يد الخوف الأعظم: نيكول كراوس وكسر أنماط التفكير المدمرة

كتب فان قوخ رسالة لأخيه عام 1844 حول ضرورة المجازفة في الحياة. وفي 2015 أجابت نيكول كراوس قوخ برسالة حول ضرورة كسر أنماط الخوف أولًا.

اشترك في نشراتنا البريدية

يمكنك أن تختار ما يناسبك من النشرات، لتصلك مباشرة على بريدك.

أهلًا بك صديقًا لنا،

وصلتك الآن رسالتنا الأولى على بريدك الإلكتروني.

إذا لم تجدها ابحث في رسائل السبام وتأكد من اتباع الخطوات التالية في حسابك على خدمة بريد «Gmail» حتى تُحررها من التراكم في فيض الرسائل المزعجة.

* تعبّر النشرات البريدية عن آراء كتّابها، ولا تمثل رأي ثمانية.

في قصيدتها «الرحلة» (The Journey)، تشبّه ماري أوليفر المخاوف التي كانت تحول بينها وبين تركها بيت عائلتها حيث عاشت معاناة قاسية واتخاذها قرار المضيّ قدمًا في حياتها بأيادٍ تتشبث بقدميها، تنشب أظفارها في كاحليها حتى بعد أن تجاوزت الباب. فذي طبيعة الخوف، أيادٍ تشلك عن الحركة، عن رؤية ما يتجاوز محيط واقعك الضيّق، عن استيعاب الحقيقة الأبدية: أنَّ كل شيء قابل للتغيّر

وأيادي الخوف كثيرة: الخوف من المجازفة واتخاذ قرار، الخوف من ارتكاب الأخطاء، الخوف من فقدان السيطرة لدى مواجهة مشاكل الحياة، الخوف مما يظنه الآخرون بنا، الخوف مما نظنه نحن عن أنفسنا، والأخيرة هي يد الخوف الأعظم، لأنها اليد التي تعمي عقلنا عن رؤية النمط المدمر الذي حبسنا فيه أفكارنا، وتحول دون كسرنا الحلقة والخروج منها.  

قصيدة ماري أوليفر ورحلة حياتها تنتهي بالانتصار على مخاوفها وبناء حياة جديدة على الصورة التي تحب. لكن ليس الشّعر وحده من يحمل لنا الأمل في التخلص من مخاوفنا، بل الرسائل أيضًا. 

رسائل فان قوخ

لم يترك الرسّام الهولندي الشهير فنسنت فان قوخ خلفه لوحات مذهلة فحسب، بل إرثًا إنسانيًّا من الرسائل التي أرسلها إلى عائلته وأصدقائه، حُفظت ضمن أهم كتب أدب الرسائل. ومثلما احتفت المتاحف بلوحاته، احتفى متحف فان قوخ في أمستردام برسائله.

وفي معرضٍ خاص أقيم عام 2015 طُلب من ثلاثة وعشرين فنانًا معاصرًا اختيار رسالة والرد عليها إما بمنحوتة أو رسمة أو قصيدة أو صورة أو رسالة. والرسالة كان خيار الروائية نيكول كراوس. 

اختارت نيكول كراوس رسالة أرسلها فان قوخ إلى أخيه عام 1844، يحدثه فيها عن الخوف والمجازفة. ما إن قرأتها، فورًا راودها الإحساس وكأنها هي المرسل إليه الأصلي، والرسالة أخيرًا وجدت طريقها إليها بعد 171 عام. وبما أنها استلمت الرسالة، فكان لا بدَّ من الرد عليها برسالة لا تقل عنها إلهامًا واستكشافًا للذات.

رسالة نيكول كراوس إلى فان قوخ

عزيزي فنسنت،

تكتب عن الخوف: الخوف من قماشة الرسم البيضاء، لكن أيضًا، وبصورة أشمل عن «العبثية اللانهائية، الجانب المثبط الأبيض» الذي دومًا ما تديره الحياة نحونا، والذي لا يمكن للإنسان مواجهته إلا «بالتدخل وفعل شيءٍ ما» عندما «يكسر» و«ينتهك». 

إن قراءتي رسالتك الآن لأمرٌ غير عادي. فهذا ذات فعل «الكسر» الذي لم أكف عن التفكير به منذ العام الماضي،  وأشعر بأن له دورًا بكل شيء يتعلق بالطريقة التي أريد أن أمارس بها فنّي، وأعيش بها.

غريبٌ عقل الإنسان، فرغم قدرته العظيمة وحريته اللامتناهية فالوضعيّة الأوليّة التي ما ينفك يعود إليها هي وضعيّة العمل بنمط متكرر. يراقب القمر والكواكب والأيام والفصول ودورة الحياة والموت، وكيف تدور جميعها في حلقة لا نهاية لها؛ وبلا وعيٍ منه، إذ يظن نفسه «الطبيعة»، يحاكي العقل نمط هذه الحلقة. تدور أفكاره في حلقات، يكرر أنماطًا ترسَّخت منذ زمن طويل، وعلى الأغلب لا يمكننا تذكر أصلها، أو لماذا كانت من الأساس منطقية لنا.  

وحتى حين تفشل هذه الحلقات مرارًا وتكرارًا في البلوغ بنا إلى المكان المنشود، حتى حين تحاصرنا، وتشعرنا دومًا بالأسى المنهِك من أنفسنا، وينبئنا حدسنا أنَّ التمسك بمسارها البالي يعني أننا سنفقد الاتصال بالحقيقة كل مرة، مع ذلك كله، لا نزال نجد من شبه المستحيل مقاومتها.

نحن نسمي أنماط التفكير هذه «طبيعتنا»، ونسلم أمرنا لها لتتحكم بنا كما لو أن تلك الأنماط نتيجة قوة خارجية. مثلما تُحكَم البِحار بواسطة قمرٍ بعيد لا صلة له بها – فكرةٌ سخيفة إذا ما حقًّا تأملتها. 

وبكل تأكيد، بوسعنا كسر هذه الحلقة و«انتهاك» ما يقدم نفسه لنا على أنه طبيعتنا، وذلك إن اخترنا التفكير – والرؤية والتصرف – بطريقة مختلفة. وقد يتطلب الأمر جهدًا وتركيزًا هائلين. لكن في معظم الأحوال ليس الكسل ما يمنعنا من كسر هذه الحلقات، إنما الخوف. أي يمكن للمرء أن يقول إن الخوف هو ذاك القمر الذي لا صلة له بنا ونسمح له بالتحكم  في الطبيعة الأكبر لعقولنا.

لذا قبل أن نصل إلى «الكسر» علينا أولًا مواجهة خوفنا. الخوف من أن تنعكس اللوحة الفارغة والجانب الفارغ من الحياة علينا فيشلّنا الفراغ كما تقول في رسالتك، كما لو كان الفراغ يخبرنا أنه لا يمكننا فعل أي شيء. فهو خوفٌ مجرَّد، رغم قدرته على اتخاذ عددٍ لا نهائي من الأشكال.

اليوم قد يكون الخوف من الفشل، والغد الخوف مما يظنه الآخرون عنا، وفي وقت مختلف لربما سيكون الخوف من اكتشافنا أن أسوأ الأشياء التي نشك بها في أنفسنا صحيحة. يقول حبيبي: إن الخوف، والذي دومًا ما يبدو حاضرًا عندما يستيقظ المرء في الصباح فيشعر به في الجوف بين ضلوعه (فوق بطنه وتحت قلبه) إنما يأتي  من «العالم الآخر»، عبارةٌ دومًا ما تجلب الدموع إلى عينيه، ويعني بها إدراكنا لمحدوديتنا وافتقارنا إلى اللانهائية والأبدية. 

أعتقد أنه على حق، لكني أيضًا أود أن أضيف إلى ما قال أنَّ الخوف استباقيّ ودائمًا ما يأتي دونما معرفة، عمليةٌ ذهنية تعتمد على كون المستقبل مجهولًا. فالإحساس بالخوف هو ذات الإحساس بالوقوع في قبضة اقتناعٍ يستحيل نقضه. فخوفك من تحطم الطائرة هو، بمعنى ما، افتراضك أن الطائرة حتمًا ستتحطم.

وحتى لو تمكنا من التخلص من الأشكال العديدة التي يتخذها خوفنا والوصول إلى مصدره الأساسي -فناؤنا وانقسامنا عن اللانهائي- سنكتشف أيضًا أن خوفنا لا يعتمد على المعرفة الفعلية، على خلاف الجزء منا الذي يختار أن يكون حرًّا. فالشجاعة دومًا أكثر ذكاءً من الخوف، لأنها مبنية على أساس ما يعرفه المرء عن نفسه: معرفته بقوته وقدرته، وشغفه.

يشبه إلى حدٍّ كبير ما ضمَّنته  في رسالتك: «مهما بدت الحياة تافهة وفارغة، مهما بدت ميتة، فالإنسان المؤمن المفعم بالحيوية والدفء، من يعرف شيئًا، لا يترك نفسه تُخدَع هكذا» وأضفتَ أيضًا «بل يتدخل ويفعل شيئًا ما، ويتشبث به، باختصار هو يكسر وينتهك.» وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام اللوحة البيضاء. اللوحة الفارغة التي تعكس خوفنا، وفرصتنا لكسر خوفنا. 

تحياتي الخالصة، 
نيكول كراوس 

اقرأ المزيد في الثقافة
مقال . الثقافة

هوس الأطفال: «بابا، أبي أصير مشهور»

مع انفتاح بيوتنا على وسائل التواصل الاجتماعي امتدَّ هوس الشهرة إلى أطفالنا، فأصبحت غايتهم التي يسعون إلى تحقيقها رغمًا عنَّا أو بمساعدتنا.
مشاعل الدريعان
مقال . الثقافة

فلم «الأب»: حين تتداعى الأشياء

لا نستطيع التحديد إن كان فلم «الأب» عن الشيخوخة والخرف وتحديدًا الزهايمر. لكن ما نعيشه يقينًا الوحدة والقلق الوجودي.
إيمان العزوزي
مقال . الثقافة

كيف نضبط مؤشر الثقة بالنفس؟

لديّ هاجس دائم بأني غير مقبولة، بأني لا أنتمي للمكان ولا أستحق النجاح. لكني تعلمت مع الخبرة كيف أدحض هواجسي وأضبط مؤشر الثقة بالنفس.
هيفاء القحطاني
مقال . الثقافة

جوان ديديون: عن معنى الحزن بعد الفقد

تصف جوان ديديون في مقالها «ما بعد الحياة» محاولاتها استيعاب موت زوجها الفجاء، وكيف للحزن بعد الفقد أن يأخذ أشكالًا أبدًا ما تصورناها.
إيمان أسعد
فلم . الثقافة

سلمان ابن البلد

سلمان عمراني، ابن البلد كما يقول. 34 سنة في السعودية، عاشها في أحد الأحياء القديمة في مدينة الرياض. سلمان سعودي المنشأ واللسان والعادات والقيم، باكستاني الجواز أو الجنسية. سمّي تيمنًا بالملك سلمان الذي كان حينها أمير منطقة الرياض، فعندما أتى والده سنة 1967، في عهد الملك فيصل، فلاحًا ومزاعًا، كان يبيع في بسطات الخضار، ويعمل بالأجرة اليومية، ويعول عائلته، زوجته وابناءه الأربعة. هذا السيناريو ليس الوحيد من نوعه، بالطبع سمعته كثيرًا في حياتك اليومية إذا سألت عاملًا في الأنحاء.
عبدالرحمن أبومالح
مقال . الثقافة

السردية السياسية في الفنّ العربيّ الحديث: الفنّان يخبرنا بما حدث

تحول الفن العربي من فن يُتذوق جماليًا فقط ليصبح أداةً نضالية لرفض الظلم والعدوان بكافة أشكاله، فيعبر عن مرارة واقعه وعن توقه إلى السلام.
غدير صادق