«إنتم عاوزين تبوزوا شرع ربنا؟»

حين أقرّ المشرع الديات كانت الغاية حل مشكلة، لكن التوسع في موضوع الديات والمبالغة فيها أوجد مشكلة أخطر هي استسهال قتل النفس التي حرم الله.

قُبح نتائج الغايات النبيلة من أسوأ الأشياء التي تشوه أي عمل مهما بدا نبيلًا، حين تصبح الفكرة النبيلة أو الأداة الخيّرة في نهاية المطاف مستفزة وبغيضة فإن من الواجب أن يُعاد النظر في الفكرة من الأساس. 

هذا أقل ما يمكن أن يوصف به ما يحدث مثلًا في «كثير» من قصص جمع الديات لعتق رقاب الذين تورطوا في جرائم قتل وصدرت بحقهم أحكام بالقصاص. 

عتق الرقبة عمل عظيم، بل من أحب الأعمال إلى الله، لكن الذي يحدث في القصص التي نقرؤها ونشاهدها كثيرًا هذه الأيام هو أن إنسانًا ما يتم تجاهله في غالب تلك القصص، يُنسى كأن لم يكن، ويتم إخراجه من المعادلة هو وأهله وأحبته وكل الذين كانوا لا يرون للحياة معنى دونه، وأعني هنا المقتول. 

لاستثارة التعاطف وللرغبة في حث الناس على دفع التبرعات يتحول القاتل إلى أن يكون الضحية في أدبيات جمع الدية، ويكثر الحديث عنه وعن أهله وعن أسرته وعن وضعهم المؤلم لو تم تنفيذ حكم القصاص، وهذه الآلام حقيقية؛ فالأسرة التي يبتليها الله بمثل هذا ويصبح أحد أفرادها قاتلًا في وضع صعب، والتعاطف معهم منطقي ومطلوب ومفهوم. لكن استبعاد الضحية الحقيقي والأسرة الأخرى المكلومة من المعادلة يجعل الأمر مستفزًا وقبيحًا؛ لأن الحياة التي سُلبت من إنسان كان له أحلام وطموحات وأحبة وأصدقاء ليست أقل قيمة من حياة قاتله. 

ومن الطبيعي ألّا توضع الحالات في سلة واحدة؛ فالقصص لا تتشابه والظروف تختلف من قصة لأخرى، والإنسان معرض للابتلاء، ولا أحد يعلم ما سيحدث له ولا أي أشخاص سيقابلهم في المستقبل أو حتى قبل أن ينتهي من قراءة هذه التدوينة، لا أحد محصن ضد أي شيء، والقصص التي نسمعها ونظن أنها تخص الآخرين فقط قد نجد أنفسنا يومًا أحد أطراف قصص مشابهة لها. 

هنالك من ابتلاه الله وأصبح قاتلًا لأنه ظُلِم وتعرض لقهر أكبر من قدرته على التحمل، فالمقتول ليس بالضرورة شخصًا لطيفًا في كل الأحوال، والقصص والشواهد على هذا كثيرة. لكن هناك أيضًا من قتل غيره «هياطًا» وظلمًا وعدوانًا واستباحة للدم الذي حرمه الله وجعله أشد حرمة من الكعبة. 

وفي كلا الحالتين فالقاتل في نظر الشرع والقانون قاتل، وحكمهما غالبًا واحد، فالقاتل يُقتل، وفي القصاص حياة لأولي الألباب. 

الرغبة في عتق الرقبة والسعي من أجل العفو عمل نبيل كريم، لكن الذي ليس عظيمًا ولا نبيلًا ولا كريمًا هو أن يتخطى الأمر عتق الرقبة والعفو والبحث عن الأجر من الخالق العظيم واهب الحياة إلى المتاجرة بالدماء. Click To Tweet

وإلى أن تصبح الأرقام التي تُدفع في الديات خارج حدود العقل والمنطق، هذا أقرب إلى السفه منه إلى مكارم الأخلاق. 

والحق أني لا أريد الدخول في تفاصيل أكثر وأتحدث عن رأيي بوضوح وبكلمات أفضّل الاحتفاظ بها عن الذين يقبلون أموالًا مقابل العفو عن قاتل أنهى حياة واحدًا من أحبتهم، ولا أريد أن أتخيل ردة فعل المقتول لو عاد للحياة ووجد عائلته تبيع دمه مقابل دراهم معدودات. هل سيكون سعيدًا بذلك؟ هل سيشكرهم على محبتهم المدفوعة الأجر؟ لأني مؤمن بأنه لا يوجد سوى خيارين لا ثالث لهما في مثل تلك القضايا، إما أن تعفو لوجه الله، وأن تؤمن أن ما عند الله خير وأبقى، وإما أن تترك الأمر للقوانين التي وضعها الخالق عز وجل للفصل بين عباده. 

Giphy 116
التكسُّب من القضايا / Giphy

الأشد قبحًا في هذه القضايا أنها أصبحت سوقًا حالكة السواد، فيها سماسرة وتوزيع لنسب الأرباح، ومتاجرة وبحث عن المكاسب، وإن تحدث ناصح وقال: «اتقوا الله في دماء المسلمين»، فإن الرد جاهز، سيقولون له: «إنتا عاوز تبوز شرع ربنا»!

مع أن «شرع ربنا» لم يأمر بأكل أموال الناس بالباطل، ولو أن القاتل نفسه الذي يحثون الناس على دفع عشرات الملايين من أجل عتق رقبته كان يتميًا أو معدمًا أو مديونًا وبحاجة للذين ينفقون أموالهم في «شرع ربنا» لكي ينقذوه من كربته وطلب منهم بضعة آلاف يسد ربها رمق حياته ويستعين بها على نوائب الدهر لطردوه من أبوابهم ولم يعترفوا به كفرد من أفراد القبيلة العظيمة التي لا يجوز أن يُقتل أحد أفرادها، ولما دفعوا له دية تنقذه من «حكم» الفقر والحاجة.

لا يمكن القبول بالحل حين يصبح هو المشكلة، فحين أقرّ المشرع «الديات» كانت الغاية حل مشكلة، لكن التوسع في موضوع الديات والمبالغة فيها أوجد مشكلة أخطر هي استسهال قتل النفس التي حرم الله، وأصبح العفو مسألة وقت محدَّد بالقدرة على جمع الدية. 

أعتذر إن بدت هذه التدوينة كئيبة إلى حد ما، ولكن النكد واحد من أهم المكونات في خلطة الحياة، والحق أنه لا أحد يعلم حقيقة ما يشعر به أي مبتلى بمثل هذه الأحداث والأقدار ولا كيف يُفكر، وقد يكون كل حديث عنها «حديث سَعة»، أسأل الله لي ولكم العفو والعافية وأن يبعدنا عن الشرور. 

الإنسانالسعوديةالقضاءالمجتمعجرائمالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!