سقوط إيليزيم: هل سيوفر مات ديمون علاج فيروس كورونا مجانًا؟
قراءة لفلم مات ديمون إيليزيم الطوباوية وتحدي علاج أزمة كورونا والفجوة بين الأغنياء والمسحوقين داخل النظام الرأسمالي في ظل أزمة الوباء
في أواخر فبراير الماضي، نشرت صحيفة ميامي هيرالد خبرًا عن زيارة أوسميل مارتينيز، وهو مواطنٌ أميركي عائدٌ من رحلةِ عملٍ بالصين، إلى مستشفى جاكسون ميموريال بعدما ظهرت عليه أعراض فيروس كورونا المستجد. وركز الخبر تحديدًا على المبلغ الذي أبلغت شركة التأمين به مارتينيز إثر الفحوصات التي قام بها: 3,270$ (حوالي 12,200 ريالًا سعوديًا). وبحسب إفادة مسؤولي المستشفى لمارتينيز، لن تغطي شركة التأمين سوى 1,400$ (5,200 ريالًا)، أي أن عليه دفع المبلغ المتبقي من جيبه الخاص.
تشخيص الفيروس
وُجِد في التقرير المشترك بين شركة «قالُب» (Gallup) ومنظمة «وِست هيلث» (West Health) المنشور عام 2019 أن ربع الأميركيين أجّلوا علاجهم خلال السنة التي سبقت التقرير، بسبب ارتفاع تكاليف الرعاية الطبية. وتطرح هذه النسبة سؤالًا محوريًا: ماذا لو امتنع الأميركيون عن تشخيص فيروس كورونا خوفًا من تكاليفه الباهظة؟
وبغض النظر عما إذا كان ترامب محقًا بشأن موافقة شركات التأمين على التكفل بتغطية علاج فيروس كورونا، أو ما إذا كانت الشركات ستتكفل بتكاليف الفحوصات فقط دون العلاج، تبقى مسألتا التكاليف الباهظة ومخاوف الإفلاس نتيجة فحص وعلاج كورونا المستجد هاجسيْن قد يمنعان المصابين بالفيروس من السعي وراء تشخيصه أساسًا؛ إن كلف الفحص وحده هذا المبلغ، فكم ستكون تكلفة العلاج ككل؟ ووسط كل هذه الأخبار وجدتني أتساءل: ماذا لو لم يستطع أغلب الناس تحمل تكلفة علاج كورونا المستجد؟
والحقيقة أنني سرعان ما وجدتني أيضًا أستحضر تفاصيل فلم الخيال العلمي «إيليزيم» (Elysium) الذي أخرجه نيل بلومكامب وقاد بطولته الممثل مات ديمون. شاهدته المرة الأولى على إثر التوصية غير المباشرة من بيتر فريس في كتابه «أربعة مستقبَلات: الحياة بعد الرأسمالية» (Four Futures: Life After Capitalism)، وهو الكتاب الذي صاغ أبعاد التساؤل في ذهني من الأساس.
وبينما لا أنكر أن لإيليزيم أثره منذ المشاهدة الأولى، كان للمشاهدة الثانية بغرض كتابة هذه المقالة طعمٌ آخر ووقعٌ أكبر. ويدور الفلم باختصار حول طبقتين من الناس: طبقة الأغنياء القادرين على تحمل تكاليف الرعاية الطبية، وطبقة المسحوقين الذين يفتقرون إلى موارد العلاج المادية والفعلية. وفي سبيل قراءة إيليزيم على ضوء الأحداث الراهنة والانتشار المرعب لفيروس كورونا المستجد، قد يتوجب أخذ خطوةٍ للوراء من أجل الاطلاع على السياقات التي أُنتج الفلم ضمنها.
لمحة إحصائية سريعة
أحد الأسباب الرئيسة لإعلان الإفلاس في الولايات المتحدة الأميركية التكلفةُ الباهظة للرعاية الطبية. من إجمالي عدد المواطنين، كان 8.5٪ (27.5 مليون) بلا أي نوعٍ من التأمين الطبي حسب آخر إحصائية من مكتب التعداد الأميركي، وهذه النسبة أكثر بـ 0.6٪ من العام الذي سبقه. وبلغ متوسط قسط التأمين الطبي سنويًا، حسب مؤسسة عائلة قيصر، 7,188$ للأفراد و20,576$ للعوائل عام 2019.
وفي 2018، حصل خمسون بالمئة من عاملي الأجر في الولايات المتحدة الأميركية على دخل كلي مساوٍ لـ”الأجر الوسيط” المقدر بـ 30,838.05$ أو أقل منه. ويقارن الرسم البياني أدناه تكلفة الرعاية الصحية للفرد عام 2019 بين أميركا ونظيراتها:
في خضم كل هذا، قد لا تبدو فكرة كون الأغنياء وحدهم قادرين على تحمل تكاليف الرعاية الطبية بعيدة المنال، على الأقل في الولايات المتحدة الأميركية. وبالإضافة إلى ذلك، لا عجب في أن يقول المخرج بلومكامب بأن إيليزيم يمثل مستقبلًا ديستوبيًا لما ستبدو عليه الحياة في حال استمر الوضع الراهن كما هو عليه. لكن تحليل الفلم سيأتي لاحقًا. المهم الآن توضيح موقع كل هذه الأمور من الإعراب.
الحياة بعد الرأسمالية
يستفتح بيتر فريس كتابه قائلًا بأن هناك شبحين مهيمنين على الأرض في القرن الحادي والعشرين: شبح الكارثة البيئية وشبح الأتمتة. يهدد الشبح الأول الحياة على كوكب الأرض ككل، إذ إن من شأن الأزمات المناخية أن تعصف في نهاية المطاف بقابلية الحياة على الأرض من أساسها، مما يعني احتمالية أن تكون الظروف غير ملائمة للبشر على الإطلاق، ويعقب على هذه النقطة باحتمالية ارتباط الفرار من هذه الظروف بالرأسمال المادي الذي يمتلكه الفرد بشكلٍ رئيس.
أما شبح الأتمتة فمرهونٌ بعواقب الأتمتة على الظروف السياسية والاجتماعية وما قد تؤدي إليه من أضرار على نمط المعيشة ومستواها. ففي هذا السياق، قد تتدهور مقدرة الناس على تحمل أبسط ضروريات العيش، ولهذا الأمر بطبيعة الحال تبعات شديدة على نمط الحياة.
وبما أن فريس يعتقد بوجود علاقة وثيقة بين كل من الانهيار البيئي والأتمتة من جانب والمجتمع الرأسمالي الذي نعيش في كنفه من جانبٍ آخر، فهو يحاولُ في كتابه القصير تصور الحياة بعد تهاوي المنظومة الرأسمالية على ضوء هذين الشبحين. وبعبارةٍ أخرى، نتيجة اعتقاده بالسقوط الوشيك، إن صح التعبير، للمنظومة الرأسمالية، يحاول فريس تقديم سيناريوهات حياتية قد تحدث بناءً على سير الأمور بالوضع الحالي.
يقول فريس إن المستقبَلات المحتملة لشكل الحياة بعد سقوط النظام الرأسمالي متمحورةٌ حول أمرين اثنين: شكل العلاقات بين الناس أولًا وتوفر الموارد ثانيًا. وفيما يتعلق بشكل العلاقات، إما أن يسود نظامٌ يتساوى فيه الأفراد أو يسودَ نظامٌ هرمي، وفيما يتعلق بالموارد، فهي إما أن تكون وفيرة أو تكون شحيحة. هناك أربع توليفات ممكنة نتيجة الدمج بين هذه الاحتمالات، مما يعني احتمالية تشكّل أربعة أنظمة مختلفة:
وفرةشحمساواةنظام شيوعينظام اشتراكيهرميةنظام ريعينظام إبادي
منظور المسحوقين
في هذا السياق، قد يسهُل على البعض تصنيف هذه الأنظمة الأربعة بشكلٍ مختلف: نظامان شيوعي واشتراكي طوباويان، ونظامان ريعي وإبادي ديستوبيان. وهذا التصنيف، في حال حدوثه فعلًا، مبني على المنظور الذي يقابل بين كل من الطوباوية والمساواة، والديستوبيا والهرمية.
بعبارةٍ أخرى، هو غالبًا منظور المسحوق؛ منظورُ مَن لا يتربع على قمة النظام الهرمي. والحقيقة أن النظامين الريعي والإبادي طوباويان من وجهة نظر المنتفعين منهما، كما أن الشيوعي والاشتراكي في نظرهم ديستوبيان. وفي سبيل فهم بعض الإشكالات المتضمنة للعلاقة بين مواطني إيليزيم والأرضيين في الفلم، فإن من الضروري إعادة موضعة مفاهيم الطوباوية والديستوبيا لا في واقعٍ موضوعي مستقل، بل في موقع الأفراد ضمن علاقات القوى المختلفة.
الطوباوية النقدية
يشكل هذا الحد الإشكالي بين الطوباوية والديستوبيا، أي ارتهانهما في المقام الأول بمنظور الفرد وموقعه داخل المنظومة، ثيمةً رئيسةً في رواية “المسلوب” (The Dispossessed) للروائية الأميركية أورسولا لي-قوين، والمعنونة فرعيًا بـ”طوباوية مبهمة”.
نُشرت الرواية عام 1974، في أوج الحراك الذي كان آخذًا بالتبلور بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهو الحراك الذي عُرف لاحقًا بالطوباوية النقدية. وبشكلٍ عام، تحاول الأعمال الطوباوية النقدية إخضاع مفهومي الطوباوية والديستوبيا للمساءلة الواقعية إن صح القول، أي أنها تضعهما ضمن الظروف التي تفرز هذا أو ذاك. وينتج ذلك وعيًا بحدود كل منهما، كما يبرهن على أن كِلا الطوباوية والديستوبيا نتاج عملية تغيير اجتماعي يجب الكشف عما يختلجها من صراع القوى المختلفة؛ القوى التي تحدد في نهاية المطاف مسمى النتيجة بحد ذاتها.
لم تكن مستوطنة إيليزيم في الفلم طوباوية مبهمةً لا من قريبٍ أو بعيد، بل صُوّرت كما لو أنها طوباوية مطلقة يطمح إليها الجميع؛ يريد الأغنياء القاطنون فيها أن تدوم لهم، ويود الأرضيون أن يبلغوها أو أن يحققوا مثيلها على أقل تقدير. ويجرني هذا التصوير إلى التساؤل عما إذا كان الفلم يُخضع المنظومة القيمية التي تؤله الثراء (وبالتالي الرفاهيات المتولدة عنه) إلى التساؤل أو ما إذا كان يحاول تسليط الضوء على فكرة أن هناك من الثروات ما يكفي الجميع.
إيليزيم: الطوباوية والسعادة والصحة
دخلت مفردة “إيليزيم” القاموس الإنجليزي من Elysium اللاتينية التي جاءت بدورها من اليونانية القديمة Ἠλύσιον πεδίον، وتعني المفردة بشكلٍ عام الفردوس أو حالة السعادة الأبدية. والحقيقة أن استعمال المفردة في الفلم ليس بعيدًا عن هذين المعنيين، إذ إن إيليزيم منذ بداية الفلم فردوسٌ وحلمٌ لأهاليها ولكل من يقطن الأرض.
أقول “لكل من يقطن الأرض” لأن إيليزيم مستوطنة خارج حدود الكوكب، أي أن على الأرضيين النظر للأعلى لكي يروها (في المقابل، لم تكن الأرض “فوق” إيليزيم). وهذا ما يرسخ من البداية ثيمة العلو والدنو، وهي مرتبطةٌ رأسًا بثيمة نحن/هم التي سأتطرق إليها بعد قليل.
يُستفتح الفلم بمشاهد مرعبة من كوكب الأرض عام 2154؛ نشاهد السماء الشاحبة وألسنة الدخان والمباني والمنازل الإسمنتية المصطفة الخانقة للطبيعة، كما نسمع أصوات إطلاق الرصاص وصراخ الناس وغيرها من الأصوات التي من شأنها إقلاق كل من يسكن أرجاء المعمورة. وسرعان ما نكتشف أننا نشاهد الأرض بعدما أدى تفشي الأمراض (CC: كورونا) وانتشار التلوث والانفجار السكاني الضخم إلى تدهور ظروف الحياة لدرجة مهيبة.
وفي مقابل هذا الشحوب والدمار والضوضاء، ينتقل المشهد بعد ذلك إلى مستوطنة هادئة وساكنة، حيث المساحات الطبيعية الخضراء الشاسعة والمنازل الرحبة. ويخبرنا السارد أن هذه المستوطنة هي إيليزيم، حيث يسكن أغنى الأغنياء الذين تمكنوا من الفرار من الأرض كي يحافظوا على أسلوب حياتهم. وتنقسم المواطنة في الفلم جراء ذلك إلى قسمين: الإيليزيون والأرضيون، ولا يحق لغير مواطني إيليزيم التمتع بما يتوفر هناك.
سرير الشفاء
تأتي أهم المشاهد من إيليزيم في نهاية الدقيقة الثالثة، حيث نرى “سرير الشفاء”. في 2154، التكنولوجيا متقدمةٌ لدرجة أنها تمكّنت من إيجاد سريرٍ يشخّص ويعافي كل الأسقام والعلل، مما يمكّن الجسد البشري من العيش للأبد. وبطبيعة الحال، يتواجد سرير الشفاء على إيليزيم، وليس على كوكب الأرض.
ثيمة السعادة المرتبطة بالصحة إحدى الثيمات الرئيسة بالفلم، بل قد يصح قول أنها الثيمة الأهم. وتدور حبكة إيليزيم حول ماكس (مات ديمون) الذي يعمل في مصنع أرماداين الذي يصنّع ذات الأنظمة والروبوتات التي تُستخدم لاحقًا في قمع الأرضيين. يتعرّض ماكس لإشعاع مميت أثناء عمله، ويخبره الروبوت/الطبيب أنه لن يستطيع العيش أكثر من خمسة أيام، فيقرر ماكس الذهاب إلى إيليزيم بأي طريقة بغرض التشافي بواسطة سرير الشفاء. ولكن كيف يمكنه بلوغها وسط المنع؟ لن أحرق كل الفلم.
ولإدراك العلاقة بين كل هذا الاستعراض وتبعات تفشي كورونا المستجد بشكلٍ أوضح، يتوجب الخوض في ثيمة نحن/هم بالفلم.
بين الموسرين والمعسرين
ولذا، في نهاية المطاف، لا بد وأن تجد على سطح الأرض المُمتَلِكِين، ساعين وراء المتع والراحة والجمال، وأن تجد تحت سطحها اللاممتلكين، العاملين الآخذين في التأقلم مع ظروف عملهم
هذا الاقتباس أعلاه مأخوذٌ من رواية “آلة الزمن” للروائي هربرت جورج ويلز المنشورة عام 1895. يسافر بطل الرواية إلى عام 802,701 ويصادف هناك نوعين من المخلوقات: الإيلوي (Eloi) والمورلوك (Morlocks). ولا يحتاج القارئ إلى أكثر من بضع دقائق ليدرك أن الإيلوي عبارةٌ عن مخلوقاتٍ تطورت طبيعيًا من طبقة الأغنياء المرفهة الرقيقة، وأن المورلوك هم التطور الطبيعي لطبقة العمال الأجلاف المسحوقين. ومن خلال التباين الطبيعي بين هذين النوعين من المخلوقات، يمثل ويلز منتهى فكرة الفروق “الطبيعية” بين الأغنياء والفقراء.
في ثلث الساعة الأولى من إيليزيم، ترتسم للمشاهِد معالم الطبقتين المتصارعتين بوضوح؛ هناك الأرضيون الفقراء المسحوقون، والإيليزيون الأغنياء المرفهون. ونكتشف منذ بداية الفلم بُعدين مهمين: أولًا، الأغنياء هم المسؤولون عن المآسي والحروب التي لحقت بكوكب الأرض، وثانيًا، أن كوكب الأرض لا يزال مصدر ثرائهم، وأن ثراءهم مرهونٌ باستغلال (أو بالأحرى استعباد) الأرضيين.
وفيما ينتمي الجميع إلى النوع البشري (على عكس فلم District 9 للمخرج نفسه الذي يدور الصراع فيه بين الأرضيين ومخلوقات فضائية “وضيعة”)، يتبين من البداية أن ثنائية نحن/هم تصيغ أبعاد الحياة سواء على الأرض أو على إيليزيم؛ استمرار الظروف في كلا العالمين مرهونٌ بالحد المائز بين الطبقتين.
لا تحاول هذه المقالة تحليل جميع أبعاد الفلم. ما يهم هنا هو الصراع الطبقي بين الأغنياء والمسحوقين وتبعاته على استحقاق الحياة. وباختصار، يعتقد الأغنياء أنهم “مستحقون” للحياة بكل ما تعنيه الكلمة، وبأن غيرهم وضيعون لا يستحقونها فعلًا. بعبارةٍ أخرى، يقترن الثراء بحق الحياة، فكلما ابتعد الفرد عن الثراء تضاءل حقه في الحياة.
هل بدأنا نعيش ديستوبيا بلومكامب؟
يمكن تقصي هذه الفكرة في الفلم من خلال مشهدين؛ المشهد الأول حين أمرت وزيرة الدفاع بقصف سفن الأرضيين الذين اقتحموا إيليزيم لأجل أن يتشافوا. فبعد أن استمعت وزيرة الدفاع لعدد القتلى بلا مبالاة، بررت للرئيس أوامرها قائلةً بما معناه: كيف ستشعر لو أنهم جاؤوا لمنزلك الذي بنيته لأبنائك ولأبناء أبنائك؟ أنا المسؤولة عن استبقاء المستوطنة كما هي.
وكان المشهد الثاني حين توجه رئيس شركة أرماداين التنفيذي -التي يعمل فيها ماكس- لمعاينة إصابة ماكس بالإشعاع، وكان سؤاله الأول لمسؤول العمل: “ما الذي حدث؟ لماذا توقف الإنتاج؟”. كمنت أولوية الرئيس التنفيذي في استمرارية الإنتاج، أي في استمرارية الأرباح، وليس لحياة ماكس أي أهميةٍ طالما أعاقت هاتين العمليتين.
يتكرر صوتٌ في مكبرات الصوت بمصنع أرماداين بأنه لا يحق للعاملين الذهاب لدورة المياه أكثر من مرة خلال نوبة عملهم. أنتج الفلم في 2013، وفي العامين السابقين، ظهرت العديد من الأخبار التي تتحدث عن مراقبة الإدارة في مستودعات شركة أمازون لعدد مرات ذهاب موظفيها إلى دورات المياه أو قضائهم وقتًا طويلًا بها. هل بدأنا نعيش ديستوبيا بلومكامب؟
أعود لفلم إيليزيم، أدت محورية سلب المسحوقين حق الحياة أو اعتبارهم على درجة أقل منها- إلى امتناع طبقة الأغنياء جمعيًا عن إتاحة حرية وصول الأرضيين لما هو متاحٌ ومتوفر من وسائل التشافي والبقاء على قيد الحياة. ويظهر ذلك جليًا في المشاهد الختامية عندما انطلقت سفن الإسعاف مغادرةً إيليزيم نحو الأرض، حيث تبين أن الإيليزيين يمتلكون من موارد التشافي ما يفيض عن حاجتهم بكثير. ونرى ذلك مقابل ما جرى في بداية الفلم حين قصفت وزيرة الدفاع سفن القادمين للتشافي بصورةٍ غير قانونية (والحقيقة أنه لم يكن هناك طرق قانونية للمجيء إلى إيليزيم كما يبدو).
إذن، هل سيوفر مات ديمون العلاج مجانًا؟
أثناء كتابتي لهذه المقالة، وصلتني رسالة واتسابية من أحد الأصدقاء تحمل خبرًا منشورًا على رويترز يفيد بوجود مناوشاتٍ بين الحكومتين الألمانية والأميركية حول محاولة واشنطن إقناع شركة كيورفاك (CureVac) الألمانية بنقل أبحاث لقاح فيروس كورونا المستجد للولايات المتحدة الأميركية. ترى برلين أن تطوير اللقاح والحصول عليه يجب ألا يكون محتَكَرًا، وتوجه برلين تهمة الاحتكار إلى واشنطن ومحاولاتها.
كانت الوسيلة الوحيدة لقلب النظام بإيليزيم وإتاحة الرعاية الطبية للجميع هي تضحية ماكس بحياته لأجل أن يحيا الجميع، فمن خلال نص بياني كتبه رئيس أرماداين التنفيذي قبل أن يُقتل أثناء محاولة خطفه، تمكن ماكس وجماعته من إعادة تفعيل النظام على إيليزيم وجعل كل سكان الأرض مواطنين إيليزيين. ونتيجةً لذلك، تناهى إلى الروبوتات أن الأرضيين محتاجون للعلاج، وتوجهت سفن الإسعاف تلقائيًا إلى كوكب الأرض.
لكن على الرغم من تضحية ماكس البطولية، لم يجب الفلم عن سؤال مهم:
ماذا عن الفجوة بين الأغنياء والمسحوقين؟
الحقيقة أنه طالما ظلت الفجوة كما هي، أو بالأحرى طالما بقيت الظروف التي تنتج الفجوة كما هي، فستبقى الأطر القيمية والمفاهيمية كما هي، ومن غير المستبعد أن ينتكس التغيير إلى الأوضاع السابقة. وفي ظل استمرار منظومةٍ تؤله الثروات وتحدد أولوية القيم (ومن ضمنها حق الحياة) بحسب ارتباطها بتحقيق الثراء، ليس من المستغرب أن تكون أولوية البعض حالما تفشى كورونا التكسب من خلال شراء الحاجيات الوقائية ومحاولة إعادة بيعها بأسعار فلكية. بطبيعة الحال، ليس هذا التصرف مستقلًا عما تتعاون في فعله مختلف شركات التأمين الطبي والأدوية بالولايات المتحدة الأميركية، وهو ضمن نفس المنظومة التي سمحت لمارتن شكريلي برفع سعر دواء دارابريم في أميركا من 13.5$ للحبة إلى 750$. في سياق كل هذا، ليس من الغريب أن يستلزم الأمر تضحية مات ديمون في الفلم بحياته لكي يتوفر العلاج مجانًا للجميع.
ولا يسعني في ختام المقال حين أرى كل هذه الأزمات المتعلقة بخصخصة القطاع الصحي في أميركا وتبعاتها على سير الحياة هناك- إلا الإشادة بالإجراءات العظيمة والجهود الجبارة التي قامت وما زالت تقوم بها وزارة الصحة السعودية للمواطنين والمقيمين في ربوع البلاد، سواء تمثلت هذه الجهود في الحد من تفشي فيروس كورونا المستجد أو الحرص على سلامة كل مَن شُخّص به.