا ونصف المتر عن طاولتي.

وقال الرجل أنه نازح من حمص، خسر كل ما يملك، وطلب المساعدة. أخرجت من جيبي، وأنا أشعر بالإحراج 10 دولارات وضعتها في يده، وقام أحد الرجلين وسلّمهُ ورقة من فئة 50 دولارًا. بعد أن غادر الرجل وأسرته وعاد الآخر المجاور لي إلى مائدته، اكتشفت أنهما أيضًا من سوريا. 

بعد دقائق قليلة دخل الممثل السوري أسعد فضة بصحبة المخرج السوري من أصل فلسطيني باسل الخطيب. في هذه اللحظة بالذات تخيلت نفسي مواطنًا من كوريا الشمالية، عاجزٌ على معرفة الفرق بين السوريين واللبنانيين، -لأنني لا أحب هذا الثنائي الفني أبدًا-.

الحدود السورية اللبنانية

في اتصالٍ سريعٍ بصديقٍ سوريٍ آخر، سألني سؤالًا مهمًا أتى بمثابة عملية إنقاذ: هل دخلت لبنان بالبطاقة الشخصية أم بجواز السفر؟ وعندما أجبته، أخبرني أنني، للأسف، مضطرٌ للعودة إلى مكتب الهجرة والجوازات السوري على الحدود السورية اللبنانية وختم جوازي بختم المغادرة السوري إضافة إلى الختم اللبناني في مركز المصنع الحدودي. تعكر مزاجي وتعمق شعوري بالنفور تجاه مدينة بيروت أكثر من ذي قبل. 

وفي الأول من فبراير عند الساعة السادسة صباحًا، كنت أقف في قراج السيارات تحت جسر الكولا،. ركبت الميكروباص إلى مركز المصنع الحدودي، ومن هناك ركبت سيارة تاكسي مع عائلة سورية من ثلاث أفراد، لنبلغ الحدود السورية اللبنانية نحو الساعة التاسعة صباحًا. ولجت مكتب الهجرة والجوازات، وختم الموظف على جواز سفري بـ «ختم المغادرة».

وقبل أن أبحث عن سيارة تاكسي تنقلني مجددًا إلى بيروت، أخرجت من جيبي هاتفيَ الجوال، وسحبت شريحة خط التلفون اللبنانية لأركّب الشريحة السورية، وأعيد تشغيل الهاتف. وصلتني رسالة على الفور من صديقة لم تستطع وداعي قبل السفر: «زعلانة كتير لأني ما قدرت ودعك. كون منيح». بعدها اتصلت بأمي وأخبرتها بما حدث معي، وطمأنتها هي وأبي أن كل شيء على ما يرام. ثمّ عدت إلى بيروت. 

بيروت-مسقط

قضيت أسبوعًا ثقيلًا في بيروت. تشاجرت مع صديقي اللبناني على خلفية بعض المواقف السياسية فيما يخص الوضع في سوريا. وغادرت المدينة وأنا أقسم ألا أزورها مجددًا. وكلما رويت هذه الحادثة لأصدقائي اللبنانيين، يضحكون، ويقول لي بعضهم بمحبة: «سنلتقي بك فيما بعد في دمشق».

في مدينة مسقط، لم يحدث ما خططت له، إذ أني كنت أنوي البقاء هناك لأطول فترة في محاولة للتقديم على هجرة أو لجوء لأي بلد أوروبي. لكن الحصول على إقامة في سلطنة عمان أمرٌ شبه مستحيل للسوريين. تدوم مدة الزيارة الرسمية عشرين يومًا، وفي حال خالفت القانون ومكثت أكثر، سأدفع 10 ريالات عمانية على كل يوم إضافيٍّ. 

وقبل أن تنتهي مدة الزيارة بأسبوع تقريبًا، تواصلت مع صديقٍ سوري كان قد سافر منذ شهرين إلى مصر، واقترح عليَّ السفر إلى هناك، وإمكانية السكن معًا إن أردت، ريثما أجد طريقة أخرى للذهاب إلى أوروبا. كانت بحوزتي تذكرة طيران ذهاب وإيّاب «بيروت–مسقط» اشتريتها من أحد مكاتب الطيران في بيروت بـ 350 دولار. 

أخبرت صديقي الذي استضافني في مسقط أنني لن أعود إلى بيروت. وتوجّهت إلى مطار مسقط الدولي. حجزت تذكرة طيران جديدة ذهاب فقط، « مسقط-البحرين»، «البحرين-القاهرة»، سيدوم ترانزيت في مطار البحرين الدولي لساعتين. 

مسقط-البحرين-القاهرة 

في الخامس والعشرين من فبراير من العام 2013، عند الساعة الحادية عشر صباحًا بلغتُ مطار القاهرة الدولي. في تلك الفترة كانت الهجرة غير الشرعية عن طريق البحر من الاسكندرية في أوجها في مصر. ولكنني كنت أجبن من أن أخوض تلك التجربة. 

أمضيت الأعوام الثلاث الأولى في مصر، أجدد إقامتي السياحية كل ستة أشهر. فبعد عام 2013 بات من يسافر خارج مصر من السوريين غير قادرٍ على العودة، فنِظام تأشيرات الدخول والخروج إلى مصر قد تغير، ولم يعد من السهل القدوم إلا بموافقة أمنية. 

علقت في مصر. وعام 2015 تزوجت حبيبة مصرية. وفي 2018 صِرتُ أبا لطفلٍ نصفه الأول سوري والآخر مصري. وأصبحت أسهو أحيانًا وأحادث أصدقائي السوريين باللهجة المصرية. حياتي في مصر غير واضحة على الصعيد الشخصي، ما بيني وبين نفسي، هل هي «إقامة» تُضمر لجوءً، أم لجوءٌ يضمر إقامةً؟

هاجس العودة 

أما مدينة بيروت، فبقيت رمزًا للأشياء المعلقة بالنسبة لي. لم تغادر لا أحلامي ولا كوابيسي، فإما أن أرى في منامي أني على وشك الدخول إلى سوريا عبر الحدود اللبنانية السورية، أو أنني عالق في مطار رفيق الحريري. 

حلمت مرة أنني زرت بيروت وكنت سعيدًا جدًا. طلبت فجأة من أحد أصدقائي مساعدتي في دخول سوريا سرًا. وجدتُني بدمشق، أقطَع شارع الشعلان وأقتَني كتبًا نادرة من مكتبة عتيقة. لينتابني رعب شديد وتأتي صديقة لتخبرني بضرورة مغادرة دمشق والعودة إلى بيروت فورًا قبل إغلاق الحاجز العسكري الحدود.

وأنا أركض مسرعًا محاولًا النجاة من الاعتقال، تذكرت أنني لم أستطع رؤية أهلي. فصحوت من الحلم مفزوعًا!

الثورة السوريةالقاهرةالهجرةسوريالبنانالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية