احملوا «مسلسلاتكم» وانصرفوا..!
كثرت القنوات، فقرر شخص آخر لا أعرفه هو الآخر، أنه ليس من المهم أن يكون لرمضان طابع خاص، فالمهم أن يشاهد الصائم أي مسلسل.
مضى أسبوعان من شهر رمضان، ولا أخالكم تفاجأتم بأن الأعمال التلفزيونية هي أكثر ما يناقشه الناس في هذا الشهر الكريم. وهذا نتيجة لقصة حدثت في غابر الأزمان، حين قرر شخص ما لا أعرفه أن أهم ما يحتاجه الصائم في رمضان هو مسلسل تلفزيوني. وفي البدء كانت المسلسلات التاريخية والدينية، ورغم أنها كانت لا تخلو من العبط والتلفيق في القصص والأحداث التاريخية، إلا أنها كانت تحوم حول حمى ما يفترض أن يشاهده الصائم في التلفزيون.
ثم كثرت القنوات وازداد عدد ساعات البث، فقرر شخص آخر لا أعرفه هو الآخر، أنه ليس من المهم أن يكون لرمضان طابع خاص، فالمهم أن يشاهد الصائم أي مسلسل ولو عن حياة راقصة تدور أحداثه في ملهى ليلي.
وفي فترة ما بين هاتين الفترتين قرر شخص ثالث لم أبحث عنه ولا أعرفه أن الفوازير والكاميرا الخفية من أركان الصيام التي يبطل الصوم بغيابها. ومع سذاجة تلك الأعمال إلا أنها تبدو الآن أعمالاً جليلة مقارنة بما يتم إنتاجه هذه الأيام، ولذلك فإني مدين باعتذار للرعيل الأول من التافهين. أنا في غاية الأسف، وأتوسل إلى الأحياء منهم أن يقبلوا اعتذاري، أما الأموات فإني أدعو الله أن يُنزل عليهم شآبيب رحمته ورضوانه. وأسأل الله أن يقبضني إليه راضيًا مرضيًا قبل أن أضطر للترحم على زمن التافهين المعاصرين.
ثم إني حتى كتابة هذه السطور عاجز عن فهم العلاقة بين الصيام ومحاولات إضحاك الصائم بعد إفطاره. ومحاولات استجلاب الضحك هذه تُسمى اصطلاحًا «الكوميديا». والضحك أيها السيدات والسادة الصائمات والصائمون هو أجمل ما يمكن أن يفعله الإنسان سواء أكان في رمضان أم في ربيع الأول أم في أي وقت من أوقات العام.
وفي السياق ذاته فإن أقبح ما قد يفعله الإنسان هو القيام بأفعال يظنها مضحكة مع أنها ليست كذلك. وهذا تقريبًا أكثر ما يحاول الممثلون فعله يوميًّا في رمضان. بعض القنوات تجر المشاهد إلى الدرك الأسفل من التفاهة والسذاجة والسماجة من خلال بعض الأعمال التي تقدمها وتصرف عليها الملايين من الريالات.
وأتفهم أن يقلّد طفل صغير حركات والده، أو أن شخصًا ما في الاستراحة التي تجمعه بأصدقائه يحاول أن يقلد تصرفاتهم أو طريقتهم في الكلام مِن باب السماجة المباحة بين الأصدقاء، لكن الأمر الأكبر من قدرتي على الاستيعاب هو حين يتكرر تقليد الآخرين يوميًّا في رمضان في أكثر القنوات مشاهدة، منذ أن ابتدع بعض الممثلين الكويتيين في بداية هذا القرن هذه الطريقة الفجة في الكوميديا التي تعتمد على السخرية من الآخرين ولهجاتهم وطرائق حياتهم.
وأظن أن الكويتيين قد تابوا وأنابوا وتركوا هذا النوع من التمثيل السامج وتفرغوا لمشكلات الشركة التي «تنباق» سنويًّا، لكنّ آخرين في القنوات السعودية نبشوا قبر هذه التفاهة وأخرجوها للناس. وقد تساءلتُ في رمضانات قد خلت عن الفكرة وراء تقليد لهجة الآخرين والظن بأن ذلك شيئًا مضحكًا. هل يعني أن أحدهم لو اطلع علينا في منزلنا ونحن نتحدث بلهجتنا فسيضحك حتى تدمع عيناه. وهل يمكن أن يُعَدّ ذلك خطة دفاع جيدة حين يقتحم لص المنزل، وكل ماعلينا فعله هو أن نتحدث بلهجتنا بتلقائية، وحينها سيضحك اللص ويقرر تركنا وشأننا لأننا أناس طريفون!
لعل من المهم تبيان أني لستُ عدوًا للضحك ولا لأي طريق يؤدي إلى السعادة، كل ما في الأمر أني مؤمن يقينًا بأن الذين يضحكون من هذه التفاهات المكررة بحاجة ماسة إلى العلاج. فالنكتة وإن كانت مضحكة فإنها تكون كذلك في المرة الأولى، لكنها حين تعاد مرة أخرى تصبح باهتة باردة ثقيلة. فكيف وهي تعاد كل يوم على مدى أعوام؟!
ثم تأتي ثالثة الأثافي في البرامج الرمضانية، وهي احتفاء البرامج التلفزيونية بالتفاهة والتافهين الذين تعج بهم وسائل التواصل الاجتماعي.
وتافهو مواقع التواصل هم الوجبة الجديدة التي أُضيفَت إلى المائدة الرمضانية التي تقدمها الشاشة الصغيرة بعد انتهاء عصر الفوازير والكاميرا الخفية، فالتافه – وهذه ليست شتيمة ولكنها وصف للحال لا أكثر – يقضي العام بطوله وعرضه يروّج لمساوىء الأخلاق، ويعمل بجد وإخلاص ليوصل رسالته إلى أكبر عدد ممكن من الخلق. ثم يأتي شهر رمضان ليكون شهر التتويج واحتفاء القنوات التلفزيونية به وتكريمه على «مُجْمَل أعماله». ولهذا الاحتفاء أشكال وصور عدة، تبدأ بتقليده وتمر بجعله ضيفًا يفتي ويعلم الناس كيف يعيشون وكيف يفترض أن يكون موتهم، وتنتهي بإشراكه في الأعمال الدرامية، على رغم أنه فقير الموهبة والفهم والحضور.
ربما كنا نبحث عن حل مواجهة هذا الطوفان من التفاهة في المكان الخطأ، فقد لا يكون لدى المخرجين والممثلين والمعدّين والمقدمين، ولا لدى القائمين على القنوات التلفزيونية ولا القاعدين عليها. بل قد يكون لدى علماء الطب والدواء، قد يكون المنقذ المخلِّص عالمًا يخترع يومًا دواء شافيًا يساعد الإنسان على هضم ما يراه من أعمال تلفزيونية تطارده في كل مكان حتى وهو يفر منها فراره من المجذوم.
وعلى أي حال فإني أعلم، كما تعلمون، أن الحديث عن هذا الأمر مكرَّر، ولكنّ الفضفضة هي آخر خطوط دفاع الإنسان عن عقله، وهذا ما أحاول فعله.
الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!