أمريكا في الأرض بعض من تخيلنا..!

إني على المستوى الشخصي على استعداد لمد يد العون لأمريكا وإنقاذها من المأزق الذي تعيشه حاليًا؛ لأني أجبَن من تحمّل تبعات زوالها.

صحيح أنّ أمريكا هي أم الشر ومرضعته، ولا تحدث فتنة بين اثنين إلا كانت أمريكا ثالثهما. إلا أني حين أسمع الأخبار التي تتحدث عن قرب انهيارها، وأن الدولار الأمريكي قد بلغ أرذل العمر، أشعر بشيء من القلق. ومرد ذلك القلق أني مثلكم جميعًا، مدين لأمريكا بكثير من الأشياء التي جعلت الحياة أسهل. أريد أن تنال عقابها على كل الجرائم التي ارتكبَتها، وأن يُنكّل بها وباقتصادها وبدولارها، وأن تُسام سوء العذاب، لكني لست في عجلة من أمري. من الجيد أن يتأخر ذلك العقاب إلى أن أغادر هذا الكوكب وأكفّ عن الوجود. وهذه ليست أنانية أو عدم اكتراث بما سيُحدِثه الطوفان إن كان سيأتي من بعدي. كل ما في الأمر أني لست ممن يحبون التشفي ويتمتع بمشاهدة لحظات الانتقام من الظالمين. أريد أن ينتقم الله منهم، لكنّ قلبي لفرط رقته لا يريد ولا يحتمل مشاهدة عذابات الآخرين وإن كانت مستحقة. 

الذين يستطيعون العيش في عالم بلا أمريكا هم الذين سيولدون في ذلك العالم، ولا يعرفون غيره. أما الذين أدمنوا وجودها فسيكون من الصعب عليهم تقبّل غيابها. 

ومن هنا يأتي السؤال: هل الحياة الآن أسهل فعلًا؟ أظن أن المسألة نسبيّة، فالذين يرون أنها أسهل هم الذين جربوا غيرها قبلها، أما الذين لم يعرفوا سواها فهم في الغالب لا يرون أنها بالسهولة ذاتها التي يتخيلها مخضرمو الحياة. ولعلي هنا أضرب مثالًا يتعلق بمجال الكتابة، فالذي كان يكتب مقالًا بخطّ يده ثم يرسله بالفاكس إلى الصحيفة، وينتظر اتصالًا على هاتف ثابت حتى يفك تلك الطلاسم للمحررين، لاشك أنه سيجد أن الحياة أسهل وهو يكتب في موقع إلكتروني أو يرسل مقالاته بالبريد الإلكتروني، أما الذي لا يعرف إلا عصر الإنترنت فإنه لا ينظر إلى الأمر من هذه الزاوية، بل إنه ربما لا ينظر إليه من الأساس، لأنه بدهي وطبيعي. وهذا أمر ينطبق على الحياة الصعبة أيضًا، فالذي هاجر وشُرِّدَ من بيته ووطنه يشعر بالمأساة أكثر مما يشعر بها الشخص الذي وُلد في مخيم للاجئين.   

ولذلك قد تكون الحياة أجمل لو لم تكن أمريكا موجودة من الأساس، وربما تكون أسهل أيضًا، لكنها لن تكون سهلة بعد أن أدمن البشر الحياة التي صنَعَتها لهم أمريكا، ستكون الأعراض الانسحابية مؤلمة كثيرًا. وسيكون الطريق طويلًَا جدًا ومرهقًا قبل الوصول إلى الشفاء التام من الداء الأمريكي. 

ومن باب طمأنة مدمني الحياة التي صنَعَتها أمريكا فإني أقول لهم بعد التوكل على الله: إن أمريكا تتراجع فعلًا ولكنكم على الأرجح ستغادرون الحياة قبل أن تختفي. 

طبعًا لا شيء مستبعد، ولا توجد استثناءات للقاعدة التي وضعها الأستاذ لبيد بن ربيعة حين قال:

أَلا كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللَهَ باطِلُ 

وَكُلُّ نَعيمٍ لا مَحالَةَ زائِلُ

وَكُلُّ أُناسٍ سَوفَ تَدخُلُ بَينَهُم

دُوَيهِيَةٌ تَصفَرُّ مِنها الأَنامِلُ

والدويهيةُ التي تصفَرّ منها الأنامل التي تدخل بين «الأمريكان» هي تعاظم نفوذ اليسار هناك، الذي يقودها إلى قاع الجحيم. فلم تعد أمريكا تصدّر الاختراعات أو العلم أو حتى نماذج للحياة يمكن أن تكون مغرية للآخرين ليكون الحلم الأمريكي حلمَهم. أمريكا، فضلًا عن تراجع نفوذها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، أصبحت مهتمة بتصدير منتجات اليسار المتطرف، التي لا تخرج عن الشذوذ والانحلال الأخلاقي وكل ما دار في هذا الفلك القذر مما ترفضه البشرية على اختلاف مللها ونحلها وأديانها وأعراقها. إضافة إلى أن العالم بدأ يستوعب أن كل شعب قررت أمريكا أن تتدخل في شؤونه لكي «تحرره» قد أصبح حلمه الآن أن يعود إلى العبودية التي كان يعيشها قبل حرّية أمريكا. 

Giphy 66
لا يمكن تخيُّله / Giphy

ولكن على رغم هذا فإن مواجهة عصر ما بعد أمريكا، وتخيّل وجود عصر مثل هذا، أمرٌ مرعب. ويمكن تشبيه الصراع النفسي الذي تعيشه البشرية اليوم بين رغبتها في اختفاء أمريكا كمصدر للشرور، وبين الخوف مما يمكن أن يحدث من تأثير اقتصادي واجتماعي مدمر في حال حدوث ذلك، بأنه شيء يشبه ما يعيشه الثريّ الذي جمع ثروته من الحرام، ثم قرر أن يتوب. فهو لا يعتبر التوبة شيئًا سيّئًا، لكن التوبة تعني أيضًا التخلي عن كل الامتيازات والنفوذ والقوة والراحة التي كانت تمده بها الثروة.

وعلى أي حال، إني على المستوى الشخصي على استعداد لمد يد العون لأمريكا وإنقاذها من المأزق الذي تعيشه حاليًا؛ لأني أجبَن من تحمّل تبعات زوالها. لأني مؤمن بأن لكل عصر «أمريكاه» الخاصة ، فأمريكا في الأرض بعضٌ من تخيّلنا، لو لم نجده عليها لاخترعناها، مع الاعتذار لنزار وللشعر، ولذلك فإنّ تخوفّي الأكبر هو أني لست مستعدًا للبدء من جديد في التعوّد على أمريكا جديدة، وشتمِها من جديد، ومناكفةِ المدافعين عن قيَمها. 

أمريكاالسياسةالمستقبلالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!