خطابات التحفيز تمنح اليائسين جنة زائفة

المطلوب منا جميعًا أن نسعى ونحاول ونتأقلم مع الحياة وتحدياتها وتسوياتها؛ لأن هذه طبيعة الإنسان والحياة التي يعيشها.

الخطابات التحفيزية / Imran Creative

أهلًا بك صديقًا لنا،

وصلتك الآن رسالتنا الأولى على بريدك الإلكتروني.

إذا لم تجدها ابحث في رسائل السبام وتأكد من اتباع الخطوات التالية في حسابك على خدمة بريد «Gmail» حتى تُحررها من التراكم في فيض الرسائل المزعجة.

* تعبّر النشرات البريدية عن آراء كتّابها، ولا تمثل رأي ثمانية.
12 سبتمبر، 2023

لا تتجاوز يومك غالبًا إلا وتقف على منشور في منصة من المنصات «يحفِّزك» صاحبه إلى السعي وراء أحلامك، من تغريدة إلى مقطع مجتزأ في «تك توك» إلى محاضرة في «يوتيوب» إلى «محاضرات تيد» (Ted Talks) وأشباهها. وغالبًا ستشعر بأنَّك مقصّر في سعيك وأنَّ حلمك بين يديك لكنك أنت المتقاعس عن فعل ما يفعله المحفزون.

«خطابات التحفيز» (Motivational Speech) صناعة أمريكية رأسمالية بالدرجة الأولى. وتدر كثيرًا من الأموال قُدرت في 2020 بأكثر من عشرة مليارات دولار، ويُتوقع أن تصل إلى أربعة عشر مليارًا في 2025، سواء من خلال المحاضرات واللقاءات العامة ونحوها من أنشطة أم الكتب الأكثر مبيعًا أم الاستشارات الخاصة أم ما يعرف بـ«التدريب على الحياة» (Life Coaching). وهذه الخطابات تُترجَم وتُنسَخ ولها رواد كثيرون في العالم العربي. 

ومن أهم عناصر قوة خطابات التحفيز الفئة التي تستهدفها؛ فلن يبحث عن خطابات التحفيز شخص مستقر عاطفيًا ونفسيًا، ولن يستمع إليها شخص يرى حياته تسير كما يجب. قوة خطابات التحفيز في أن جمهورها يعيش في أزمات وتحولات حياتية كبيرة، ويبحث عن بصيص أمل لمواصلة العيش؛ وهذا ما يجعل فيديوهات خطابات التحفيز طويلة ومنوعة لتستمع إليها عدة ساعات فتهدأ روحك القلقة والمنكسرة. 

هنا تأتي سمة أساسية من سمات خطابات التحفيز، وهي التركيز في ما هو بديهي؛ فالبشر منذ آلاف السنين يعرفون أن «من جدَّ وجد ومن زرع حصد»، لكن عندما يقولها شخص بلغة حديثة: «أنت تستطيع» و«إذا حلمت بجد وسعيت إلى تحقيق أحلامك فستتحقق» يصبح لها سحر مختلف لا تحتويه حكمة القدماء.

أما السمة الثانية فهي اللغة المبسطة؛ فبدلًا من الأحاديث الفلسفية الثقيلة حول «معنى الحياة» أو «غاية الوجود» يصبح الحديث عن أحلام ومواهب مدفونة تتوهج.

ومن أشد مضامين خطابات التحفيز كارثيةً، التي يمكن لها أن تجعل الإنسان أكثر هشاشة، هي الوعد بحتمية النتائج. فعندما تحلم وتسعى بجد تحقق أحلامك في النهاية! وهذا الوعد بالنتائج يتناقض مع طبيعة الحياة التي لا تعطي البشر ما يريدون وما يسعون إليه دائمًا؛ فالحياة مليئة بالعقبات التي لا نتجاوزها بل نتعايش معها.

فمن يحاول ويسير فسيصل إلى مكان ما، هذه سنة الوجود، ولكنه لن يصل بالضرورة إلى وجهته؛ فطريقنا في هذه الحياة متعرج ومليء بالعقبات. وربما كانت استعارة «الطريق» في هذا السياق مضللة؛ فنحن لا نسير في طُرق تؤدي إلى وجهاتنا، بل نسعى تجاه ما نريد، وقد نصل أو لا نصل، والسعي هنا يختلف عن استعارة «الطريق» التي تعد بنتائج حتمية. 

أما أخطر عناصر خطابات التحفيز فهو افتراض السير «وحيدًا» لتحقيق أحلامك، وأن أي نقد أو توجيه أو نصيحة لا تتواءم مع أحلامك ومخططاتك فهي تأتيك من شخص عليك التخلص منه فورًا! وهذا الخطاب الحاسم يفترض أنْ نواجه صعوبات الحياة فرادى، وهذا غير صحيح؛ فنحن نعيش وفق أسر، ولدينا أحبة وأصدقاء، في مجتمع وثقافة، وهذا كله مؤثر في تعاطينا مع صعوبات الحياة. 

لذا تجد بعض المتأثرين بخطابات التحفيز يقطعون صِلاتهم بمن حولهم، وكأن هذه الخطابات لا تنجح إلا بعد عزل الإنسان عن محيطه. وهنا نخسر أهم حسنات دوائرنا الضيقة التي نحيا فيها: أنهم يذكروننا من نحن عندما نفقد وجهتنا، ويخبروننا بأخطائنا عندما نرتكبها، ويساعدوننا على النجاة عندما تداهمنا نكبات الأيام. 

وما أتحدث عنه هنا يختلف عن تسليم حياتنا للآخرين، فإذا حاول أحدهم فرض أمر عليك فتجاهله. لكن الانتقادات التي تصلنا من الآخرين تفيدنا سواء اتبعناها أم لا، وهنا فرق بين التجاهل والقطيعة.

ومن العناصر التي تتمحور حولها خطابات التحفيز فكرة «الموهبة الخفية»؛ ففي داخل كل إنسان موهبة وشغف يستطيع استثماره لتحقيق النجاح أو المال، وهذه الفكرة تناقضها تجاربنا وحياتنا وكل ما نراه حولنا. 

فكثير من البشر يعملون في وظائف يكرهونها، أو دخلوها مصادفة، أو قرروا دراسة التخصصات المرتبطة بها في عمر مبكر وبرؤية ضبابية، وإذا قرروا ترك هذه الوظائف التي لا تنسجم مع مواهبهم الداخلية الحقيقية أو المتوهمة فسينتهي المطاف بجلِّهم عاطلين ومعدمين.

خطورة هذه الخطابات أنها دفعة كبيرة لليائسين في البدايات، ثم تغرس في دواخلهم الإيمان بحتمية تحقيق الأحلام، وتبالغ في أهمية اعتماد الإنسان على نفسه وتدفعه إلى العزلة، لينتهي المطاف به محطمًا وبائسًا أشد مما كان أول الأمر. 

فالحياة قاسية، وكثير منا يولدون بلا مواهب، وبعضنا لن يحقق أحلامه أبدًا، وبعضنا لن يعرف وجهته أصلًا، ولكن المطلوب منا جميعًا أن نسعى ونحاول ونتأقلم مع الحياة وتحدياتها وتسوياتها؛ لأن هذه طبيعة الإنسان والحياة التي يعيشها. فالحياة مكابدة، «لقد خلقنا الإنسان في كبد». 


مقالات أخرى من نشرة أها!
11 سبتمبر، 2022

صوتنا يتقمص الميمز

نحن نستعير أصوات الآخرين المميزة لنعبّر عن عاطفة ما بأسلوب مُضحك يقربنا من الناس، أو حتى نهوّن على أنفسنا في مواقف صعبة أو مزعجة.

رويحة عبدالرب
10 مايو، 2022

الإعلان الأكبر يراقبك!

قد تتخلل مسلسلات المستقبل إعلاناتٌ موجهةٌ لنا شخصيًا ونُجبَر على مشاهدتها بسبب وقوع أعيننا صدفةً على غرضٍ ما في البرنامج الذي كنا نتابعه.

حسين الإسماعيل
28 مارس، 2022

لماذا أحبُّ علبة غدائي

أنا أكره الطهي، فقد رأيت إلى أي حد كان يرهق أمي. ويرعبني الوقت والجهد الذي يتطلبه لنصف يوم، كل يوم، فيما كانت تستطيع فعل شيء آخر تحبه.

إيمان أسعد
24 أغسطس، 2023

لماذا لا تقرأ المقالة قبل الحكم عليها؟

نحن أجيال تريد أن تنهي كل شيء بسرعة؛ لأننا نرى أن هناك دائمًا شيئًا آخر يسترعي الانتباه. لا نرغب حقًا بتخصيص وقت متكامل لفهم النص بعمق.

سحر الهاشمي
14 سبتمبر، 2023

كيف سنعيش في قرية إيلون مسك بلا حظر؟

زر الحظر حق كل مستخدم ضمن مساحته الافتراضية، وفي حال طبق مسك رغبته بإزالة الخاصية ستكون السلامة النفسية لأي فرد في المنصة مهددة بالانتهاك.

سحر الهاشمي
26 مايو، 2022

نتفلكس لن تختار لك جلباب أبي 

تستخدم منصات البث العديد من الخوارزميات التي تحلل حركتنا داخل التطبيق، ومع الوقت تبني لنا أذواقنا عبر اقتراحها ما يجب أن نشاهده.

أنس الرتوعي