إلّا سيارتي أيها الأوغاد!

الحلم لا يعني عدم الغضب، ولكنه يعني التحكم فيه والسيطرة عليه. وأظن أن الجمادات -لست متأكدًا- هي فقط التي لا تغضب ولا تخاف.

دعونا نتفق مبدئيًّا على صحة القاعدة التي تقول: «مَن استُغضب فلم يغضب فهو حمار.» لأن عدم الغضب من التصرفات المستفزة، سلوك ينم عن تبلّد وبلاهة وغباء. وربما تكون هذه المكوّنات مجتمعة هي التي تجعل الإنسان غير قادرٍ على التفريق بين «كظم الغيظ» وبين الغيظ نفسه. فكما أن الشجاعة لا تعني عدم الخوف ولكنها تعني عدم إظهاره؛ فإن الحلم لا يعني عدم الغضب، ولكنه يعني التحكم فيه والسيطرة عليه. وأظن أن الجمادات -لست متأكدًا- هي فقط التي لا تغضب ولا تخاف.

ومن المنطقي والبديهي أن يكون حرق نسخة من المصحف بهدف الإساءة، عملًا مستفزًا محرضًا على الغضب. والغضب ليس من الشخص الأبله الذي حرق المصحف، لأنَّ الغضب من التصرفات البلهاء يعني أنَّه لا مجال للإنسان أن يجرب إحساسًا آخر غير الغضب؛ لأن الأغبياء -كما تعلمون- يشكلون الأغلبية السَّاحقة من البشر. ولكنه كان من توفير الحماية الحكومية بحجة الحريات له بطريقة بدت كاحتفاء بإنجاز.

والغضب ليس من أجل ورق المصحف؛ لأن القرآن نفسه موجود وباق، حتى لو أُحرقت كل الأوراق والأشجار. لكن حرق نسخة من المصحف عمل هدفه الاستفزاز. أراد مرتكبو هذا العمل أن يوصلوا رسالة تفيد بأنهم يكرهون هذا الكتاب، ومَن يؤمن به، ومَن يتشدد له، ومَن يدافع عنه. ومارسوا ذلك بكل حرية تحت حماية الدول التي يعيشون فيها، فلماذا يحرم الطرف الآخر من التعبير بحرية هو الآخر عن امتعاضه وغضبه، ويُطْلَب منه أن يتجاهل الأمر وكأنه لم يكن؟ أم أن الحريات طريق باتجاه واحد فقط؟ فالاستفزاز بالفعل حرية، وردة الفعل حتى بالقول عمل شائن.

وبات واضحًا أكثر مما ينبغي أن المعيار الوحيد المتاح الذي يحدد تصنيف تصرف ما على أنه حرية أم تطرف هو اتجاه الفعل. فإن كان من الغرب إلى الشرق فهو في الغالب تحضُّر وحرية دونها الموت الزؤام، وإن كان من الشرقِ إلى الغرب فهو تطرف وإرهاب وتخلف ورجعية.

ولا أخفيكم أني مللت ترديد هذا الكلام، لأنه من إيضاح الواضحات، لكن واحدة من معضلات هذا العصر أن البديهيات أصبحت عصية على الفهم. وحين قال الأخ أحمد بن الطيب: «وليس يصح في الأفهام شيء… إذا احتاج النهار إلى دليل»، فإنه حينها كان يتحدث من سعة؛ لأنه لو عاش ألف سنة إضافية لاكتشف أن النهار ليس بحاجة إلى دليل واحد فقط. وأن ظهور الشمس في كبد السماء لا يعني النهار بالضرورة، لأن من حق الشمس أن تعتبر أنَّها قمر، وأن الضوء الذي نراه ليس كافيًا للدلالة على النهار، لأننا لا نعرف الظروف التي نشأت فيها. وأن إصرارنا على ارتباط النهار بوجودها تعد على حريتها في الاختيار، فهي وحدها التي يحق لها أن تقرر أشمس هي أم قمر، وتحديد ما إذا كانت كروية أم مكعبة!

Giphy 39
معلّم الأمم / Giphy

لكني أظن أن أكثر ما كان سيدهش المتنبي هو رؤية الغربي، وهو يقدم نفسه للعالم بصفته معلمًا للأخلاق، هذا وضع أكثر بؤسًا من الحياة في كنف كافور. فمعلم الأخلاق هذا ليس سوى لص يطور أدواته، عاش غارقًا في الظلام والجهل والتخلف ما شاء الله له أن يعيش، ثم تحول إلى لصٍ يستعمر ويسرق ثروات الدول والشعوب ويحول أهلها إلى عبيد. ثم استقر به المقام حاليًا مروّجًا للفردانية والانحلال ومساوئ الأخلاق تحت عباءة الحريات. وكما قال عادل إمام في فلم عنتر شايل سيفه: «في الأولى حمار، وفي التانية حمار، وفي التالتة برضك حمار.»

والحقيقة أني مع كل هذا لا أخفي أني أحمل قدرًا من الامتنان على الإسهامات العلمية والتطور الصناعي الذي جعل حياة الناس أسهل. لكن الثمن كان باهظًا جدًّا، لأن هذا الثمن فيما يبدو هو تقليل الفوارق بين الإنسان والدواب، حتى تكاد تلك الفوارق تزول في المجال الأخلاقي والإنساني. وسرقة شعوب الأرض وإخضاعها وجعلها تعيش في دائرة من التخلف لا تكاد تنتهي، كان أهم الأركان التي قامت عليها الثورة الصناعية. وكأن إنسان هذا العصر يصعب عليه العيش إلا بأحد خيارين، إما حيوانًا سعيدًا وإما إنسانًا بائسًا.

ولعلها مناسبة أن أتذكر كم كنت محظوظًا بتبعات الحرب الروسية الأوكرانية، أو الحرب الكاشفة التي بينت أن الحريات صنم تعبده أوربّا إلهًا لا شريك له في وقت السعة، وتلعنه وتكفر به وقت الشّدة. فقد نويت استثمار ثروتي في أوربا، لأنها بدت لي حينها بيئة آمنة للاستثمار لا يؤثر فيها حدث، ولا تهزها حادثة، لأن حرية التملك إحدى الحريات التي كررها الغرب على مسامعي حتى قلت ليته سكت. ثم اكتشفت أنهم حين يغضبون يتحولون إلى لصوص جهارًا نهارًا، ويصادرون أملاك الآخرين دون أن يرف لهم جفن، كما فعلوا مع ثروات الزملاء الروس الذين صدّقوا كما صدّقت.

ولكن لطف الله حماني، فبدأت الحرب قبل أن أنتهي من دفع الأقساط، وأبدأ في بيع أصولي المكونة من سيارة كورية الصنع موديل 2019. كنت سأشعر بما شعر به الروس حين أنظر إلى ملك بريطانيا، وهو يتجول بسيارتي دون أدنى شعور بالذنب.

الإسلامالحريةالحضارة الغربيةالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!