هل للرواية قيمة معرفية؟
يبدو من العبث توكيد فكرة أننا لا نقرأ الروايات للأغراض نفسها. هناك من يقرأ لتزجية الوقت والاستمتاع، ومن يقرأ لمزيج من أغراض مختلفة.
هل للرواية قيمة معرفية؟
على كثرة ما تتكرر النقاشات والتأملات حول سؤال القيمة المعرفية للرواية لا تزال القناعات الغريبة والمضحكة حول الرواية ومنفعتها سيدة الموقف. تنقسم معسكرات النقاش حول السؤال إلى معسكرين ونصف. ينتمي للمعسكر الأول أنصار الفكر والفلسفة الذين يرون في الرواية محض خرافة تخييلية ذات جوهر سام وعاطفي لا طائل منها سوى تزجية الوقت والسلوان. في أحسن الأحوال قد يقرّ هؤلاء بأن هنالك بعض الروايات «الفكرية» الحقيقية، مستشهدين مثلًا بروايات «الغريب» و«مزرعة الحيوان» و«عالم صوفي»، دون أن يؤثر هذا الاستثناء في تصورهم عن الرواية عمومًا.
أما في المعسكر الثاني فنجد المناوئين لهذا الاستخفاف أعلاه، أي أولئك المنغمسين في عالم الأدب الروائي إلى الحد الذي يجعلهم مؤمنين بقدراته على شحذ الذات والخيال والفكر واللغة. يؤمن المنتمون إلى هذا المعسكر أن الأدب حياة أخرى بكل ما تحتمله العبارة من معان، ولذا لا يكفون عن استحضار الروايات وأحداثها وكتابها في توصيف أيامهم ومواقف حياتهم، بالغين أحيانًا حد التماهي مع شخصياتها. وبطبيعة الحال تحمل الرواية بأعينهم معارف لا تقتصر على الروايات «الفكرية» الحقيقية، بل تتجاوزها إلى المعارف التاريخية والثقافية أيضًا.
يبدو المعسكران متضادين سوى أنهما ينطلقان في الحقيقة من إطارٍ مشترك يرسم علاقة محددة بين الرواية والواقع (أو بين الرواية والمعرفة عن الواقع بالأحرى)؛ فإذا تمحورت الأجوبة عن سؤال القيمة المعرفية للرواية حول ما تحتويه جلدتا الكتاب من معلومات قابلة الاكتساب فلا طائل من محاولة البرهنة على أي جدوى معرفية، إذ سيحسم النقاش من البداية لمصلحة أنصار المعسكر الأول ولتصورهم النظري عن المعرفة.
هنا يأتي دور نصف المعسكر الثالث. يدرك المنتمون لهذا المعسكر (وأنا منهم طبعًا) ما ينطوي عليه سؤال القيمة المعرفية للرواية من «ملغومية» عويصة. ولذا يبدؤون أولًا بهز رؤوسهم حسرة على مدى تغلغل الإطار الإبستمولوجي الديكارتي في مختلف مشارب الحياة، ثم يخبرون أنصار المعسكرين بكونهم وجهين لعملة واحدة أصلًا، ومن ثم يحاولون الإجابة عن السؤال بدءًا بتفكيك الافتراضات الإشكالية المسبقة التي يتضمنها. ثمة ثلاث نقاط رئيسة هنا: تتناول أولاها فكرة القيمة، وثانيتها مفهوم المعرفة، وثالثتها تربط بين النقطتين السابقتين بتسليط الضوء على العلاقة بين الرواية وواقع إنتاجها.
ينبني جزء من «ملغومية» سؤال «هل للرواية قيمة معرفية؟» على افتراض كون القيمة من سمات الشيء في ذاته. فإذا استطعنا مثلًا الانتفاع بهذا الشيء أو تملكه بشكل قابل للتوظيف منفعيًا فلعلنا نميل لوصفه بالقيّم. سأسمي هذا بالتصور المادي للقيمة، ومفاده أن القيمة قابعة بالمقام الأول والأخير فيما هو ملموس ويعود علينا برأسمال مادي أو اجتماعي. عطفًا على ذلك تصبح الرواية قيّمة في حال تضمنها هذا المردود.
يمكن تقويض هذا التصور المادي بسهولة من طريق استحضار فكرة القيمة المعنوية. نعلم يقينًا أن هنالك من الأشياء ما يعز علينا نحن وحدنا، بحيث لو وقع في يد غيرنا لما شاركونا بالضرورة «معزته». قرأتُ مثلًا رواية الهندية أرونداتي روي «وزارة السعادة القصوى» في فترة محورية من حياتي الشخصية، وحتى لو خرجت منها بقراءات مثرية لي حول تأريخ فكرة العولمة بعد الحرب العالمية الثانية أو توظيف الشكل الروائي في مقاومة سردية سائدة فسوف تظل قيمتها لي مرتبطة بمرحلة قراءتها في الربيع الذي يسبق تخرجي أكثر من ارتباطها بما منحتني من معارف.
الشاهد أن التصور المادي يعمينا عن أن الانتفاع الاستعمالي ليس وحده محدِّد القيمة، بل هنالك أيضًا الروابط المعنوية التي تمتد بيننا وبين أغراض تكتسب قيمتها من معانيها لنا نحن. ومن هذا المنطلق يبدو قصر القيمة على سمة كامنة في الشيء أمرًا مضحكًا، إذ لن يتسع المجال لأي أسئلة حول ما يجعل الشيء جزءًا منا أصلًا. وبحكم أن الرواية هي محط تركيز هذه التدوينة يمكن عد السطور أعلاه إجابة غير مباشرة عن سؤال القيمة فيها خارج ما تقدمه الرواية بحد ذاتها. لكن حتى لو انطلقنا من احتوائها على قيمة معرفية فمن قال إنها تمتلك إطارًا وحيدًا؟
يبدو من العبث توكيد فكرة أننا لا نقرأ الروايات للأغراض نفسها. هناك من يقرأ لتزجية الوقت والاستمتاع، ومن يقرأ لتذوق اللغة، ومن يقرأ ليعيش حياة أخرى، ومن يقرأ لمزيج من أغراض مختلفة. حتى لو اشترك اثنان الهدف العام نفسه فسيختلفان في تفاصيله عطفًا على اختلاف أهوائهما وخلفياتهما الحياتية. والأمر نفسه ينطبق على القراءة المعرفية للرواية: حتى لو قرأنا من باب اكتساب المعرفة فلا يعني ذلك أننا سنكتسب المعارف نفسها.
لأجل فهم ذلك بشكل أفضل لا بد من التعريج سريعًا على القاسم المشترك بين المعسكرين الأوليين في تناولهما لسؤال القيمة المعرفية: كلا المعسكرين ينطلقان من التصور «التشييئي» نفسه للمعرفة، التصور المبني على الفصل بين الذات والموضوع، الذي تصبح فيه المعرفة شيئًا موجودًا وقابلًا للاكتساب بالذات. بعبارة أخرى: المعرفة هنا عبارة عن معلومات وبيانات مستقلة عن أي ذات، كقولنا إن سرعة جاذبية الأرض 9.8 مترًا في الثانية أو أن جبال «أجا» مكونة من القرانيت. في هذين المثالين تتحقق المعرفة حين تكتسب الذات المعلومات وتتملكها. يمكن تسمية هذا التصور بالموضوعي قياسًا على افتراض الانسلاخ بين الذات العارفة والموضوع المعروف.
ليست هذه المعرفة الموضوعية إلا شكلًا واحدًا للمعرفة. ثمة شكل آخر يمكن تسميته بالمعرفة «البين-ذاتية»، وهي مبنية على عملية صناعة معنى مشترك بين ذاتين. أساس هذا التصور أن الذات مرتبطة جوهريًا بالمعارف التي تنتجها، وذلك من حيث استحالة الفصل بين تجربة الذات الحياتية وما تعبّر عنه. فعلى سبيل المثال: كون الإنسان اجتماعيًا يعني بالضرورة أن تجربته الذاتية تطبع أي حديث له عن الفرد والمجتمع مثلما تطبع إدراكه أي أطروحة حولهما؛ فعلى عكس التصور الموضوعي لا مكان في المعرفة «البين-ذاتية» لما ينتقل من العالم الخارجي إلينا دون فاعليةٍ منا؛ فكل معرفة عملية مشتركة مبنية على مد روابط التآلف والتفهم بين كائنين اجتماعيين تنطبع على تعابيرهما وأفهامهما السياقات التي يتشكلان في كنفها.
إذن، بدل جعل ذات العارف منفصلة عن موضوع معرفته تصبح المعرفة قائمة على التموقع المشترك بين ذاتين، في سبيل إدراك المعاني التي يفصح بها كل واحد منهما. فمن بابٍ أول لا تنفصل المعرفة عن الذات المنتجة لها. ومن باب ثان لا مكان لفهم «الآخر» إذا عددناه ذاتًا مغلقة عصية على الإدراك أو إذا فرضنا عليه منطلقاتنا نحن. فهم المعرفة التي يحاول هذا الآخر إبلاغنا بها منوط بقدرتنا على الانخراط في حيز تفاعل مشترك وفك شفرات المعاني ضمن سياقاتها.
وإذا أخذنا في الحسبان مفهومي القيمة والمعرفة من حيث تولدهما المشترك بين ذاتين فلن تكون الرواية محض نص ينطبع علينا بشكل أحادي الاتجاه، أو نصًا ينطوي على معارف قابلة للانتقال خطيًا من السطور إلى دواخلنا، ولن تكون المعرفة محض أحداث تاريخية تزخر بها بعض الروايات أو تلخيص فلسفات في روايات أخرى. ما يمكن أن يحدث بدلًا من ذلك عملية مزدوجة من الاستنطاق: استنطاق للرواية بصفتها إعادة تشكيل نصي لواقعٍ ما. واستنطاق لها بصفتها عملًا أدبيًا له أشكاله وتقنياته. ومن شأن هذا التزاوج بين الاستنطاقين أن يرهف سمع القارئ ليخرج من قوقعة ذاته فينفتح على العالم.
سيتاح لنا من هذا الباب رؤية الرواية بصفتها تجربة تعيد تشكيل الواقع نصيًا، تجربةً تخلخل ما نألفه من تصورات ومناظير ناجمة من قصور ذواتنا، فضلًا عن عدّها تجربة تتجلى بواسطة التقنيات السردية، وهي هنا ليست نصًا أو عملًا أدبيًا أو نتاج كاتب بالتصور الاختزالي لها، بل نقطة تقاطع ثقافي تعكس واقع إنتاجها في الوقت نفسه الذي تعيد تشكيله فيه.
هنا تكمن أبلغ قيمة للرواية المعرفية، في قدرتها على زحزحة مألوفاتنا وجعلنا نسائل أبعاد الواقع الذي نعيشه بكل تعقيداته وتداخلاته، بحيث ننفتح على العالم ونعود إليه أشد إدراكًا لذواتنا ولذوات الآخرين. Click To Tweet
اختتمت في السابع من أكتوبر فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب، من ضمنها تكريم عدد من دور النشر في مسابقة معرض الرياض الدولي للكتاب، ففازت دار صفصافة عن فئة الترجمة، والدار العربية للعلوم ناشرون عن فئة التميز في النشر، ودار هدهد عن فئة النشر للأطفال، ومجموعة تكوين المتحدة عن فئة المنصات الرقمية، ودار أدب عن فئة المحتوى السعودي.
أعلنت الأكاديمية السويدية في ستوكهولم فوز الكاتب النرويجي يون فوسه بجائزة نوبل عن فئة الأدب لعام 2023 عن مجمل أعماله، فهو مسرحيّ وروائي وشاعر وكاتب مقالات وقصص أطفال ومترجِم. أعماله الكبرى كتبها بلغة «نينوشك» (النرويجية الجديدة)، وعُرضَت مسرحياته حول العالم بعدة لغات. حين سئل فوسه البالغ من العمر 64 عامًا عن ردة فعله بعد معرفته بنيله الجائزة، قال «كنت أهيئ نفسي على مدار العقد الماضي لمجيء هذه اللحظة.» وكان لدار كرمة نصيبها من هذه الفرحة، إذ ترجمت للكاتب النرويجي روايتين: «ثلاثية» و«صباح ومساء» نقلتها إلى العربية شرين عبدالوهاب وأمل رواش، ونفدت نسخهما في معرض الرياض للكتاب.
صدر كتاب «الذهاب إلى ما لا نهاية» (Going Infinite) للكاتب مايكل لويس الذي يتناول فيه شخصية سام بنكمان فرايد وذلك في اليوم الأول من محاكمته بتهم الاحتيال الفدرالي في مدينة نيويورك. الكتاب يتضمن مقابلات أجراها الكاتب مع سام بنكمان قبل سجنه وفي أثنائه بعد انهيار «FTX»، ومرافقته له في الاجتماعات مع مستشاريه. لم يوضح الكاتب رأيه الحقيقي في بنكمان، قائلًا إنه يترك الأمر للقارئ، على رغم تعبيره الصريح عن إعجابه ببنكمان في مقطع نشره برنامج «60 دقيقة» يقول فيه إن «FTX» عمل رائع.
صدر حديثًا كتاب «مادونا» (Madonna) للكاتبة ماري قابرييل، تتناول فيه حياة نجمة البوب الأمريكية الشهيرة ونجاحها في إيجاد طريق مختلف لنفسها -بعد وفاة والدتها المتدينة- في الموسيقا الأمريكية وبعض الأعمال التمثيلية التي لم تلق كلها قبولًا نقديًا أو جماهيريًا. وأيضًا يلقي الكتاب الضوء على أعمالها التوعوية، كالتوعية من مرض الإيدز قبل عام كامل من بدء الحكومة الأمريكية في التوعية به، على هامش مشوارها الفني وشهرتها ونجاحها، وإيمانها الراسخ بحرية التعبير عن نفسها، وحقيقة اقتباسها بعض الأفكار الفنية من السود.
من سفر عيّاد:
وسِّع مداك - لماذا ينجح أصحاب المعارف العمومية في عالم يزداد ميلًا إلى التخصص، ديفيد إبستين
يناقش الكتاب فكرة أن «التخصص الدقيق» غير مجد، بل إن فرضية «العمومية في المجالات المهنية والتوسع مهمة وأكثر فائدة من التخصص» في نظره هي الأجدى، وهي فرضية عكس الواقع الحالي، حيث تطلب الشركات توظيف أصحاب المهارات «المتخصصة والدقيقة»، ويدافع الكاتب عن فكرته التي تخالف ما يجري في الواقع.
عالم جديد وشجاع، ألدوس هكسلي
أعتقد بأن من قرأ رواية «1984» لـجورج أورويل عليه أن يقرأ هذه الرواية للعبقري ألدوس هكسلي، والسبب في رأيي المتواضع أن جورج أورويل حذرنا في رواية «1984» من فقدان المعلومات، أما في رواية «عالم جديد وشجاع» فحذرنا ألدوس هكسلي ممن سوف يغرقوننا بالمعلومات، وهي من أعظم الروايات التي توقعت عصرنا الحالي بكل ما فيه من تقدم علمي.
في جوف النكتة - الفكاهة لعكس هندسة العقل، ماثيو هيرلي، دانيال دانيت، رينالد أدميز
ما «الأصل العلمي للضحك والنكتة»؟ لماذا نرى بعض «النكت» قديمة ولم تعد تضحكنا، كيف تخترق «النكتة» عقولنا؟... مثل هذه الأسئلة وغيرها حاول المؤلفون البحث عن «أصلها العلمي»، وأرادوا «تفكيك الألغاز خلف النكتة».
العمل المرن، جيما ديل
حاولت المؤلفة جيما ديل أن تصنع قواعد سهلة وواضحة للعمل المرن يمكن لأي مدير للموارد البشرية أن يطبقها داخل الشركة التي يعمل بها. يتحدث الكتاب عن أنماط العمل الجديدة، وكيف يمكن تطبيقها داخل المؤسسات الكبيرة والصغيرة. الكتاب رائع لأي مهتم بالثقافة الداخلية للشركات أو لأي مدير موارد بشرية يرغب في «تبني هذا النوع من العمل».
لغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.